مقالات



الحديث الملكى ومراكز الفكر العربية

12-4-2018 | 21:49
الدكتور الشيخ عبد الله بن أحمد آل خليفة

رئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات الإستراتيجية والدولية والطاقة

كان حديث جلالة عاهل البحرين لبعثة "الأهرام" أخيرا، مكثفا ودقيقًا، فى تشخيص أوضاع المنطقة التى تعيش حالة اضطراب شديد، وبيان تطورات الأمن القومى العربى وتحدياته، فى ضوء العديد من المخاطر الأمنية غير التقليدية، الأمر الذى يتطلب تكاتف العرب جميعًا، والوقوف فى خندق واحد، لرسم إستراتيجية مناسبة جديدة، بعيدًا عن الإستراتيجيات القديمة المستهلكة.

وعرج الحديث السامى إلى العلاقات الفريدة والمتميزة بين مملكة البحرين ومصر،كنموذج متقدم للعلاقات الوثيقة بين الأشقاء، تعبر عما يجمعهما من علاقات تاريخية وإستراتيجية متنامية ومتطورة، وثوابت أصيلة وقواسم مشتركة على كل المستويات. فقد كانت المملكة من أوائل الدول التى ساندت وأيدت قولاً وفعلاً، ثورة 30 يونيو، لاستعادة مصر استقرارها وأمنها، وخط الاعتدال والوسطية، إلى جانب تحقيق الإصلاح الاقتصادى كى تعود إلى ريادتها ودورها الإقليمى المحوري. 
 
ومن هذا المنطلق، فقد حرص جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك مملكة البحرين حفظه الله، على دعم مصر فى جميع المحافل، والمشاركة فى حفل افتتاح قناة السويس الجديدة، ومؤتمر مصر الاقتصادي، لأن مصر هى عمق العرب الإستراتيجي، وسند وقوة لكل العرب. وفى المقابل أعربت مصر بحزم ووضوح، بأن أمن منطقة الخليج العربي، ووقف التدخلات الإيرانية فى الشئون الداخلية لدول المنطقة،يعتبر جزءًا من أمنها القومي.
 
وتطرق جلالة الملك خلال الحوار إلى الحاجة إلى منظومة فكرية تدرس وتطرح إستراتيجيات علمية وعملية، لمواجهة التحديات الأمنية، وأهمية اعتماد صانع القرار على مراكز الفكر والدراسات فى رسم خطط العمل واقتراح السياسات، داعيا جلالته فى هذا الصدد إلى تعزيز التعاون المشترك بين مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، ومركز البحرين للدراسات الإستراتيجية والدولية والطاقة "دراسات"، وكذلك بين جميع المراكز الفاعلة فى الوطن العربي، لرسم الإستراتيجيات طويلة الأجل.
 
وإجمالاً، فقد رسم جلالة عاهل البحرين، خلال الفترة الماضية، خارطة طريق عربية متكاملة، من أجل نهضة حقيقية، تستند إلى أسس راسخة، ورؤية مستنيرة، ترتكز على الآتي:
أولاً: توحيد الكلمة وتقوية الصف، بما يجسد الالتزام الثابت تجاه قضايا الأمة العادلة، ومواجهة التحديات الراهنة بإستراتيجية شاملة، تحقق المصالح المشتركة، وتعالج الأزمات المتفاقمة.
ثانيًا: العمل على تعزيز التعاون والتكامل العربى لاستدامة التنمية الشاملة، وذلك من خلال تهيئة بنية تحتية مؤهلة، وبيئة استثمارية محفزة، لإنجاز مشاريع مثمرة فى مختلف المجالات. 
ثالثًا: الحاجة إلى نهج شامل، أكثر من مجرد تدابير أمنية، يتصدى للحروب الفكرية، من خلال إرساء مفاهيم الوسطية والتسامح فى مجتمعاتنا، واحترام الحريات، وقبول الآخر وفق مبدأ التنوع فى إطار الوحدة.
رابعًا: إن جهود القضاء على الإرهاب لا تنجح إلا باتخاذ الإجراءات الكفيلة، لرد جميع أشكال التدخل فى الشئون الداخلية، وخاصة التدخلات الإيرانية والقطرية.
خامسًا: الأمة العربية ثرية بإمكاناتها البشرية والفكرية، ومكانتها الحضارية وعمقها التاريخي، وموقعها الإستراتيجي، ومواردها المتنوعة، وينبغى إتاحة الفرصة لشراكة المرأة، ومشاركة الشباب فى صناعة الغد.
 
