غالب هلسا، كلمّا كتب، كانت حياته تتداخل مع حرفه: الشخصى بالسياسي، والمنفى بالهوية، والسرد بالحقيقة العارية. لم يكن مجرد كاتب، بل شاهدًا على تحولات عاصفة، سليل جيل حمل همّ الأمة على كتفيه، وكتب بدم قلبه لا بحبر القلم.
، ومن بغداد إلى بيروت، ومن القاهرة إلى دمشق، ظلّ يجوب المنافي، محمّلًا بأحلام اليسار وآمال المقاومة، وأعباء المثقف الذى يرفض المهادنة والمساومة. كان فى شبابه ناقدًا مشاكسًا ومناضلًا ذاق السجون والمطاردات، وفى نضجه صاحب روايات لم تكن مجرد أدب، بل وثائق مقاومة ونوافذ مشرّعة على التاريخ العربى بكل آماله وانكساراته.
لم يكن له وطن، لكنه حمل وطنه فى ذاكرته. لم تكن المدن التى عبرها محطات عابرة، بل انعكاسات لروحه القلقة، كتب عن بغداد ودمشق وبيروت والقاهرة، لكنه ظل مسكونًا بالأردن الذى حلم أن يكون أكثر عدلًا وإنسانية. كان فى قلب المعارك الفكرية والسياسية التى عصفت بالعالم العربى فى النصف الثانى من القرن العشرين.
فى هذه الحلقة، أستعيد مشاهد جمعتنى به فى بيروت ودمشق، حيث بدا ليس فقط روائيا ومثقفا، بل إنسان مشبع بالحياة، صلب فى مواقفه، مشاكس فى أفكاره، عميق فى رؤيته، يحمل فى قلبه جذوة لا تنطفئ. فى ضحكاته الساخرة ونبرته الحادة، فى دفاعه المستميت عن قناعاته، وفى ندوب المنافى التى لم تفارقه حتى آخر أيامه، تتجلى صورته الحقيقية.
كان عاشقا لمصر، عشقا تجاوز الانتماء العابر ليصبح ولعًا روحيا وفكريا. فيها عاش سنوات التكوين، كتب أولى مقالاته وقصصه، قرأ محفوظ وإدريس، وحاور طه حسين ولويس عوض، وتنقل بين الصحافة والثقافة والسياسة. لم يكن مجرد عابر فى شوارع القاهرة، بل ابنها الذى لفظته يومًا فحملها فى قلبه ورحل، لكنها بقيت فيه رغم السجن والمنفى، كأنها منفاه الأول، أو وطنه الوحيد الذى لم يغادره أبدًا.
غالب هلسا: اللقاء الأول ومسار العلاقة
فى أواخر العام 1979، التقيت للمرة الأولى بالروائى الأردنى غالب هلسا فى بيروت، فى مقر اليسار العربى بمنطقة الروشة. كان حديثه باللهجة المصرية لافتًا، يتقنها بسلاسة جعلت الفنان الفلسطينى غسان مطر يمازحه: “لو احترفت التمثيل، لكنتَ منافسًا لحسين فهمي”. لكن غالب، بابتسامته الهادئة، رد قائلاً: “لا أصلح للتمثيل، لكن لو اضطررت لدور ما، لكنتُ بطل روايتى “السؤال”، التى كتبتها فى القاهرة مستوحاة من قصة حقيقية.”
آنذاك، كان غالب قد انتهى من المراجعة النهائية لروايته، وأخبرنا أنها ستصدر قريبًا عن دار العودة اللبنانية. لم يسعَ أيٌّ منا لتعميق العلاقة فى البداية، فلقاءات بيروت كانت تحدث بالمصادفة، حتى جاء العام 1983، حيث جمعتنا مجلة “فتح”، الصادرة عن حركة فتح –الانتفاضة. كنت أشغل منصب السكرتير الفنى لتحريرها، وكان غالب يكتب فيها إلى جانب الكاتب سيد خميس، الذى لم يكن مجرد زميل، بل رفيق تجربة اعتقال، جمعتهما فى زنزانة واحدة بتهمة الانتماء لتنظيم سري، وكان معهما الشاعران سيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودي.
مع الوقت، أصبحت لقاءاتنا أكثر انتظامًا. تطورت العلاقة من معرفة عابرة إلى صداقة حقيقية، قائمة على النقاشات الأدبية والفكرية التى أثرت تجربتى فى فهم شخصية غالب، ذلك المثقف الذى لم يهادن يومًا، وظل يكتب كأنه فى معركة دائمة.
لاحقًا، طلب منى إعادة نشر رواية السؤال بعد تدقيقها، مع مقدمة تروى قصة خروج المخطوط من مصر، وإجابات عن أسئلة لباحثة مغربية فى جامعة السوربون كانت تعد رسالة عنها. فى ذلك الطلب، لمست جانبًا آخر فى غالب، ذلك الذى لا يمنح ثقته بسهولة، لكنه حين يجد من يفهمه، يفتح له أبواب عالمه بلا تحفظ.
هكذا، وعلى امتداد سنوات، عرفت غالب الإنسان قبل الكاتب، المناضل قبل الروائي، والمثقف المشاكس الذى لم يكن يرى الكتابة فعلًا معزولًا عن الحياة، بل معركة أخرى يخوضها بالقلم، تمامًا كما خاض معاركه الفكرية والسياسية، بإصرار لا يعرف المهادنة
المشهد الثاني: صخب الفكر وحنين الوطن
كانت لقاءاتنا تتكرر أسبوعيًا، غالبًا برفقة أحمد فؤاد نجم وسيد خميس، حيث بدا غالب هلسا مختلفًا، يجمع بين سخرية لاذعة وحنين دفين. كان يحوّل ذكرياته فى السجن مع سيد خميس إلى مشاهد ساخرة، يسردها كأنها لوحات كاريكاتورية، من ملابسهم إلى طرائفهم مع السجناء الجنائيين، وحتى لحظات الاستماع إلى الشعر والروايات التى كانت نافذتهم إلى العالم.
لكن وسط الضحكات، كان هناك صمت بين الحكايات، خيط خفى من الحنين الجارف لمصر. حين ينحرف الحديث إلى الوطن، كان صوته يخفت، نبرته تزداد شجنًا، كأن الكلمات تخذله فى التعبير عن ألم الفراق. لم يكن غالب يستسلم للعاطفة، لكنه حمل مصر كجرح مفتوح لا يندمل.
لم تكن مقالاته تمر دون جدل. كان صوته حادًا لا يقبل المهادنة. أثار غضب كثيرين، لكنه لم يكترث، فهو لم يكتب لإرضاء أحد. بساطة حياته اليومية، حتى فى قراره بأن يصبح نباتيًا، لم تهدئ من نزعته الثورية ومواقفه الصلبة.
بعد الاجتياح الإسرائيلى لبيروت، استقل الباخرة إلى صنعاء مع المقاتلين، لكنه سرعان ما أدرك أنها ليست مكانه. عاد إلى دمشق، حيث رأى أن خيار المقاومة المسلحة لم يعد ضمن أولويات عرفات. انحاز إلى الانتفاضة داخل حركة فتح، التى تزعمها أبو صالح، أبو موسى، خالد العملة، إلياس شوفاني، وأبو على مهدى بسيسو. لم يكن مجرد كاتب فى نظرهم، بل مفكرا ثوريا يُعبر عن رؤيتهم بجرأة نادرة.
فى دمشق، وجد غالب نفسه داخل تيار جديد، لكنه ظل كما كان دائمًا لا ينتمى إلا للحقيقة كما يراها، حتى لو كلفه ذلك العزلة أو المواجهة
المشهد الثالث: فرحة الرواية وحنين العودة
عندما نشرتُ رواية “السؤال”عبر دار النديم، رأيت فى وجه غالب فرحًا لم يكن مجرد ابتهاج بصدور كتاب جديد، بل كان إحساسًا عميقًا كأنه يستعيد جزءًا مفقودًا من روحه. قال لى يومها: “صدورها عن دار نشر مصرية يجعلها أقرب إلى قلبي.”لم يكن مجرد تعليق عابر، بل كان اعترافًا بحلم ظل يراوده طويلًا، كأن عودته إلى مصر التى استعصت عليه تتحقق عبر الحروف المطبوعة.
