الملفات



حليم.. صوت العروبة

28-3-2019 | 19:23
ملف يكتبه - أحمد السماحى

« ذكريات» من كلمات الشاعر أحمد شفيق كامل وألحان عبد الوهاب فيها من الماضى عبر ومن التاريخ صفحات 
 
عبر عن آمال وأحلام وطموحات الشعوب فى الحرية والاشتراكية والتحرر والاستقلال
 
«يا جمال يا حبيب الملايين» رددتها الجماهير العربية فور إذاعتها، وأصبحت الأغنية المفضلة بالنسبة لكثيرين لروح التفاؤل التى تسودها ولحنها البسيط الذى يدخل القلب دون استئذان
 
فى ذكرى رحيله الـ 42 لا تزال لدينا حاجة لسماع صوت عبد الحليم حافظ العروبى، فقد رحل عنا فى الثلاثين من مارس 1977 بعد أن ترك لنا آثاراً من العلاقة بين الغناء الوطنى والتاريخ السياسى، حيث ارتبط العندليب عبد الحليم حافظ بثورة يوليو 1952، فكان نبضها وخير معبر عن عصرها، واعتبر مطربها الأول لأن ظهوره الحقيقى كان متزامنا مع بدايتها، فأصبح صوته هو «صوت الثورة» الحقيقي، وكانت أغنياته السياسية أغنيات صعود هذه الثورة، وسجلها الذى ينطوى على انتصاراتها وأمانيها العظيمة منذ انفجارها، حتى انكسارها العظيم والأليم فى يونيو 1967، فبعد تقديمه لأغنيته الأولى لثورة يوليو «موكب النصر» غنى بعد ذلك مع المطربة عصمت عبد العليم أغنية «العهد الجديد» تأليف محمود عبد الحي، وتلحين عبد الحميد توفيق زكي، وتغنى فيها بشعار «الاتحاد والنظام والعمل» الذى نادى به الرئيس محمد نجيب، وتبدأ الأغنية بصوت المجموعة يقول:
«حيوا فجر البعث فى يوم الخلود واطلبوا الآمال فى العهد الجديد» ويختم عبد الحليم النشيد بهذا الكوبليه: «وشباب النيل، للنيل فداء، يبذل الروح له بذل السخاء، وشعار العهد من نورالأمل، اتحاد ونظام وعمل، نبلغ المجد بها فى العالمين».
 
فى هذه الفترة ارتبط عبد الناصر بحركات التحرر الوطنى فى كل مكان على امتداد الكرة الأرضية التى نهضت شعوبها المقهورة مستعيدة حريتها من براثن الاستعمار القديم الذى ظل مهيمنا عليها، وأصبحت صور عبد الناصر فى كل مكان، حاضرة مع قيادات التحرر الوطنى التى عرفته واستلهمت أفكاره، ومضت فى خطى طريقه الواعد بالحرية الوطنية والعدالة الاجتماعية، كان عبد الحليم حافظ ومعه كوكب الشرق أم كلثوم جناحى عبد الناصر اللذين طار بهما إلى الجمهور العريض، وسخرهما لخدمة الثورة والتغنى بأهدافها ومشروعاتها، ومن هذه المشروعات حلم القومية العربية الذى رفعه وآمن به الرئيس جمال عبد الناصر، فجاء الغناء خلال تلك الفترة تعبيراً قومياً وعربياً عن آمال وأحلام وطموحات الشعوب العربية، بدءاً من الحب والعشق والغرام، ونهاية بالحرية والاشتراكية والوحدة العربية، لذلك كان هذا الغناء مفعماً بهذه المعانى وهذه القيم، وسدت فكرة القومية العربية فراغا فى الذات العربية، ودفعت العرب لأن يمضوا بحلمهم نحو إقامة وطن عربى موحد، لا حدود سياسية فيه، ألهبت فكرة القومية العربية العرب جميعا، ووجدوا فيها ضالتهم فى مقاومة الاستعمار «الإنجليزي/الفرنسي/الإيطالي» باتحادهم جميعا.
 
ثورتنا المصرية ومؤتمر باندونج
سيطرت فكرة القومية العربية على وجدان حليم ووجد فى شخص وأفكار عبد الناصر ضالته، وبدأ فى ضخ الكثير من الأغنيات القومية التى روجت لفكرة الزعيم ولفكرة القومية العربية، وكانت أولى أغنياته فى هذا الاتجاه عام 1955 بعنوان «ثورتنا المصرية» كلمات مأمون الشناوى وتلحين رؤوف ذهني، وتتحدث الأغنية عن عزيمة الأحرار وأيدى الثوار التى شتت الأشرار وجيوش الاستعمار، وقام المطرب بغنائها عام 1955  بعد حضور الرئيس مؤتمر «باندونج» فى شهر  إبريل، وهو أول مؤتمر لحركة عدم الانحياز التى سطع فيها حضوره إلى جانب حضور سوكارنو «إندونيسيا»، وشوين لاى «الصين»، وتيتو «يوغوسلافيا»، ونهرو «الهند»، وفيها ترجم «الشناوي» أفكار عبد الناصر التى نادى بها فى المؤتمر فى الكوبليه الذى يقول: 
«عواطفنا الدولية لسلام البشرية 
وجيوشنا نسلحها لحماية الحرية
لا لكتلة شرقية ولا كتلة غربية 
 للأمة المصرية وأخواتها العربية
والعزة القومية / ثورتنا المصرية»
 
