من يشاهد أفلامه من بداياته حتى الآن.. يستطيع فهم التغييرات الاجتماعية التى مررنا بها والحالة السياسية والاقتصادية لمصر
لن يكون عادل إمام مجرد ممثل عابر فى تاريخ الفن المصرى، شأن كثيرين لمعوا كالشهاب لبعض الوقت، ثم طواهم النسيان، برغم أهمية ما قدموه، عادل إمام علامة مسجلة على مرحلة طويلة فى تاريخ مصر، وسيظل فى القلب من هذا التاريخ، بقدر ما حافظ على حضوره وتوهجه طوال أكثر من نصف قرن، عادل إمام يدخل عامه الثمانين بكل ما يمثله من سلطة فنية، وبكل ما قدمه من ابتسامات كثيرة مرسومة على وجوه البسطاء من أبناء الشعب المصرى، فقد كان نائبا عن هذا الشعب طوال الوقت.
«الأهرام العربى» تقدم هذا الملف من الحب للرجل الذى حارب معارك الشعب المصرى بالكوميديا، والدراما عندما يتطلب الأمر ذلك.
كل سنة وأنت طيب يا «حريف»!
احتفالا بعيد الميلاد «الثمانين» للفنان الكبير عادل إمام نهديه باقة ورد محملة برائحة عطر الأصالة وياسمين التميز، وفل التفرد،فعادل فنان متفائل لا يسد الطريق أمامنا ولا يقول لنا أبدا، إن الحياة رديئة وصعبة ولا أمل فيها، بالعكس يعطينا أملا وتفاؤلا، فهو ليس ممن يبيعون لنا الحزن، وهم فوق أحزاننا يرقصون، ليس من الذين يقولون لنا إن الحياة صعبة فاركعوا أمامها واستسلموا، بل يقول لنا بأعماله الفنية، الحياة صعبة فواجهوها بالإرادة والحب والتفاؤل النبيل.
هذه الروح المتفائلة وضحت بقوة، أثناء اللقاء الذى عقده الرئيس عبد الفتاح السيسى قبل توليه الرئاسة مع مجموعة من كبار الفنانين، عندما وجد عادل إمام بعض زملائه يبثون روحا انهزامية وينشرون الإحباط، ومنهم من يقول إن المناخ الفنى عامر بالتفاهات والأعمال المسلوقة، والقيم المهدرة، والزعيق والمدعين، وقف وندد بهذه الروح المنكسرة المنهكة، وزرع الأمل والتفاؤل فى نفوس زملائه، خصوصا جيل الشباب منهم، لأن عادل بشخصيته الحساسة وموهبته الخصبة التى تشبه نيل مصر العظيم، يعرف أننا أبناء الشعب لا نبكى وإنما نعرق، ويعرف أننا نتعب لكننا لا نشكو ولا ننهار.
وراثة خفة الدم
نشأ عادل فى بيت مصرى يشبه بيوت معظم المصريين، لأب موظف بسيط، عاكف على عمله ليطعم أولاده «عادل وعصام ومنى وإيمان»، يعيش فى القاهرة بأخلاق وطباع الرجل الريفى البسيط المنتمى لقرية شها محافظة الدقهلية، مؤمنا بأن الشهادة هى الأمان لمستقبل أولاده، لهذا كان حريصا على إلحاقهم بالجامعة ليتخرجوا فيها ويحصلوا على سلاح يعينهم على تقلبات الحياة، ومن هذا الأب ورث عادل خفة الدم، فوالده كان ساخرا ينتزع الضحكة من القلب دون أن تتأثر ملامح وجهه، وقد ورث هو الآخر خفة الدم من والده، أما والدته فكانت مثل الست أمينة فى الثلاثية لعميد الرواية المصرية نجيب محفوظ، نموذجا بسيطا للمرأة المصرية الأمية، التى تتمتع بذكاء يفوق ألف امرأة متعلمة. أنا وهو وهى
بدأ عادل مشواره فى منتصف ستينيات القرن الماضى، وبالتحديد عام 1964 من خلال فيلم أنا وهو وهي، فى زمن كان لا يزال يحمل فى طياته أملا كبيرا فى إمكانية التعافى والنهوض، وقدرة الأمة العربية على تأكيد حريتها وحضورها، غير أن «إمام» سرعان ما وجد نفسه منخرطا فى حمأة الأوضاع الاجتماعية والسياسية فى الوطن العربى، خصوصا بعد نكسة يونيو 1967، فهو فى هذا الوقت كان شابا يافعا تولدت لديه يومذاك آمال كبيرة بالتحرير والنصر، ثم تحطم ذلك كله فى الخامس من يونيو 1967 عندما اتضح أن الجيوش العربية منيت بهزيمة ساحقة، وأن الرئيس «جمال عبد الناصر» أعلن عزمه على الاستقالة بعد تحمله مسئولية الهزيمة، كان «عبد الناصر» مصدرا للأمل لدى الكثيرين، فهو زعيم المشروع القومى العربى الذى امتد من المحيط إلى الخليج، وعبر عنه الشاعر: من المحيط الهادر، إلى الخليج الثائر، لبيك عبد الناصر، وتحت هذا الشعار كانت القوى التقدمية العربية تأمل أن تحقق أول انتصار حقيقى فى المواجهة مع إسرائيل، لكن كل هذا تكسر وتحطم مع الهزيمة المرة.
استطاع عادل فى وقت مبكر من حياته الفنية، أن يتعرف على إشكالية الحياة العربية على حقيقتها: حياة هى نتاج للعدوان الخارجى والجور الداخلي، وصعب عليه حال الشعب المصرى، ولأنه لا يوجد لديه شيء يقدمه له غير فنه، أحب أن يضحكه ويخفف عنه، فقدم لجمهوره مجموعة كبيرة من الأفلام الكوميدية الخفيفة مع مكتشفه المخرج الرائع فطين عبدالوهاب: المدير الفنى، مراتى مدير عام، كرامة زوجتي، عفريت مراتى، 7 أيام فى الجنة، نص ساعة جواز، وفى نفس الفترة عمل مع مخرجين آخرين، مثل أحمد بدرخان فى سيد درويش وأفراح، نجدى حافظ إجازة بالعافية، وكيف تسرق مليونيراو رضا بوند، محمود ذو الفقار الخروج من الجنة، وحكاية 3 بنات، وفتاة الاستعراض، عيسى كرامة الراجل ده هيجننى وحلوة وشقية، عباس كامل أنا الدكتور، جلال الشرقاوى الناس اللى جوه، إبراهيم لطفى لصوص لكن ظرفاء، عبد المنعم شكرى كيف تتخلص من زوجتك وأنا ومراتى والجو، بحبك يا حلوة، فى كل هذه الأفلام كان نجمنا الشاب يرسم البسمة على شفاه الناس، والجمهور يخرج من صالة السينما، وهو يتذكر جملة له هنا، أو مشهداً هناك، فللحزن عنده رنة فرح، وللأفراح مرارة الأحزان، لهذا استطاع أن يدخل حقبة السبعينيات وعلى كتفه رصيد جميل وممتع من الضحكات. البحث عن فضيحة
يمكن أن نطلق ونحن مرتاحو الضمير على حقبة السبعينيات لعادل إمام عصر البطولات الجماعية، ففى هذه الحقبة قدم عشرات الأعمال الكوميدية التى تعتمد على مجموعة من الشباب الجدد، الذين بدأ الجمهور يتعود عليهم بحضورهم اللطيف وخفة ظلهم، وقدرتهم على انتزاع البسمة والضحكة من هؤلاء محمد عوض، سمير غانم، جورج سيدهم، سعيد صالح، ومن أشهر أفلام هذه الفترة «مذكرات الآنسة منال، رحلة لذيذة، غرام فى الطريق الزراعى، شباب فى العاصفة، برج العذراء، أضواء المدينة، الشياطين والكورة، عندما يغنى الحب، شىء من الحب، 24 ساعة حب، شياطين إلى الأبد، المهم الحب، الكل عاوز يحب، آلو أنا القطة، صابرين، البحث عن المتاعب، ملك التاكسى، البحث عن المتاعب، الأزواج الشياطين، ممنوع فى ليلة الدخلة، جواز على الهوا، جنس ناعم، زهرة البنفسج، حرامى الحب، الأزواج الشياطين» وغيرها من الأفلام التى تعتمد فى مضمونها على قصص اجتماعية طريفة ومغامرات شبابية. وسط هذه الأفلام يقوم عادل بالبطولة المطلقة فى فيلم «البحث عن فضيحة» القائم على خليط لا ينتهى من الأحداث والمواقف التى يربطها المنطق وخفة الدم، وبحوار شديد التركيز والطرافة وبلا ذرة إسفاف واحدة، وهى مسألة كانت نادرة فى أفلامنا الكوميدية التى استهلكت نفسها فى الصفعات والشلاليت والضحكات السوقية فى هذا الوقت، وفى هذا الفيلم أكد عادل إمام حقيقة خطيرة كان تجار السينما يرفضون أن يصدقوها، وهى أن نموذج البطل الوسيم بملامحه الشكلية المسمسمة ليس هو النموذج الوحيد المطلوب. إحنا بتوع الأتوبيس
مع نهاية السبعينيات غير عادل إمام جلده تماما بتقديم اثنين من أهم وأنضج أفلامه فى هذه الفترة، وهما الفيلم السياسى الخطير الذى استطاع أن ينتزع الدموع من عيون الجمهور «إحنا بتوع الأتوبيس» تأليف جلال الدين الحمامصي، وسيناريو وحوار فاروق صبري، وإخراج حسين كمال، الذى كان أول من قدم عادل إمام على خشبة المسرح فى مسرحية ثورة قرية إعداد عزت العلايلي، والفيلم الثانى هو قاتل ما قتلش حد تأليف بهجت قمر ومدحت السباعي، وإخراج محمد عبد العزيز، ومع نفس المخرج قدم فيلمه الجميل الذى يحمل رسالة ما زالت حية حتى اليوم خلى بالك من جيرانك. الثمانينيات والجينز
شهدت الفترة من 1974 ــ 1986، ثلاثة أحداث مهمة هى: الانفتاح الاقتصادي، واغتيال الرئيس أنور السادات، والهجرة إلى بلاد النفط فى دول الخليج وليبيا، فقد فجرت هذه الأحداث خصوصا الاقتصادية منها فرصاً غير معهودة للصعود الاجتماعى، أدخلت أعداداً كبيرة من الطبقة الدنيا فى الطبقة الوسطى، فى فترة قصيرة للغاية، ما طبع الطبقة الوسطى بسمات لم تكن لها فى الخمسينيات والستينيات، وفى عهد ما قبل الثورة.
شهدت هذه الفترة، كما يقول كاتبنا الكبير جلال أمين معدلاً للنمو الاقتصادى، لم تعرف مصر مثله طوال القرن العشرين، بل ربما فى تاريخها الحديث كله، لكنه كان نمواً من نوع غريب، لا يعود إلى نمو سريع فى الصناعة، والزراعة، أو الخدمات الحكومية، كما كان النمو فى عهد «عبد الناصر»، بل إلى نمو التجارة وأعمال الوساطة وتحويلات العاملين فى الخارج، والدخل الناتج من قناة السويس وصادرات البترول، الذى تضاعف سعره عدة مرات خلال هذه الفترة، إن كل هذه المصادر للنمو السريع فى الدخل يمكن اعتبارها مصادر غير إنتاجية، وأفرزت هذه الفترة جمهورا جديدا للسينما يتكون من العاملين فى مهن مختلفة، ووجد المنتجون وتجار السينما فى «عادل إمام» نموذجا حيا لهذه الطبقة، وكان الزعيم ذكيا فى استيعابه لمتغيرات العصر، هنا بدأت نجومية عادل إمام الممثل الذى ظهر بالجينز لأول مرة، والجينز هنا موحد الطبقات، لا علامة على طبقة أو شريحة اجتماعية، بل هو الزى الملائم لرحلة العبور بين الطبقات.
وفى هذه الفترة قدمعادل إمام مجموعة من الأفلام التى تحدثت عن الانفتاح الاقتصادى والتحولات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية المهمة والخطيرة، التى حدثت فى المجتمع المصرى فى فترة السبعينيات أول هذه الأفلام «حتى لا يطير الدخان» تأليف إحسان عبد القدوس، سيناريو وحوار مصطفى محرم، إخراج أحمد يحيى، وناقش نفس القضية لكن بشكل كوميدى فى المحفظة معايا تأليف أحمد عبد الوهاب، وإخراج محمد عبد العزيز، ويناقش الانفتاح والظلم والفساد والمتاجرة بقوت الغلابة فى فيلم الحب فى الزنزانة،وكاد فيلم الغول أن يمنع من العرض بسبب المشهد الأخير، أو مشهد الاغتيال، حيث اتهمت الرقابة صناع الفيلم بأنه يحاكى مشهد اغتيال الرئيس أنور السادات، ثم يناقش عادل إمام الهجرة للخارج فى «عنتر شايل سيفه». الحريف يغرد خارج السرب
لا يمكن أن نسدل الستار على فترة الثمانينيات دون أن نتحدث عن واحد من أهم وأجرأ أفلام السينما المصرية فى هذه الفترة، وفى مشوارها على الإطلاق وهو فيلم «الحريف» قصة محمد خان وبشير الديك، سيناريو وحوار بشير الديك، وإخراج محمد خان، ففى هذا الفيلم أكثر من مغامرة تلفت النظر، أهمها مغامرة الإنتاج، ثم مغامرة نوعية الفيلم نفسه وقت عرضه، حيث خرج عن قواعد السرد العادى للحدوتة والبداية والوسط والنهاية، وبحث عن أسلوبه الخاص فى السرد والبناء وفى محاولة للاقتراب من الدراما السينمائية الخاصة، ويكشف عادل عن وجه آخر من وجوه موهبته الكبيرة بتجسيده لشخصية «فارس» المشحون بالتمرد، وبدور يعتمد على المشاعر الداخلية، ويستحق الأوسكار، فى مشهد لحظة سماعه بموت أمه هنا يفاجئنا جميعا بهذه التعبيرات التى لا تصدر إلا عن فنان عالمي. لا ننسى أيضا أفلاما مهمة مثل خلى بالك من عقلك، ولا من شاف ولا من درى، «الإنس والجن»، «الهلفوت»، «النمر والأنثى»، «كراكون فى الشارع»، «سلام يا صاحبى»، «المولد»، «رمضان فوق البركان». التسعينيات والإرهاب
شهدت بداية التسعينيات مجموعة من العمليات الإرهابية، حيث وضع الجناح العسكرى للجماعة الإسلامية الإرهابية كشفا بأسماء 36 ضابطا من ضباط جهاز مباحث أمن الدولة العاملين فى مجال النشاط الدينى.
ولم تقتصر تلك العمليات الإرهابية على قتل الضباط والمسئولين، لكن أطلقت مجموعة من الإرهابيين النار على باخرة سياحية تقل 140 سائحا ألمانيا بالقرب من أسيوط، ما أسفر عن إصابة ثلاثة من طاقم الباخرة، وتستمر العمليات الإرهابية ضد السائحين وتصل إلى ثلاث عمليات فى شهر واحد من العام 1992. ولأن نجمنا الكبير يؤمن بأن الفنان ليست مهمته تسلية الجماهير، وإنما التعبير عن همومهم ومشاكلهم فى إطار فنى جذاب يصل إلى كل الفئات، فقد كان أول من عالج قضية الإرهاب فى أكثر من فيلم مثل الإرهابي تأليف لينين الرملي، إخراج نادر جلال،والإرهاب والكباب، وطيور الظلام تأليف وحيد حامد، وإخراج شريف عرفة، وفى هذه الأفلام حذر من التطرف، وأعلن رأيه صراحة: لا بد أن نحاربه ونواجهه جميعا، وإلا سنفقد تاريخنا ونفقد حضارتنا، وفى كل أفلامه التى تطرحقضايا سياسية حاول أن يعالجها بابتسامة وضحكة، حتى يصل برسالته إلى الجمهور. ولم يقتصر موقفه من الإرهاب على الأفلام، بل ذهب إلى الإرهاب فى عقر داره، عندما هاجم مجموعة من المتشددين فرقة مسرحية بسيطة، ذهب عادل إمام إليهم ليقول لهم كلمة واحدة: «أنتم تمارسون أشرف مهنة، فلا تخافوا ولا يرهبكم أحد». السفارة فى العمارة
مع نهاية التسعينيات وبداية عام 2000، ظهرت مجموعة من الفنانين، أطلق عليهم المضحكين الجدد، واعتقد البعض منهم أنه يمكن أن يهز عرش «الزعيم»، لكن هيهات، فالأساس مبنى من فولاذ، ومن عرق ودموع وسهر، وحب وإخلاص. كلهم قدموا أفلاما كوميدية لطيفة فقط لا غير وسك على الموضوع، وبعضهم لف ودار حول شخصية واحدة بعينها ولم يخرج منها، ولم يقدموا أفلاما فيها وعى سياسى أو عالجت قضايا يعانى منها المجتمع. فى هذه الفترة قدم عادل إمام «الواد محروس بتاع الوزير، بخيت وعديلة بأجزائه الثلاثة، أمير الظلام، التجربة الدانمركية، عريس من جهة أمنية، السفارة فى العمارة، عمارة يعقوبيان، مرجان أحمد مرجان، حسن ومرقص، زهايمر». الثائر الوطنى
الثائر، صنف نادر ليس سهلا أن تجده ومستحيل خلقه، وطينته غير طينة البشر، إنه الكائن بين المثل العليا والناس، لا يحيا حياتنا ولا يفرح بمسراتنا ولا يمرض ولا يموت، فهو ليس شخصا ولا جسدا له مطالب، إنه كلمة، وموقف، فنه حب الحياة إلى درجة الثورة على أعدائها، غارق فى الإيمان بها إلى درجة الرغبة العظمى فى تطويرها، ليس المحطم، ليس المعارض، إنما المغير الباني، المدبر الواعى بالمستقبل، وعادل إمامثائر من أبناء شعبنا،ثائر لم يكتف باعتناق المبادئ، إنما آمن بفنه ورسالته بكل قواه وبكل عنفوانه، فكتب له الخلود، وحفر اسمه من ذهب فى وجدان المصريين والعرب.
لا يكفى ملف واحد عن تاريخ هذا المناضل الفنى، فمشواره الثرى المليء بالإصرار والإرادة والتحدى يحتاج إلىكتب لتفيه حقه.