حين أخبرته أننى أرتب للعودة إلى القاهرة، بدا وكأنه يصارع مشاعره بصمت. لم يقل الكثير، لكن فى عينيه قرأت ما لم ينطقه: فرحًا مشوبًا بالحزن، لأنه كان يدرك أن مغادرتى تعنى فقدان صديق توثقت علاقته به أكثر مما توقع، لكنه فى الوقت ذاته تمسك بأمل العودة الذى لم يفارقه قط. أخبرنى أنه على تواصل مع الروائى إدوار الخراط، الذى كان يسعى، عبر اتصالاته، لتمهيد طريق عودته.
فى لحظة صفاء، قال لى بصوت يختلط فيه الرجاء بالعزلة الطويلة: “أريد أن أقضى ما تبقى من عمرى فى مصر.”لم تكن مجرد رغبة، بل هاجسا يسكنه كقدر لا يقبل التأجيل، كأن منفاه الطويل لم يكن إلا رحلة دائرية لا تكتمل إلا بالعودة إلى نقطة البدء.
لطالما أدهشنى هذا الولع العميق بمصر، حتى زرت الأردن لاحقًا والتقيت ببعض أبناء عشيرته الهلسا. هناك، فى دوار العشيرة، وقفت أمام شجرة العائلة المعلقة، حيث تعود جذورها إلى رجل حمل اسم “المصري”، وكأن أصله لم يكن مجرد سطر فى وثيقة الأنساب، بل علامة خفية ظل غالب يحملها فى دمه، دون أن يحتاج إلى قراءتها على ورق. عندها فقط، أدركت أن مصر لم تكن بالنسبة له مجرد ذكرى أو محطة عابرة، بل وطنا يسكنه بعمق لا يفنى، مهما أبعدته عنه المنافى.
المشهد الأخير: الرحيل والغياب الحاضر
بعد شهر من عودتى إلى مصر، جاءنى اتصال من غالب. أخبرته أننى أعدت طباعة السؤال بعدد محدود للعرض فى معرض الكتاب. فرح، لكن سعادته كانت منقوصة. قال بحزن: “بعد مغادرتك، غادر أحمد فؤاد نجم، أحسست بفراغ كبير. كنتم شريان تواصلى مع مصر، وكان لدى أمل أن أعود بصحبتكم أو بعدكم مباشرة، لكن هذا الأمل يتضاءل.”
كان يلحّ عليّ فى محاولة تسهيل عودته، معلقًا آمالًا كبيرة على ذلك. لكن مع مرور الوقت، بدت مكالماته أكثر حزنًا، نبرته تحمل ثقل الانتظار الذى طال. فى أواخر عام 1989، تلقيت منه اتصالًا مختلفًا، لم يسألنى عن محاولاتى لدعم عودته كما اعتاد، فقط اكتفى بالاطمئنان. لم يكن فى صوته ذلك الأمل المعتاد، بل كان كأنه يودّع دون أن يقولها صراحة.
بعد أسابيع، جاءنى الخبر، رحل غالب، وقع الفقد كان أليمًا، ليس فقط لأنه غاب، بل لأنه غادر دون أن تتحقق عودته التى كانت تعنى له الحياة، عزائى الوحيد أن الرواية، كما وعدته، وصلت إلى المعرض، وكادت النسخ المحدودة التى طبعتها أن تنفد.
الخاتمة بعد سنوات، زرت الأردن، وهناك نظّمت جمعية عشيرة الهلسا ندوة حول السؤال. تحدثت عن غالب الإنسان قبل الروائي، وسط حضور من عشيرته، الذين وجدت فيهم امتدادًا لذلك الشغف الذى لم يفارقه لمصر. وفى تلك الليلة، فى النادى الأرثوذكسى بعمان، كان غالب حاضرًا فى كل حديث، فى كل استرجاع، فى كل لمحة حنين.
كأنه لم يرحل أبدًا.