يا جمال يا حبيب الملايين
بعد تحقيق وحدة مصروسوريا الذى تم فى فبراير1958، أصبح جمال عبد الناصر رئيسا للجمهورية العربية المتحدة، وزار عبد الناصر دمشق، حيث تم التوقيع على قيام دولة الوحدة، ثم انطلق يجول فى أنحاء سوريا، وسط استقبالات شعبية غير مسبوقة فى حشودها الأسطورية وعواطفها المتفجرة المعبرة عن تشوقها إلى قيام «دولة قومية تحمى ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تشد أزر الصديق وترد كيد العدو»، قامت دولة الوحدة باسم «الجمهورية العربية المتحدة» من إقليمين: مصر وسوريا، مع الإعلان عن أنها مفتوحة لانضمام من يريد تدعيم الروابط القومية من الأقطار العربية.
وفى عيد الثورة السادس كتب الشاعر «إسماعيل الحبروك» المؤمن بصدق البطل الذى أصبح زعيما للعرب، الذى أكد لمصر هويتها القومية، ولحن «كمال الطويل» بنفس الصدق رائعة عبد الحليم حافظ «يا جمال يا حبيب الملايين» التى رددتها الجماهير العربية فور إذاعاتها، وأصبحت هى الأغنية المفضلة بالنسبة لكثيرين، لروح التفاؤل التى تسودها ولحنها البسيط الذى يدخل القلب بدون استئذان وفيها تغنى حليم بالقومية العربية فقال: «صحيت الشرق بحاله ..  وديانه ويا جباله .
قام بشعوبه وأبطاله .. مع بطل الأمة العربية .
أنت اللى كسرت قيودنا .. وكسرت عدو بلادنا
طلعنا الفجر بإيدنا ..فجر القومية العربية.. إحنا الملايين .. إحنا الملايين ..وبقينا شعوب حرة قوية»
 
الوحدة أو الوطن الأكبر
مع ولادة الجمهورية العربية المتحدة، انطلقت الأغانى الوطنية مرحبة بهذا الإنجاز الذى كان حلماً للكثير من العرب، وكان الموسيقار محمد عبد الوهاب من المرحبين بهذه الوحدة، فقدم فى العيد الأول للوحدة عام 1959 نشيده الشهير «الوحدة» كلمات الشاعر أحمد شفيق كامل، الذى عرف فيما بعد واشتهر باسم «الوطن الأكبر»، حيث قام بغنائه عبد الحليم مع صباح وفايدة كامل، وشادية ونجاة ووردة وفيه تغنوا بالقومية العربية:
«قوميتنا اللى بنحميها اللى / حياتنا شموع حواليها جنة بتضحك للى يسالم  / وجحيم ثاير على أعاديها
شوفوا بيروت بعد العدوان / الاستعمار فين والطغيان
كبر الشعب وقوته سادت وبورسعيد حكايتها اتعادت
وحدة مصر وسوريا / عاش وانتصر الشعب العربي»
 
هنا حضن القومية العربية
وفى هذه الفترة أى عام 1960 كان أكبر احتفال تشهده مصر، هو الذى يقام ليلة الثالث والعشرين من يوليو من كل عام، وكان إحياؤه قاصرا على الصفوة الممتازة من الفنانين الذين أنجبتهم أرضنا الطيبة، وكان عبد الحليم واحدا من هؤلاء، وفى عيد الثورة الثامن يحكى حليم «ذكريات» من كلمات الشاعر أحمد شفيق كامل، وألحان محمد عبدالوهاب، فيها من الماضى عبر ومن التاريخ صفحات، واندماج مع القومية العربية غنى العندليب قائلا:
«بعد طول الذكريات واللى فات من حكاية لحكايات
حسيت بطفولة أولادى وبقيت أتصور أحفادى
بتغنى وبتنادى بكرامة وسلامة، هنا وطن الحرية 
هنا حصن القومية  العربية
أحرار فى بلدنا فى دنيتنا ولا فيش فى سمانا إلا رايتنا 
أحرار ونحب الحرية لبلدنا ولكل الدنيا ولكل الأمة العربية»
 
حكاية شعب
وفى نفس العام 1960 يقدم ملحمة بديعة مؤثرة بعنوان «حكاية شعب» كلمات أحمد شفيق كامل، وألحان كمال الطويل، وفيها يقص علينا كفاحنا ضد الاستعمار وحكاية شعب كافح وانكتب له الانتصار، وفى نهاية الأغنية يؤكد وقوف العرب مع مصر فيغنى والشعب يردد معه بكل حماسة:
«والعروبة فى كل دار وقفت معانا
والشعوب الحرة جت على اللى عادانا
كورس: وانتصرنا انتصرنا انتصرنا»
 
صوت الجماهير
كانت فترة الستينيات مليئة بالوعود والأحلام، والشعب المصرى يعيش حالة من السعادة الغامرة برئيسه عبد الناصر الذى كان يردد دائما :»ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عهد الاستعباد»، فى هذه الفترة  يشارك حليم مجموعة من زملائه المطربين « محمد عبد الوهاب، شادية، فايزة أحمد، فايدة كامل، نجاة، غناء نشيد « صوت الجماهير» كلمات حسين السيد، ألحان محمد عبدالوهاب الذى يغنى فيه قائلا:
«يا شعوبنا الحرة يا عربية كافحى وزيدى ثبات وعناد
وإن كان فيه للغدر بقية نار الغدر حطبها رماد
نار بتصحينا نار بتقوينا مهما اتآمروا علينا مبادئنا بتحمينا
مابقاش فينا خضوع بابتسامات ودموع
توب الغدر بيفضح نفسه حتى ولو ملفوف بحرير
خط السير معلوم وطريقنا مرسوم
هو الوحدة والاشتراكية والاتنين هدف الجماهير»
 
غنى يا قلبي
 فى عيد الوحدة الثالث عام 1961، وبمناسبة مرور 3 سنوات على الوحدة، اشترك حليم فى حفل أضواء المدينة بنادى الضباط بدمشق مع نخبة كبيرة من المطربين منهم المطرب والملحن السورى رفيق شكري، ويومها غنى أغنية «غنى يا قلبي» كلمات أحمد شفيق كامل، وألحان محمد عبد الوهاب وفيها قال: 
«غنى يا قلبى وهنى الدنيا وقول مبروك
كبر البيت واتجمع شملك أنت وأخوك
قول للدنيا دا أجمل عيد
مصر وسوريا اتخلقوا جديد»
وفى نفس الحفل غنى حليم مع مجموعة كبيرة من المطربين العرب وهم «صباح، نجاح سلام، رفيق شكري، عبد الغنى السيد، فايدة كامل، نجاة، محمد قنديل، نشيد « الثأر» كلمات أحمد شفيق كامل، ألحان على إسماعيل، وفيه نادى بالثأر من فلول الاستعمار فى كل بلد عربي، وبعث صورة «صلاح الدين» من جديد:
كورس: يا أخى العربى فى كل مكان فى الوطن العربي
نارى بتنده اسمع صوت النار من قلبي
يا أخى العربى فى كل مكان، يا أخى العربى فى كل مكان
حليم: يا أخى العربى يا اللى اغتصبوا منك أرضك فى فلسطين
ياللى العالم نام عن حقك واحنا وحقك مش نايمين عايز تارك»
 
الجيل الصاعد
فى أعياد ثورة 23 يوليو سنة 1961، وفى حضور الرئيس جمال عبد الناصر، غنى عبد الحليم مع مجموعة من زملائه «محمد عبد الوهاب، فايزة أحمد، شادية، نجاة الصغيرة، وردة الجزائرية»، نشيد « الجيل الصاعد» كلمات حسين السيد وألحان محمد عبد الوهاب، وتناول فيه  القومية العربية أيضا وتقول بعض كلماته:
«عاش الشعب العربى كله شعب سلام وأمان
عاش الوعى العربى كله ثورة فى كل مكان
ثورة مارد للحرية هب ونادى للقومية
ردينا عليك يا جمال وإيدينا فى إيديك يا جمال
وطلعنا معاك يا جمال نبنى وياك يا جمال
حيوا معايا قولوا معايا عاش عبد الناصر عاش»
 
يغنى للجزائر ممسكا بيد «بن بيلا» و«جيفارا»
دامت ثورة التحرير الجزائرية طيلة سبع سنوات ونصف السنة من الكفاح المسلح والعمل السياسي، وانتهت بإعلان استقلال الجزائر يوم 5 يوليو 1962، بعد أن سقط فيها أكثر من مليون ونصف مليون شهيد جزائري، وطوال هذه السنوات لم تترك مصر ثورة الجزائر الوليدة، ففى فترة كفاحها المجيد والمشرف مع الاحتلال الفرنسي، أقيمت الحفلات الغنائية فى كل مكان،  وعندما تأكد انتصار الشعب الجزائري، وارتفعت أعلام النصر فى كل مكان، انطلق الغناء المصرى ليعبر عن مشاعر النصر والعزة والفخار التى تملكت كل المصريين، وكان العندليب من أوائل المطربين الذين تغنوا بمجد الجزائر، ففى حفل عيد الثورة فى نادى الشرطة يوم 21 يوليو 1963  الذى حضره الرئيس جمال عبد الناصر، قامت النجمة السينمائية شويكار بتقديم العندليب الذى قال: «كنت أتمنى اليوم أن أقدم أغنيتى الجديدة «المسئولية»، لكننى لم أتمكن من إكمالها، «عشان كده هغنى بالأحضان».
 
وبالفعل بدأ يغنى أغنيته الوطنية الجميلة، لكن فجأة حدثت فوضى فى المكان، وقال مذيع الحفل الإعلامى الكبير أمين بسيونى :»السيدات والسادة فى هذه اللحظات دخل ضيف جزائرى عظيم، من القطر الشقيق، من الجزائر، وصل الآن الكولونيل «هوارى بومدين» بصحبة المشير عبد الحكيم عامر، وتوقف الحفل دقيقتين أثناء غناء حليم دعاء أغنيته «بالأحضان» ثم استأنف الحفل الذى قدم فيه حليم أغنيته «أرض الجزائر» التى قدمها عام 1962 تحية للضيف الجزائرى هوارى بومدين ومن معه من الجزائريين.
وفى عيد الاستقلال الأول الذى أقيم فى عنابه عام 1963، أهدى العندليب الأسمر الجزائريين رائعته «أرض الجزائر»  كلمات «كمال منصور» وألحان «بليغ حمدي»، وقبل غنائها طلب من الحضور الوقوف دقيقة حداداً على أرواح الشهداء، وقال رددوا معي: «رحم الله الشهداء وعاشت الجزائر حرة مستقلة»، ثم غنى أغنيته التى يقول مطلعها:
«قضبان حديد اتكسرت/والشمس طلعت نورت
 أرض العروبة /أرض البطولة / أرض الجزائر»
 
وقد أنشد هذه الأغنية ممسكاً بيد الرئيس الجزائرى «أحمد بن بيلا» من جهة، وبيد «تشى جيفارا» من الجهة الأخرى، وقد استقبلته الجماهير الجزائرية بحفاوة بالغة، خصوصا بعد أن منعت أغنياته فترة طويلة فى المغرب، حيث اتهم بالوقوف مع الجزائر ضد المغرب أثناء حرب الرمال عام 1963، كما غنى مع صباح وشادية وفايدة كامل ونجاة بعد اعتزال وردة الغناء لفترة رائعته « الوطن الأكبر»، وقام الشاعر أحمد شفيق كامل بإضافة « كوبليه « جديد، لحنه عبدالوهاب عن الجزائر قام بغنائه حليم يقول فيه:
«وطنى وعزة شعب جزايرك، وانتصاراته الغالية بأمرك
 لا الإرهاب ولا جيشه السرى، يقدر ياخد شبر فى أرضك
 لو جابو نابليون قدامنا، أسهل من تقسيم جزايرنا
 لو نستشهد كلنا فيها، راح ينسفهم حصى أراضيها... ويعيش حر الوطن العربى».
وبعد نجاح أغنية «أرض الجزائر» الساحق خصصت له الرئاسة بأمر من الرئيس أحمد بن بيلا – يوم ذاك – سيارة وموكباً خاصاً يرافقه.
 
يدعم ثورة اليمن
فى نفس الوقت وفى  26 سبتمبر 1962 تفجرت ثورة اليمن، وتولى الجيش بقيادة «عبد الله السلال» مقاليد الحكم، بمشاركة بعض القوى السياسية، فاندفع جمال عبد الناصر يحمى ثورة اليمن التى استنجدت به، فأرسل قوات من الجيش المصرى لتقاتل، وحذر عبد الناصر من تدخل أى قوات أجنبية فى اليمن، وعند عودة جنودنا من الحرب إلى أرض الوطن استقبلهم عبد الحليم بأغنيته الجميلة «يا حبايب بالسلامة» كلمات حسين السيد وألحان محمد عبد الوهاب وفيها يقول:
بالحضن يا حبايبنا / يا حياتنا يا شبابنا 
اليوم دا يوم عيدنا / والورد مواعدنا
يملا عيون الدنيا فرحة وابتسامة
كل العرب إخواتكم / عايشين فى انتصاراتكم
عرفوا تضحياتكم / وشهامة عروبتكم 
عشت يا جيشنا العربى وتحيا الشهامة»
 
المسئولية والفوازير
فى يوليو من عام 1963 يعاود الثلاثى صلاح جاهين وكمال الطويل وعبد الحليم التعاون مجددا، ويقدموا لنا رائعة وطنية جديدة بعنوان «المسئولية» وفيها يصل الحلم القومى إلى ذروته، خصوصا بعد صدور ميثاق العمل الوطنى فى مرحلة التحول الاشتراكي، وإعلان الاتحاد الاشتراكى العربي، وانتخاب لجنته الأساسية، وتتجه الأغنية، وكما يقول الدكتور والكاتب الكبير «جابر عصفور» إلى عضو متخيل، تم انتخابه فى اللجنة الأساسية، وتنطلق كلمات العضو بأحلام صلاح جاهين ولسان عبدالحليم فيريان بأعين الخيال تحقق أحلام جيلهم الذى آمن بالناصرية إيمانا عميقا صادقا مخلصا:
«شـايفيـن رايتنـــا ف حضــن النسمـة
 مـرفـرفــة بستـاشر نجـمـــة
 علـى مـدينة عـربية 
معـرفـش مـن أى الأقـطـار 
حريـــة ، واشتراكيـــة ، ووحــدة 
مكتــوب حروفهـــا بمليون ورده 
علـى صـــدر بلـده عربيـة 
معــرفـــش مـن أى الأقطـار
 صناعة كبرى، ملاعـب خضـرا 
تمـاثيـل رخـام ، ع الترعــة 
وأوبـرا فــى كــل قريـة عربية 
دى مـاهيــش أمـانـى  وكـلام أغانـى 
 ده بـر تانــى قصـادنـا قــريـب يـا معـداويـة»
وفى نفس العام 1963 يقدم أغنية جديدة أو فزورة، ويطلب من الجمهور حلها، وفى نهاية أغنية « الفوازير» التى كتبها مرسى جميل عزيز ولحنها محمد الموجي، يتغنى بزعيم القومية العربية «أبو خالد» الذى كان يؤمن إيمانا كاملا بوحدة القوى الوطنية والقومية فى مواجهة المستعمرين فيقول:
«جانا بطل إنسان، بطل خللى اليأس حماس وأمل
 خللى الضعف كفاح وعمل قال لليل الظلم ارجع
 قال لنور الحق اطلع قال لكل الدنيا تسمع
صوت الثوار ع العبودية صوت الأحرار والحرية
صوت القومية العربية بيهز الأرض بالطول والعرض
وبطلنا أبو الأبطال أسمر فى جبينه هلال اسمه عارفاه الدنيا
حد ما يعرفش جمال»
 
بستان الاشتراكية
فى 14 مايو 1964 يتم تحويل مجرى النيل، وما كان لإنجاز كهذا أن يمر دون أن تسجله الريشة المبدعة الخلاقة ذات الأسلوب المتميز، والعبارة المفرطة فى البساطة والأصالة معا، ريشة صلاح جاهين الذى رسم العديد من اللوحات فى تراث عبدالحليم حافظ، فرسم جاهين أحلاماً تتفتح على الورد «أبو تمانين مليون شجراية» والمشاركون فى الحلم يغنون بصوت حليم وألحان محمد الموجى رائعة «بستان الاشتراكية» التى أكد فيها جاهين والموجى وحليم أن الشعب العربى رمى قيوده:
«حول علـى فوق ، زى السـد ما طالـع على فـوق 
الخيـر بيجيب الخيــر، والفرحـة دى كانت شوق..
الشعـب العربى رمـى قيـوده،  وخـرج م الطـوق 
طالـع، طالـع للقمـة، وبيـزرع فيهـا الرايــة 
نادوا وا ورايــا على رأس بستان الاشتراكية»
 
فلسطين فى قلب وعقل حليم
عندما غنى عبد الحليم حافظ للقضية الفلسطينية، كانت القضية لم تزل فى عقدها الأول، حسه الفنى لم يتجاهل الأزمة، فأصر فى معظم أغنياته الوطنية على أن يبكى فلسطين، كانت أولى أغنياته التى ذكر فيها اسم فلسطين عام 1955، تحت عنوان «ثورتنا المصرية» تأليف مأمون الشناوى وتلحين رؤوف ذهني، وفى هذه الأغنية كوبليه، يؤكد أن الثورة أصبحت قوة فاعلة فى حركة عدم الانحياز وقائدة المد القومى الصاعد، ومعادية للصهيونية، وهى المعانى التى يؤكدها المقطع الأخير من الأغنية الذى يقول:
ضد الصهيونية .. بالمرصاد واقفين
وحاترجع عربية .. حبيبتنا فلسطين
وحاتفضل للدنيا .. نور يهدى البشرية»
وفى 9 يناير عام 1960، أثناء وحدة مصر وسوريا وبمناسبة وضع حجر الأساس للسد العالي، غنى لفلسطين فى نشيد «الوطن الأكبر»قائلا:
«وطنى يا ساكن قلبى وفكرى / عهدى وأصون
العهد بعمرى / أنا اللى هارفع بإيدى رايتك
على القدس كله وعلى جزايرك»
ونلاحظ أن هناك بعض الكلمات المختلفة عن النشيد الذى نسمعه الآن، وهذا هو النشيد الأول ثم تبعه النشيد الأخير الذى يذاع باستمرار الآن وفيه غنى العندليب لفلسطين أيضا وقال:
«وطنى يا زاحف لانتصاراتك يا اللى حياة المجد حياتك
فى فلسطين وجنوبنا الثائر ح نكمل لك حرياتك»
وفى 23 يوليو 1960 وفى نادى القوات المسلحة بالزمالك واحتفالا بالعيد الثامن للثورة غنى عبد الحليم «ذكريات» كلمات أحمد شفيق كامل وألحان محمد عبد الوهاب، وفى هذه الأغنية حكى بصوته ذكريات ما حدث على أرض فلسطين من مآس خصوصاً قضية الأسلحة الفاسدة وقال:
«إزاى إزاى فى اللد وفى الرملة كانت العملة مأساة كاملة
استشهد أخويا فى أراضيها بين روابيها
وحبيبته خطيبته ما أنساش لوعتها وكلامها لصورته
إزاى يا حبيبى إزاى غشوك إزاى بسلاحك بإيدك قتلوك
أسلحة فسدانة وخسرانة غشنا حكامنا ودسوها
ليه تاجروا فيها وقتلونا بيها ليه ليه»
ويستمر بركان غناء «عبد الحليم» فى مواكبة بركان الدماء، ففى 22 فبراير 1961 وبمناسبة مرور 3 سنوات على وحدة مصر وسوريا، وفى حفل أضواء المدينة فى دمشق يعنى «حليم» مع عبد الغنى السيد ونجاة وصباح ومحمد قنديل وفايدة كامل وفايزة أحمد والمطرب السورى رفيق شكرى نشيد «الثأر» كلمات أحمد شفيق كامل وألحان على إسماعيل، وفى هذا النشيد يزلزل صوت العندليب أرجاء نادى الضباط فى دمشق وهو ينشد:
«يا أخى العربى ياللى اغتصبوا منك أرضك فى فلسطين
يللى العالم نام عن حقك وإحنا وحقك مش نايمين .. عايز تارك
يا أخى العربى ياللى الدم فى تل أبيب بينادى عايز تارك»
وفى العيد العاشر للثورة يطلب «حليم» من الرئيس «جمال عبد الناصر» عودة القدس لأراضينا فى أغنية «مطالب الشعب» ويرتفع صوته بالمطالب ويقول: 
 «باسم اللاجئ باسم حقوقه فى فلسطين 
 باسم دمانا بالشهداء الفدائيين
 عايزين .. عايزين يا أمل ملايين
 العودة العودة لأراضينا»
وحلم الشاعرصلاح جاهين بتحرير فلسطين على لسان العندليب فى أغنية «يا أهلا بالمعارك» ألحان كمال الطويل، فقال:
«جبل الجرانيت انشق.. انشال
 وفى بحر النيل اتزق..أمال
 ما فى حاجة تقول لنا لأ إيش حال
 يوم تحريرنا فلسطين»
 وللقارئ أن يلاحظ النبرة الواثقة للكلمات، ووضعها تحرير فلسطين فى نفس واحد مع عملية بناء السد العالي.
وأكد رجوع فلسطين فى أغنية « الفوازير» كلمات مرسى جميل عزيز وألحان محمد الموجى حيث غنى قائلا:
«فى كل فرحة عيد فى كل نصر جديد ماتتنسيش ذكراه
خلدوا بالحب روحه من جديد فى دمشق فى اليمن فى بور سعيد
فى فلسطين اللى راح ترجع اكيد، و الجزائر بلد المليون شهيد»
وعندما ألمت بنا هزيمة 1967، وفى قاعة «ألبرت هول» فى مدينة لندن عام 1968 غنى «المسيح» كلمات الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، وألحان بليغ حمدي، على لسان أحد أبناء القدس، وفى القاعة احتشد 8 الآف شخص يمثلون الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، يستمعون إلى «حليم»، وقد حرص العندليب على أن يغنى هذه الأغنية بالذات، كنوع من التعبير عن إيصال صوت الألم العربى بسقوط القدس إلى العالم، خصوصاً إلى الغرب الذى تواطأ مع الصهيونية فى إباحة المقدسات المسيحية كما تقول الأغنية:
«يا قدس ابنك زى المسيح غريب ..غريب
تاج الشوك فوق جبينه وفوق كتفه الصليب
خانوه نفس اليهود ابنك يا قدس زى المسيح
لازم يعود على أرضها»
حتى فى أغنياته الخاصة لبعض الملوك والدول العربية، لم تغب قضية القدس يوما عن ذهن العندليب، فقدم أغنيات تذكرهم بواجبهم نحو فلسطين الجريحة، وأن تكاتف العرب سيجعل منهم قوة كبرى لها شأنها وتأثيرها، ففى أغنيته «الماء والخضرة والوجه الحسن» كلمات محمد حمزة، ألحان بليغ حمدى غنى قائلا: «أرض السلام صبحت آلام والقدس صابحة فى الضلام
تحلم بأجراس الكنايس.. بالأذان بالله أكبر بالسلام
نحلم بأبطال العرب شابكة الأيادى 
ومعاها نصرة الله على كل الأعادي»
وفى أغنية «آه يا ليلة محلاكي» يقول:
«يا رب أشوفك يالحسن واقف ما بين المنصورين
بنقيد معاهم سمعة رجوع أرضنا فلسطين
وتغنى المغربية زى الليلة دية للنصرة القوية»
 
يشارك فى معركة العرقوب
 بــ «يا سلام على لبنان»
كان لبنان من أقرب الدول العربية إلى قلب العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، فكان يعشق شوارعه، وجوه، ومنازله، وعندما قامت القوات اللبنانية فى مايو عام 1970 بالتصدى لثلاث عمليات قامت بها قوات العدو الإسرائيلى فى جنوب لبنان، فى معركة «العرقوب الأولى»، شاءت المصادفة أن يكون الفنان الشامل محمد سلمان موجوداً فى القاهرة، فاتصل به العندليب، واتفق معه على كتابة أغنية وطنية لدعم القوات اللبنانية التى تتصدى لمواجهة إسرائيل، واستدعى الموسيقار بليغ حمدي، وتم تجهيز أغنية لمساندة لبنان بعنوان «يا سلام على لبنان» يقول مطلعها:
طاير على جناح الحمام / جايب تحية وسلام
لكل الأمة العربية / لوقفة لبنان الأبية
يا سلام يا سلام «
 
ينشر اللهجة الكويتية
عندما حدث الاستقلال كانت الكويت على موعد مع عبد الحليم ليشاركها احتفالاتها بأعيادها الوطنية، فقدم أربع أغنيات وطنية كويتية باللهجة المصرية كتبها شعراء مصريون، والأغنيات الوطنية الأربع كانت جميعها من ألحان الموسيقار الكبير» كمال الطويل» أولاها أغنية «من الجهرة للسالمية» عام 1963، من كلمات «محمد حمزة»، والثانية «ليالى العيد» من شعر محسن الخياط، وقام بغنائها لأول مرة مع مجموعة من الأطفال، حيث بدأ الطويل اللحن بغناء الأطفال فى تجربة لم يكررها العندليب بعد ذلك، الأغنية الثالثة كانت «خدنى معاك « للشاعر «محمد حمزة» وتبدو من عنوانها كأغنية عاطفية لكنها تتحدث عن الكويت وكانت لزمتها الغنائية الجملة الخليجية الشهيرة «ياعمرى يابعد عمرى يا جلبى يا بعد جلبي».
وكانت آخر أغنيات حليم للكويت أغنية بعنوان «يا كويت يا حبيبة» كلمات الشاعر الكبير «مرسى جميل عزيز»، عام 1970، التى أفرج عنها بعد 40 عاما من وفاة العندليب الأسمر، والأغنيات الأربع لم تطرح تجاريا، وإن كان يعود الفضل للتليفزيون الكويتى فى نشرها بعد تسجيلها من قبل عشاق العندليب وتداولها على شبكة الإنترنت.
ونحن نتحدث عن غناء حليم للكويت لابد أن نتوقف عند تجربة مهمة جدا فى مشواره، وهى غناؤه لثلاث أغنيات باللهجة الكويتية، وهى اللهجة العربية الوحيدة التى غنى بها بعد اللهجة المصرية، أغنيات صنعت خصيصا له، وليس هذا وحسب بل صورها حليم لتليفزيون الكويت وهو يرتدى الزى الوطنى الكويتي، ونجح فى تقليد الحركات الخليجية بشكل متقن، وهذه الأغنيات هى «يا هلى يا هلي»، «يافرحة السمار عادت لياليهم» للشاعر أحمد العدوانى والملحن حميد الرجيب، و«عينى ضناها السهر من حب ظبى جفانى» للشاعر عبد المحسن الرفاعى وألحان سعود الراشد، وقد ظلت تجربة غناء عبدالحليم باللهجة الكويتية هى الوحيدة والفريدة فى مسيرته الغنائية.
ولغناء العندليب الأسمر باللهجة الخليجية قصة ذكرها الملحن الكويتى «عبدالحميد السيد»، حيث قال: خلال زيارة عبدالحليم للكويت عام  1965، طلب منى أحد المسئولين الكبار الذين يشجعون الغناء الكويتى، أن أقدم لحناً باللهجة الكويتية  للمطرب المصري، بهدف نشر الأغنية الكويتية فى الوطن العربى من خلال الأصوات الغنائية العربية المشهورة، فلحنت أغنية «يا هلي» كلمات الشاعر وليد جعفر، وقام بغنائها عبد الحليم بروعة شديدة، بعدها توالت تجاربه الآخرى.
 
يوم غنى العندليب للرئيس بورقيبة
كانت تونس من الدول التى يحبها عبد الحليم حافظ، ويعشق شعبها نظرا لعشق هذا الشعب للطرب الأصيل والغناء الراقي، وقد زار العندليب تونس أكثر من مرة، حيث تمت دعوته عام 1968 من قبل وزير الثقافة فى زمن الستينيات الأديب «الشاذلى القليبي» وذلك فى مهرجان «المرجان الدولي» بطبرقة، وقد أعجبته مدينة «سيدى بوسعيد» و«طبرقة» و«قرطاج» وغنى فى القبة بحضور قوى للجمهور، ودون حضور أمن باستثناء أربعة من رجال الشرطة، وقد سئل العندليب يومها عن سبب عزوف الأمن عن الحفلة؟! فأجابه المسئول: الناس تحبك يا عبد الحليم فلماذا ندعو الأمن؟ .
وفى عام 1970 حل العندليب الأسمر بتونس فى ثانى زيارة له وبصحبته الفرقة الماسية والملحن بليغ حمدى فى زيارة خاصة، للمشاركة فى الاحتفالات الوطنية بعيد ميلاد الزعيم «الحبيب بورقيبه»، التقى عبد الحليم بالشاعر الغنائى الكبير «عبد المجيد بن جدو»، وهذا اللقاء أثمر نصا غنائيا خاصا بهذه المناسبة، وسجل التاريخ الفنى أن «عبد المجيد بن جدو» وهو الشاعر التونسى الوحيد الذى غنى له العندليب، وأنه أيضا الشاعر التونسى الوحيد الذى لحن له بليغ حمدى نصا غنائيا، وقدم عبد الحليم حافظ هذه الأغنية فى قصر «سقانص» بالمنستير أمام الزعيم الحبيب بورقيبة وأهل السياسة والثقافة فى تونس، فى أمسية صيفية ممتعة يقول مطلع الأغنية:
«يا مولعين بالسهر / هنا يغنى العندليب
النجم يلهو والقمر / فى عيد ميلاد الحبيب
من شعب مصر ومنّى / أهدى الحبيب تحية»
 