وفى هذا الإطار، تتطلع البحرين إلى بناء نظام أمنى إقليمى متوازن وفاعل، يتكامل فيها الأمن والتنمية، ويستند إلى مبادئ الإصلاح، والتنمية المستدامة، ومحاربة التطرف والإرهاب بمختلف أشكاله، وعدم التدخل فى شئون الدول الأخرى، وتعزيز الشراكات الإستراتيجية.
 
ولاشك أن هذه الرؤية الحكيمة، والدعوة السامية من زعيم عربى يحمل دائما هموم أمته، تضع مراكز الدراسات العربية الفاعلة والمؤثرة أمام مسئولية جسيمة، ومهمة كبيرة، لتصبح أحد مصادر دعم عملية صنع القرار، وأن تشكل رافدًا فى طرح الإستراتيجيات العملية التى تلائم الواقع العربى بأزماته المتعددة وتحدياته المتصاعدة، وذلك من خلال أمرين رئيسيين أولهما: بلورة فكر إستراتيجى عربى قادر على مواكبة المتغيرات الجارية، والتهديدات القائمة لاسيما مشاريع التوسع والتقسيم الخارجية، وثانيهما: توطيد وتنويع التعاون والتنسيق بين مراكز الدراسات لتبادل الرؤى والخبرات، فى خضم بيئة عالية المخاطر، وتغيرات نوعية، وإعادة تقييم مفهوم "الأمن القومي".
وتكمن خطورة التحديات الأمنية العربية أنها مترابطة فى سلسلة حلقات متصلة، يأتى فى مقدمتها خطر نظام ولاية الفقيه فى إيران الذى يتبنى مشروعا عقائديا بعيد المدى منذ عام 1979 يستهدف السيطرة على المنطقة، ويعتمد على أدوات وآليات غير مشروعة كإنشاء الميليشيات المسلحة، والتمويل والإعلام الموجه، كما حدث فى لبنان والعراق وسوريا واليمن، واستمر هذا التورط باستهداف العديد من الدول الخليجية والعربية. 
 
وتكشف تصريحات المسئولين فى طهران أن دول المنطقة تدخل ضمن ما يسمى "المجال الحيوي" الإيراني، لذلك لم تتورع إيران وشبكة ميليشياتها عن تهديد الأمن العربي، فقد استبدلت محاولاتها لامتلاك السلاح النووى مؤقتا بمنظومة الصواريخ الباليستية، وسعت لنشر أفكار التطرف فى المجتمعات العربية، وهناك دلائل وتقارير عديدة على أن إيران تقف وراء إنشاء وتمويل العديد من جماعات الإرهاب من أجل تحقيق أهدافها ومخططاتها.
ولم تتوقف إيران عن تهديدها للأمن البحرى وإمدادات الطاقة، من خلال التلويح مرارا بإغلاق مضيق هرمز، إلى جانب تهديد ميليشيات الحوثى التابعة لها بعرقلة الملاحة الدولية فى مضيق باب المندب.
ويمثل سلوك النظام القطرى غير المسئول، مصدرًا آخر لزعزعة استقرار دول المنطقة، من خلال استغلال ثروة الغاز،وجماعات الإرهاب، ووسائل الإعلام، ومنظمات حقوقية مشبوهة، لتحقيق هذا الغرض. وبالتالى لم يكن مستغربا انخراط قطر فى مشاريع الإرهاب والتقسيم.
 
ويأتى خطر الإرهاب كضلع ثالث فى مثلث الشر مع صعود التنظيمات والميليشيات الإرهابية، التى لا تعترف بحدود الدول وسيادتها، وتعتنق أيديولوجيات متطرفة عابرة للحدود، وتتبنى ثقافة العنف الديني. وفى الوقت ذاته يمثل وسيلة ونتيجة للتحديين السابقين، بالإضافة إلى أوضاع اقتصادية واجتماعية تحتاج إلى معالجات وإصلاحات جذرية وسريعة. 
ولأن منطقة الشرق الأوسط هى مهد الأديان السماوية، فإن للعقائد والقيم الروحية قوة كبيرة، فهى تعكس المصدر الأسمى للخير والسلام. لكن بعض النظم والجماعات المارقة، سعت إلى توظيف الدين من أجل تحقيق أهدافها غير المشروعة، وارتكاب الجرائم باسم الإسلام. 
 
ولم يكن من قبيل المصادفة، أن يتحدث الرئيس السيسى عن "أهل الشر" و"حروب الجيل الرابع" لزعزعة استقرار مصر والدول العربية، وحاليا تقوم القوات المسلحة المصرية بعملية شاملة ضد الإرهاب فى سيناء تكللت بالنجاح، فى حين تقود المملكة العربية السعودية "التحالف الإسلامى العسكرى لمكافحة الإرهاب"، والذى يحمل رسالة مباشرة بأنه لا يمكن السماح أو القبول بتهديد أمن المنطقة.
 
هذه التحديات وغيرها، تتطلب منهجية جديدة من جانب مراكز الدراسات والبحوث لرفد المواجهة الدائرة، بالرؤى والمقترحات النوعية، التى تسهم فى احتواء الخطر الإيراني، وإنهاء العبث القطري، والقضاء على مسببات الإرهاب وبؤر انتشاره.
 
وغنى عن البيان أن امتلاك المعرفة وحسن توظيفها،واستشراف المستقبل، وبناء الإستراتيجيات،أصبح معيار قوة الدولة، حيث لجأت الدول المتقدمة إلى مراكز الدراسات كأداة مهمة فى بناء الوعى، وإنتاج الأفكار، وتقديم الخطط والإستراتيجيات المتكاملة. وفى المقابل لم تبد معظم الدول العربية اهتماما كبيرا بمراكز البحوث، تأهيلا وإنتاجًا ومشاركة،ومن ثم غابت عن المساهمة الملموسة فى صناعة السياسات العليا.
 
والمفارقة، أن جذور مراكز الأبحاث العلمية كانت عربية النشأة،عندما أسس الخليفة هارون الرشيد فى بغداد "بيت الحكمة" كنواة أولى لمركز أبحاث، بدأ كمكتبة عامة مفتوحة أمام طلاب العلم، وتوسعت لتصبح مركزًا للترجمة، ثم مؤسسة للبحث العلمى والتأليف، وتمنح الإجازات العلمية. وفى عهد المأمون شهد "بيت الحكمة" أزهى فتراته، ونجح فى تحقيق التراكم المعرفي.
وبالتأكيد، فإن هناك استثناءات مهمة خارج هذا التعميم مثل: مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، ومركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، ومراكز متخصصة بالمملكة العربية السعودية، وكذلك مركز البحرين للدراسات الإستراتيجية والدولية والطاقة "دراسات"، والذى حظى برعاية سامية منذ بداياته، وتشرف برئاسة سمو ولى العهد فى منتصف تسعينيات القرن الماضي، لدعم رسالته وتحركاته، وصولا إلى ضمان استقلاليته، لتحقيق أهدافه المنشودة.
 
وسعى مركز "دراسات" إلى تقديم الدعم والزخم لجهود الدول المعتدلة التى تكافح الإرهاب، حيث ساهم فى عقد مؤتمر "التحالفات العسكرية فى الشرق الأوسط" فى أكتوبر 2017 تزامناً مع معرض البحرين الدولى للدفاع، وقد أجمع المشاركون فى المؤتمر على أن التحالفات العسكرية تلعب دورا أساسيا فى مواجهة خطر الإرهاب. كما نظم منتدى "دراسات" فى نسخته الأولى بعنوان "قطر عراب الفوضى والأزمات فى الشرق الأوسط" فى يناير الماضي، والذى طالب المجتمع الدولى بالتحرك الجاد للتصدى لممارسات قطر، وفرض رقابة صارمة على مواردها المالية.ومؤخراً دشن المركز كتابه الجديد "العدوان القطرى على الديبل عام 1986م" والذى يتناول ويوثق أحداث العدوان القطرى المسلح على ضحال الديبل التابع لمملكة البحرين.
ولم يغفل المركز الشأن المحلي، وهو أمر بالغ الحيوية، فكان التركيز على مفهوم الشراكة المجتمعية، وتقديم إسهاماته وإمكانياته، كبيت خبرة وحليف إستراتيجي، لدعم جهود التنمية المستدامة، وبناء القدرات والشراكات الوطنية.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام