تنتشر الشائعات فى كل مكان بغض النظر عن طبيعة البيئة التى تحكم حياتنا الاجتماعية، وهى أيضا أقدم الوسائل الإعلامية فى التاريخ، فقبل اعتماد الكتابة، كانت المشافهة هى قناة التواصل الوحيدة فى المجتمعات، وكانت الشائعة وسيلة لنقل الأخبار وبناء السمعة أو تقويضها، وتأجيج الفتن أو الحروب.
يبدو أن حضور الصحافة ومن ثم البث الإذاعى والإعلام المرئى والمسموع، لم يستطع إخماد الشائعة، فبرغم تكاثر الوسائل الإعلامية، لا تزال العامة تستقى الكثير من معلوماتها من المحادثات الشفوية، بل إن جل ما فعلته الوسائل الإعلامية الأولى، بعيدا عن إخماد الشائعات، كان جعلها أكثر تخصصا، بحيث باتت كل وسيلة تنشر الشائعات فى مجال محدد وخاص بها.
يتساءل جان نويل كابفيرير فى كتابه «الشائعات الوسيلة الإعلامية الأقدم فى العالم» (ترجمة تانيا ناجيا): كيف نفسر ندرة الأبحاث المتعلقة بهذا الموضوع؟ قد يعزى السبب الأول إلى صعوبة المهمة؟ فمن السهل إجراء أبحاث عن الصحف والمحطات الإذاعية والتليفزيونية، باعتبار أن رسالاتها موثقة، ولا شك فى أن بمقدور كل شخص أن ينقب فى مجموعات كاملة من المجلات والصحف، كذلك أن أجهزة التسجيل والفيديو تسمح بالإصغاء مجددا، إلى البرامج التى بثت سابقا أو مشاهدتها ثانية.
لكن أمر الشائعة مختلف، ففيما خلا الحالات الاستثنائية لا يعرف الباحث بالشائعة إلا متأخرا، وعندئذ تكون الشائعة قد خمدت أو بلغت طورها الأخير، وإذ ذاك لا يسعه إلا إجراء مقابلات حول أثر تلك الشائعة، علما بأن الذكرى قد تصبح طى النسيان أو تسوغ أو تشوه، وفى مثل هذه الحالة لا يدرس الباحث الشائعة نفسها، وإنما ما خلفته من أثر فى النفوس، ومن ثم لا يعود الموضوع صالحا للاستيعاب، أما السبب الثانى فقد يعزى إلى أن الباحثين، سعوا إلى تأويل الشائعات أخلاقيا أكثر منه إلى توضيح آلياتها.
الدراسات المنهجية الأولى التى تمحورت حول الشائعات كانت أمريكية، ويبدو أن عدد الشائعات التى أطلقت خلال الحرب العالمية الثانية، وتأثيراتها السلبية فى معنويات الجنود والشعب، قد دفعت بباحثين كثر إلى الاهتمام بهذا الموضوع.
الشائعات تسبق أى سقوط أو انهيار، ففى الشركة تعلن الشائعة تسريح الموظفين أو إجراء تغييرات جذرية، أما فى السياسة فتسبق خروج الوزراء من الحكومة، والواقع أن المربك فى الشائعة هو إمكان صحتها، ففى زمن الحرب يمكن العدو وآذانه الوهمية، أو ما يعرف بالطابور الخامس، معرفة بعض الحقائق المخفية، من خلال الشائعة، وفى هذا دلالة كافية، على أن الشائعة تقوم أحيانا على أساس صحيح.
اعتقد كثيرون على مدى وقت طويل أن الشائعة بديل، ففى ظل غياب الوسائل الإعلامية الموثوق بها والمنضبطة، كان لابد من إيجاد وسيلة إعلامية بديلة تعوض هذا النقص، لكن التعايش بين الوسائل والشائعات يثبت العكس، فالشائعات وسيلة إعلامية مكملة تنقل حقيقة أخرى، علما بأن هذه الظاهرة منطقية خصوصا أن الوسائل الإعلامية كلها تندرج على الدوام فى سياق تنازلى يتجه من الأعلى إلى الأسفل، أى من أولئك الذين يعرفون إلى الذين لا يعرفون.
الشائعة معلومة موازية تخرج عن نطاق السيطرة، والثابت أن انعدام السيطرة، يثير لدى المهندس والخبير التقنى والصحفي، فكرة النقص على صعيد صدقية المعلومة، ولابد والحال هذه، من قمعها، أما عند الرجل السياسى والمواطن العادى، فإن انعدام السيطرة يعنى غياب الرقابة، وكشف النقاب عن الأسرار ومعرفة الحقيقة الخفية، ومن هنا ضرورة الحفاظ عليها.
الاعتقاد السائد بأن الشائعة ظاهرة غامضة، فهى تطير وتزحف وتعدو وتنطلق متعرجة، وهذا ما يجعلها على الصعيد المادى أشبه بحيوان مباغت وسريع الحركة، من المتعذر أسره، وتعيين انتمائه إلى فصيلة ما، ويدحض هذا الكتاب خطأ هذه الفرضية بتبيان أن الشائعات أبعد ما تكون عن الغموض، إذ إنها تخضع لمنطق صارم من الممكن تفكيك آلياته والإجابة عن أسئلة كثيرة مثل: كيف تنشأ الشائعة؟ وما وظائفها؟ ولماذا نصدقها؟ وما أنواعها؟ ولماذا نصدقها؟ وهل من السهل إخمادها؟