رحلة إلى المغرب
كانت علاقة عبد الحليم حافظ بدولة المغرب علاقة وطيدة قائمة على الحب والاحترام المتبادل بين المطرب الشهير، وشعب وملك المغرب، ولقد عرف العندليب الملك الحسن الثانى منذ كان وليا للعهد، كانت علاقته به فى أول الأمر لا تتعدى نظرات متبادلة من بعيد، لكونهما رأيَا بعضهما خارج مصر والمغرب، وفى المرة الثانية، التقى به فى المغرب بعد أن أصبح ملكا، وقد جمع بينهما - كما قال حليم - حب إلهي، ونشأت بينهما صداقة وطيدة منذ ذلك الوقت.
كانت أول مرة يزور فيها العندليب المغرب، حين قامت إذاعة صوت العرب سنة 1961 بتنظيم رحلة إلى المغرب، لإقامة عدة حفلات غنائية يخصص دخلها لضحايا الزلزال المدمر الذى وقع فى مدينة «أغادير» يوم 29 فبراير 1960 ودمر الجزء الأكبر من المدينة، وأوقع آلاف القتلى، وكان على رأس هذه البعثة السيد كمال إسماعيل، نائب مدير  إذاعة صوت العرب، ومعه المذيع الشاب وجدى الحكيم.
كانت البعثة تضم إلى جانب حليم، سعاد حسني، يوسف وهبي، عمر الحريري، آمال فهمي، محمد عبدالمطلب، محمد قنديل، هدى سلطان، شريفة فاضل، محمود شكوكو، وجابت البعثة ــ كما يقول الدكتور هشام عيسى ــ أرجاء المغرب، وقدمت حفلات غنائية على المسرح الوطنى فى الرباط، ثم على مسارح البلدية فى مدن الدار البيضاء، وطنجة وتطوان، وفاس ومكناس، وفى آخر حفلة فى المغرب قدمته الفنانة سعاد حسني، ويومها قال العندليب: «النهاردة الحفلة دى بنعتبرها حفلة الوداع لجمهور المغرب الحبيب، وهنرجع بلدنا، ونتمنى نرجع هنا تاني، ونتمنى نشوفكم فى بلدنا ولما نشوفكم فى بلدنا هناخدكم بالأحضان، وغنى «بالأحضان، فوق الشوق، حكاية شعب»، واقتصر غناء عبدالحليم فى هذه الرحلة على تقديم أغانيه العاطفية والوطنية، ولم يقدم أغنية للمغرب.
ثم دعا الملك الحسن الوفد المصرى إلى القصر حيث سمعوا الأغانى والموسيقى المغربية، وبدأ يشعر بأن الملك يقدره تقديرا خاصا، حيث نشأ بين الملك والعندليب نوع من الحب، ويبدو أن البعض ضايقهم نمو هذا الحب بين المطرب المصري، وبين الملك الحسن فسعوا للوقيعة بينهما لإفساد هذه الصداقة.
يروى العندليب فى مذكراته هذه الواقعة فيقول: إن مطربا مغربيا - غنى فى مصر آنذاك - ضايقته علاقة حليم والملك الحسن الثانى المتينة، فاجتهد للإيقاع بينهما قاصدا إفساد هذه الصداقة، حيث أخبر هذا الشخص الملك بأن عبدالحليم غنى فى الجزائر ضد المغرب، ونجح هذا الشخص فى خطته، فأقنع الملك، وتم منع نشر أخبار عبد الحليم فى الصحف والمجلات المغربية، كما تم منع بث أى أغنية له فى الإذاعة المغربية، وغياب أفلامه عن دور السينما، وعندما علم عبد الحليم بهذا المنع، قرر أن يشرح الحقيقة للملك، فكتب رسالة طويلة يشرح له فيها موقفه، ومن بين ما كتب:
«سمعت أنهم قالوا لجلالتكم إنى غنيت فى الجزائر ضد المغرب، وهذا غير صحيح، كل ما حدث أنى أعددت بعض الأغانى عن كفاح الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، ورأيته واجباً وطنياً وعربياً، بل أعلم أن جلالتكم وبلدكم وجنودكم ساهمتم فى هذا الكفاح ضد المحتل الفرنسي، فهل شعب الجزائر لا يستحق المساندة؟ إن الكفاح الجزائرى يشرف العرب جميعا، وغنائى للشعب الجزائرى كان تعبيرا عن مشاعرى كإنسان وفنان».
وطال انتظار عبد الحليم حافظ دون أن توصل له رسالة من الملك الحسن الثاني، ولكن شيئا فشيئا بدأ يسمع أغانيه تُبَث من جديد فى الإذاعة المغربية، ويرى أخباره تنشر مرة أخرى على صفحات الجرائد والمجلات المغربية، ويشاهد ملصقات أفلامه فى قاعات السينما المغربية، ويقال فى هذه المناسبة إن مطرباً مغربياً مشهوراً هو من كان وسيط صلح بين الملك وعبدالحليم بعد 6 سنوات من القطيعة.
وبعد زوال الخصام، عاد الصفاء إلى صداقة العندليب والملك الوطيدة بعد مرور ست سنوات، حيث بعث إليه العاهل الراحل الحسن الثانى برقية كان مستهلّها «حسب ما جاء فى مذكرات حليم»: « إلى العندليب.. إلى صوت العرب.. يسعدنا أن نلتف حول صوتك المليء بالشجن.. والعامر بالألحان فى حفل غنائى تقيمه المملكة المغربية».
كان عبدالحليم مسرورا جدا، ولبى دعوة ملك المغرب، وسافر على متن طائرتين خاصتين ضمن كوكبة من الفنانين الكبار، وفى أول حفلة غنى عبد الحليم، من كلمات مرسى جميل عزيز وألحان بليغ حمدي، « الماء والخضرة والوجه الحسن»، فحققت نجاحا كبيرا فى الشارع المغربي، ورددها الشعب المغربى كله.
 وفى العام التالى والقصر الملكى خلال الاحتفالات بالذكرى الأربعين لميلاد الملك سنة 1969  قدم الأغنية الشهيرة:  «فى عيد ميلادك يالحسن» كلمات محمد حمزة، ولحن بليغ حمدي.
وتكرر غناء عبد الحليم للمغرب، حتى إنه أصبح عاملاً مشتركاً فى كل حفلات أعياد العرش المغربية مثل ميلاد الملك – جلوس الملك – أعياد ميلاد مولاى – محمد ولى العهد – ومولاى رشيد الابن الأصغر للملك، لم يقم أى حفل إلا إذا أحياه «عبد الحليم» ومن معه ولذلك عاصر «حليم» وحضر كل الأحداث التى حدثت فى المغرب.
والصداقة المتينة التى كانت بينهما، دفعت الحسن الثانى إلى الاعتراف  لعبد الحليم - كما جاء فى مذكراته - بكون الملك من محبى الموسيقى، بل ولا يكتفى بسماعها، إنما يؤلف أيضا فيها، ويقود الفرقة الموسيقية، وأن الملك بينما كان يعمل طوال النهار ويمارس شئونه كملك، ويسهر على راحة شعبه، يجنح فى الليل إلى سماع الموسيقى.
وكان العاهل الراحل محمد الخامس قد لمس الحب المبكر للموسيقى لدى ابنه الحسن الثاني، واندفاعه نحو سماعها وتعلمها، فقال له ذات مرة، حسب ما جاء دائما على لسان عبد الحليم فى مذكراته:
«يا ولدي، أنا أربّيك وأعلمك كى تكون ملكا، وأنا أعلم أننى أقسو عليك، وذلك لأنى أريد أن أعلمك أشياء تهم مستقبلك ومستقبل شعبك، أنا أعلم أنك تحب الموسيقى، وأنا مستعد أن أوفر لك كل ما تحتاج إليه مما له علاقة بالموسيقى، فاختر  إما أن تكون ملكا أو تكون موسيقيا، فيأتى يوم ما يُقال فيه إن هناك واحدا من العائلة المالكة كان من المفروض أن يصبح ملكا، فأصبح موسيقيا».
وبعد سماع كلام والده، شعر الحسن الثانى بمسئولية كبيرة جدا، وشرع يعمل ويتعلم كى يكون ملكا ليقوم بمسئولياته تجاه بلده وشعبه الذى سيكون مسئولا عنه، بينما اتخذ سماع الموسيقى هواية فى وقت الفراغ القليل وسط أعباء ومسئوليات العمل الكثيرة.
وعام 1971، أثناء حفل بهيج لتخليد الذكرى الـ 42 لميلاد الحسن الثانى ببلدة «الصخيرات» الواقعة قرب الرباط العاصمة، هاجم 1400 جندى الحفل مخلفين 100 ضحية، من بينهم سفير بلجيكا فى المغرب، كما جرح أكثر من 200 فى محاولة لانقلاب عسكرى فاشل، ونجا الملك الحسن، عندما اختفى فى أحد جوانب المكان، وقد سحقت قواته الموالية المتمردين فى الساعات نفسها التى تلت الهجوم.
فى هذا الوقت وعند حدوث الانقلاب كان حليم يقوم بعمل مكساج لأغنيته الجديدة بمبنى الإذاعة، وفجأة قامت قوات الانقلاب بمحاصرة مبنى الإذاعة أثناء وجود حليم بداخله، وبعد محاصرة مبنى الإذاعة بدقائق توجه الضابط المسئول عن محاصرة الإذاعة إلى حليم فى الاستديو الذى يوجد به، ثم طلب الضابط من حليم أن يذيع البيان الخاص بالانقلاب.
ولكن حليم رفض رفضًا باتًا أن يذيع بيان الانقلاب برغم محاصرته بالجنود المدججين بالسلاح، وقد أراد حليم الخروج من هذا المأزق عن طريق الإقناع بأن قال للضابط المسئول كيف أقرأ بيان الانقلاب وأنا مصري؟، وكيف أقرأ البيان وأنا مريض؟ فاقتنع الضابط بوجهة نظر حليم ليبحث عن شخص آخر، يذيع البيان وبعد دقائق فشل الانقلاب.
وبدأت القوات المحاصرة لمبنى الإذاعة فى الهروب، ثم عاد حليم إلى فندق «هيلتون» سيرًا على الأقدام من مبنى الإذاعة حتى الفندق، وبدأ يقص على الحاضرين ما حدث خلال الساعات العصيبة التى قضاها فى مبنى الإذاعة أثناء حصار المبنى، فقال له أحد الجالسين: وماذا كنت ستفعل إذا لم يقتنع الضابط بوجهة نظرك فى عدم إلقاء البيان، فرد حليم بدون تردد قائلا: «أموت ولا أخون صديقى الملك الحسن».
وبعد فشل الانقلاب، رجع العندليب لمصر، وبعد أن عرف الراحل الحسن الثانى كل التضحيات التى قام بها عبد الحليم، قرر أن يستدعيه مرة ثانية إلى المغرب، وعاد حليم بالوجه الأبيض إلى الملك الذى احتضنه وعانقه، وهو لم يعانق أحدا من قبل، وقلده أرفع وسام مغربى لموقفه ومؤازرته، وهو ضيف على بلده المغرب.
وفى إحدى المرات قال أحد المقربين للملك للعندليب أمام جلالة الملك:  يا عبد الحليم أنت قدومك ما هو زين بالنسبة لسيدنا!.
فسأله عبد الحليم بألم واستغراب ليه؟
فقال: لأن كل مرة بتكون موجود بيحصل انقلاب.
فقال له الملك بغضب: ليه بتقول كده.. ليه ما تقولش كل ما بييجى عبد الحليم ربنا بينجينى من انقلاب.
وأصبحت لعبد الحليم منزلة خاصة عند الملك الحسن الثاني، فغنى له كثيراً من الأغنيات التى وصلت إلى 15 أغنية.
ويقول عبد الحليم فى مذكراته التى نشرتها الكاتبة والناقدة إيريس نظمى: لن أنسى أبدا المرة الأخيرة التى زرت فيها المغرب عام 1975، يوم أن هاجمنى النزيف اللعين بصورة مفاجئة ومزعجة، كان الملك قلقا جدا من أجلي، ونقلنى فورا إلى المستشفى الفرنسي.. وظل يتابع أخبار المحاولات المتكررة لوقف النزيف الذى لم يهاجمنى أبدا من قبل بمثل هذه الشراسة، وأمر بنقلى فورا على طائرة خاصة مزودة بكل وسائل العلاج الطبى لكى أواصل علاجى فى باريس، وأيضا فى الولايات المتحدة.
بعد استعراض جانب من أغنيات عبد الحليم حافظ لعدد من الدول العربية ، نخلص إلى نتيجة مؤداها أن «حليم» كان مخلصا لكل القضايا العربية، فجسد حلم القومية العربية بحنجرته الذهبية التى شدت أروع الألحان وبلهجات مختلفة، تعبر عن حبه لوطنه العربى الكبير.

الاكثر قراءة

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام