ثقافة



الشاعر والروائى السورى هوشنك أوسى: الغربة شرفة يطل منها المغترب على وطنه البعيد

17-3-2025 | 23:54
⢴ أجرى الحوار – السيد حسين

الكتابة محنة وليست ترفا وذخيرتى فى سرد الحكايات خيالى وأفكارى
الفوز بجائزة أدبية فخٌّ جميل يسعى إليه كارهو الجوائز الأدبية
 
أكد الشاعر والروائى السورى ـ الكردى، هوشنك أوسى، أنه ابن مشهدين ثقافيين سورى عام، وكردى خاصّ، كما أنه يحمل فى كتاباته عبء قضيتين؛ وطنيّة سوريّة، وقوميّة كرديّة، فى إطار القضيّة الإنسانيّة التى تجمعه بالمصرى والفلسطينى والسودانى والعراقى والتركى والإيرانى… والبلجيكى.
 
ولد أوسى فى الدرباسية فى مدينة الحسكة بسوريا عام 1976، يقيم فى بلجيكا منذ عام 2010، ويحمل جنسيتها، التى هاجر إليها من بلده فى مغامرة الهجرة مر بأثينا وإسطنبول، كما أنه يكتب باللغتين الكردية والعربية، وهو عضو نادى القلم البلجيكى ونادى القلم الدولي.
 
كما أن له تجربة متميزة فى الشعر أثمرت عشرة دواوين شعرية، بالعربية والكردية، بالإضافة إلى ست روايات، ومجموعة قصصية بعنوان «رصاصة بألف عين»، وحصدت روايته «وطأة اليقين» جائزة كتارا للرواية العربيّة عام 2017، وترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية، وإلى تفاصيل الحوار.
 
 
< الشاعر والروائى هوشنك أوسى من مد لك يد الحكايا، ومن أغواك بنسجها؟
 
طريقى نحو الكتابة عبّدتْها الحياةُ بشوكِ المعاناة، وجمر الفقد والخسران. كان وسيبقى الطريق نحوها وعرًا، مليئًا بالكمائن والمكائد والألغام. الشُّهرة مكيدة، ينبغى تجاوزها، والجوائز الأدبيّة فخاخ جميلة، جهدكَ واجتهادكَ يقودانها إليكَ، وعليكَ بذلُ المزيدِ للتحرِّر منها، الكتابة محنة وليست ترفًا، وذخيرتى وتموينى فى سرد الحكايات هما خيالى وأفكارى، وحاصل قراءاتى ومشاهداتى، فى البداية، العلاقة مع الكتابة هى أشبه بحبٍّ من طرف واحد، من ثمّ حين تثق بكَ وبإخلاصكَ وتفانيكَ واجتهادكَ ومحاولاتكَ تطوير أدواتكَ، تتحوّل العلاقة إلى حبٍّ من طرفين، ينتج ويثمر أعمالا أدبيّة إبداعيّة، وحين تغدو الكتابة غوايةً وشهوةً وشغفًا مستمرًّا ومتجدّدًا وعنيدًا، وقتذاك، لا خوف عليها.
 
< كيف ترى وتقيم المشهد الثقافى السورى والكردى حالياً؟
يعانيان ممّا تعانيه المشاهد الثّقافيّة فى مصر والعالم العربى، مع وجود المشاكل والظّواهر السّلبيّة، هناك دائمًا طاقة أمل واجتهاد محفِّزة ونشطة تسعى نحو عكس الواقع المرير، السّورى والكردى، وتطرح عليهما الأسئلة؛ أسئلة الهويّة حول الذات والآخر، وكيفيّة خلق حالة من الانسجام والتَّوازن الوطنى والقومى والإنسانى.
لا شعب من دون إنتاج ثقافى، مهما كان يعانى من القهر والظُّلم والتَّشتت والاستبداد، وممّا لا شكّ فيه أنّ الأزمات والصّراعات الدّاخليّة، السّياسيّة منها والاجتماعيّة والاقتصاديّة، ستعبّر عن نفسها فى نتاج المشهدين السّورى من جهة، والكردى داخل سوريا وخارجها من جهة أخرى، وأنا ابن مشهدين ثقافيين سورى عام، وكردى خاصّ، وأحمل فى كتاباتى عبء قضيتين، وطنيّة سوريّة، وقوميّة كرديّة، فى إطار القضيّة الإنسانيّة التى تجمعنى بالمصرى والفلسطينى والسودانى والعراقى والتركى والإيرانى، والبلجيكى، أنا صاحب قضيتين، كرديّة وسوريّة، ولا أعتبرُ نفسى كاتبهما، كما يحلو للبعض تسمية أنفسهم بـ «كاتب القضيّة الفلانيّة».
 
< تعيش خارج سوريا منذ سنوات، هل هذه الغربة أفادتك؟
الغربةُ طاقةٌ ووقودٌ، شرفةٌ يطلّ من خلالها المُغترب على وطنه البعيد. الغربة تتحوّل إلى وطن، حين تمنحكَ الحريّة والكرامة والحقوق والذات وكلّ ما كنتَ تفتقده فى الوطن.
بكل تأكيد، أفادتنى الغربة ومنحتنى ما ذكرته لكَ، وعليه، أنا مدين لها. صحيح أنّها لم تتحوّل إلى وطن نهائى، مزيحةً مكانة ومقام الوطن، لكن الغربة ما عادت غربة بالمعنى التقليدى للكلمة أيضًا.
ثمّ من قال لك إنّنى بعيدٌ عن الحراك الأدبى والثّقافى السّوريين؟، أنا فى صلبه حضورًا ونتاجًا ونشاطًا. هذا الحراك، لم يعد محصورًا فى رقعة جغرافيّة مكانيّة اسمها سوريا، لا طبعًا، الأدب والثقافة، لا يمكن تأطيرهما ضمن حدود وطنيّة معيّنة، لأنّ الأصل والجوهر فى الأدب والثّقافة هو النّزوع نحو إنتاج القيم الإنسانيّة، قيم الخير والحبّ والجمال، داخل حدود الوطن وخارجه.
 
< ماذا عن روايتك الأخيرة “مبنى للمجهول.. نقطة ومن أول السطر”، وظروف كتاباتها؟
هى أكثر السّرديات التى أتعبتنى كتابتها، لأنّنى كتبتها على فترات انقطاع واتصال متعدّدة. وليس من السّهل الانهماك فى كتابة نصّ والاندغام فيه وفى كيميائه، ثم الانفصال والانقطاع عنه، تحت تأثير وضغط سحر جذب كتابةِ نصٍّ روائى آخر، ذلك أنَّ العودة بعد انقطاع، يترتّب عليها البدء من السّطر الأوّل فى الرّواية وصولاً إلى الجملة التى تركتها ولم أكملها.
كان نصًّا متعبًا فى كتابته، وغالبًا سيكون متعبًا فى قراءته. وحاصل جمع التعبين، هى الشّراكة الحقيقيّة الأصيلة، فى إنتاج عمليّة تواصليّة ثقافيّة وأدبيّة بين الكاتب وقارئه، النّصوص الرّوائيّة ذات المحتوى المعرفى والفكرى والنّفسى والتحليلى، فى قالب أدبى، غالبًا ما تكون مُتعِبة. وحاولت أنّ تكون رواية “مبنى للمجهول” من طينة تلك النّصوص التى تطلّبت منّى مجهودًا مضعّفًا، لا يعنى ذلك أنّنى لم أتعب على نصوصى الرّوائيّة السابقة، شىء يشبه بذل جهد كبير ومضعفَّ فى تربية وتهذيب ابن من أبناء أو بنات أسرتى الأدبيّة.
 
< هل تحاول الرواية معالجة الهويات المتداخلة أو المركبة، كما حدث مع بطل روايتك “حفلة أوهام مفتوحة”؟
الهويّات المركّبة التى تدخل فى تشكيلها هويّات أخرى، هى الأكثر مرونةً وانفتاحًا واعتدالاً وتقبّلاً للآخر، سؤال الهويّة دائمُ الحضور فى أعمالى الرّوائيّة. لأنّه سؤال وجودي، فلسفى، ثقافى، اجتماعى ونفسى حاولت الأديان والفنون والآداب الإجابة عليه. لكن، وظيفتى فى الكتابة الأدبيّة هى طرح الأسئلة، وترك خيارات البحث عن الإجابات للقارئ. لا أحوال تصدير هويّة معيّنة على حساب هويّة أخرى، حين تشرق علينا الشّمس، فإنّها لا تستثنى هويّة من نورها ودفئها، وحين يغرد الطّير، أو يسمعنا النّهر خرير مياهه، فإنّهما لا يفاضلان بين هويّة وأخرى، وحين يداهمنا إعصار أو زلزال أو كارثة أو جائحة، فإنّها لا تسألنا هويّاتنا، بل تحصد أرواحنا على حدّ سواء، وطالما نحن أمام الموت سواسية، فلماذا لا نكون كذلك داخل الحياة الموازية التى نسمّيها الرواية؟
 
< رواية «مبنى للمجهول» تحمل مواقف وأفكارا نقدية حيال التاريخ والواقع اللذين يعيشهما الإنسان، ما الذى قصدته من ذلك؟
المتن الحكائى لدى ينطوى على محتوى معرفى، والكتابة هى فى الأصل موقف نقدى من المجتمع والتاريخ والسّياسة والعقائد والفلسفات وطرائق التفكير، وأنماط المعيشة التى تنطوى على ظلم وغبن وتجيير وتزييف، عدا ذلك، تكون الكتابة لمجردّ الكتابة وحسب، لن أسمح لنفسى بتضييع وقت القارئ من دون تقديم محتوى معرفى له، فى إطار وسياق أدبى يمنحه المتعة، ويكسبه المعرفة. الواقع الذى نعيشه تتحكّم به الكثير من الخرافات والأوهام القوميّة والدّينيّة والطّائفيّة سمَّمت الأفراد والجماعات، ووصلت سمومها إلى الإعلام والسّياسة، رصيد نصوصى الأدبيّة الرّوائيّة، هو طاقة التأثير المعرفيّة والنفسيّة التى أبثُّها، وإذا خلت النّصوص الأدبيّة من الطّاقة النقديّة المعرفيّة، تحوّلت إلى محض حكايات جوفاء، وتحوّل الرّوائى إلى مجرّد حكواتى قاعد فى قهوة، يسرد على أسماع الزبائن حكايات مُسلّية لتزجية الوقت، أنا كائن نقدى وصاحب موقف وقضيّة، لا أسعى إلى تغيير العالم بنصوصى الرّوائيّة، لكننى أحوال التأثير فى عقول ونفوس أفراد من جمهور القُرَّاء، وأشجّعهم وأحفِّزهم على ممارسة النّقد الواعى المنصف والعادل.
 
< هل يمكن تصنيف رواياتك التى رصدت فيها المتغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية فى سوريا، ضمن الرواية التاريخية؟
لا، أيّة رواية، طالما لا تجرى أحداثها فى المستقبل، فهى حتما تتحرّك ضمن الماضى القريب أو البعيد، أو الاثنين معًا. وليس كلُّ ماضٍ هو تاريخً، ولكن كلّ تاريخ هو ماضٍ. لا أكتب رواية تاريخيّة، بل أحاول توظيف التاريخ والمتخيّل التاريخى فى الرّواية، أعمالى وانشغالاتى الرّوائيّة هى جزء من تاريخ الرّواية، وليست لرواية التاريخ. وعليه، لا يمكن الأخذ بها كوثائق تاريخيّة، بل اجتهادات أدبيّة تناولت محنة سوريا ومأساتها، بوصفها جزءا من المأساة الإنسانيّة.
 
< كيف يمكن للأدب أن يحمى التاريخ من التزوير خصوصا فى تلك الظروف المتغيرة؟
فى ظنّى وتقديرى، من وظائف الأدب، غرس الأسئلة النقديّة فى تربة التّاريخ، ولا يمكن للأديب حماية التّاريخ من الّتزوير، لكن من حقّه إلقاء بظلال الشّبهة والشّكّ على المرويّات والسّرديّات التّاريخيّة، إذا لم يشتبك الأدب مع التّاريخ من منظور نقدى، ويعيدهُ ويكرّرهُ، ويضفى المزيد من القداسة على التّاريخ والشّخصيّات التّاريخيّة، فهذا الأدب يعانى من “قلّة أدب”، الأصل فى الأدب؛ الإباحة وليس المنع أو التّكريه فى الأدب، كلّ بدعة ليس بالضّرورة ضلالة، وكلّ ضلالة ليس فى النّار. نيران الأدب حطبها التِّكرار والمراوحة فى المكان، وإعادة تدوير ما سبق، من دون إضافة أو تجديد.
أحاول فى رواياتى التأكيد على أنّ ثالوث المحرّمات، الدّين، الجنس، السّياسة، هو خرافة يقيّد البعض أنفسهم بها، الكاتب الجبان لن ينتج أدبًا، وليس كلّ أدب إبداع، لكن كلّ إبداع يمكن أن يكون أدبًا أو شيئًا آخر، ينتمى إلى عالم الفنون والأفكار، هكذا يمكن أن يخدم الأدب التّاريخ، بأنّ يضيف إلى السّجل التّاريخى للإبداع والمبدعين.
 
< ما الإشكاليات التى من الممكن أن تقابل من يتصدى لكتابة رواية تاريخية؟
بالتّأكيد، لن تكون المصادر التّاريخيّة، بل اجتهادات المتخيّل التّاريخى التى تتعارض والمنظور العقائدى لنسق من القرّاء أو النقّاد المؤدلجين الذين تصطدم أفكارك وأسئلتك، بيقينياتهم التى أورثتهم إيّاها كتب التّاريخ.
فى ظنّى وتقديرى أنّ الرّواية التّاريخيّة ليست إعادة ذكر المروية التّاريخيّة أو الحدث التاريخى بلغة أدبيّة. دائمًا ينبغى أن تكون هناك إضافة، قد تكون على شكل أفكار أو أسئلة أو شخصيّات متخيّلة يزجُّها بها كاتبها – خالقها فى لجج الأحداث التّاريخيّة، هذا هو مربط الإشكال الذى يعترض طريق كاتب الرّواية التّاريخيّة، ألاّ يكون صورة مكررة من المؤرّخ المشكوك أصلاً فى سرديّته. ذلك أنّ كَتَبَةَ التّاريخ، غالبًا ما يسطّرون ويدوّنون الأحداث بحبر السّلطة الدّينيّة أو الدّنيويّة.
 
< هل يحق للروائى أن يغير من حدث ما أو من مصير شخصية حقيقية، عند معالجتها روائيًا؟
طبعًا، يحقّ له ذلك، مهمّتى كروائى هو الدّمج بى الحقيقى والمتخيّل، بحيث يصعب الفصل بينهما، وإذا كان من الصّعب جعل شخصيّة تاريخيّة محض خيال، فليس من العسير والصّعوبة بمكان جعل شخصيّة متخيّلة، حقيقيّة، هذا الأمر يتوقّف على مهارات الكاتب وخياله وقدرته على تطويع اللّغة وبناء الشخصيّات. مهمّتى تبديد الحدود بين الحقيقى والمتخيّل أو جعلها غير مرئيّة، ومُهمّة القارئ الحصيف والنّاقد الفطن الفصل بين الأمرين وكشف ذلك، وتحليل الأسباب والخلفيّات ومعرفة الإسقاطات والدّلالات، لو كنتُ ناقدًا، لأجبتكِ عن سؤالك، لكننى أجيبك الآن بوصفى روائيًّا، ينبغى عليه التهرّب أو التنصّل من الإجابة، وعدم كشف أسرار اللعبة.
التاريخ والسّياسات والأديان والفلسفات والعقائد، تلاعبت بالبشر، وأحيانًا أسقتهم من كئوس الأوهامِ والخرافاتِ عسلَا وسُمَّ وخمرَ اليقينيات، وجعلتهم أعداء بعضهم بعضا، أفلا يحقُّ لى القليل من التَّلاعب داخل نصّى الرّوائى؟
 
< كيف انعكست الأحداث التى مررت بها كسورى كردى ثم بلجيكى على تجربتك الإبداعية؟
تسرّبت تفاصيل من سيرتى الشّخصيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة إلى نصوصى الرَّوائيّة، موزّعة على شخصيّاتى الرّوائيّة. هناك شخصيّة أمنحها جزءًا أو تفصيلاً أو حادثًا مررتُ به، وهناك شخصيّة أمنحها فكرةً من أفكارى أو سؤالاً من أسئلتى، ليس هذا وحسب، بل سرّبت بعض أفكار وانتقادات خصومى، وقوّلتُ بعض شخصيّاتى الرّوائيّة ما أردتُ قوله.
روايات السُّيرة الذَّاتيّة، أو كتب اليوميّات أو المذكّرات التى تصدر عن الأدباء، فيها ما هو مبالغٌ فيه، أو مزيَّفٌ مدسوسٌ ومنسوبٌ لصاحبِ الكتاب، وفيها ما هو من بنات أوهام وخرافات الكاتب التى نسجها عن نفسه، وصدَّرها لنا على أنّها حقائق، وصدَّقناها لأنّنا نعتبرُ كتبَ السِّيرة الذّاتيّة وثائقَ! أعتقد أنَّ الرّوائى حقيقيٌّ أكثر فى رواياته منهُ فى كتاب سيرتهِ أو مذكّراتهِ.
لكلّ منّا ثلاث حيوات متوازية متزامنة، الأولى: الرَّسميَّة التى يعرفها النَّاس عنَّا عبر التّواصل أو الإعلام، والثّانية: هى الخاصَّة ضمن العائلة، والثّالثة؛ وهى الحياة السِّرِّيَّة الخاصّة جدًّا، الخفيَّة والبعيدة عن أعين الجميع، وهى الأقوى والأكثر استمراريَّة حتّى بعد رحيلنا، وتبقى تؤثّر وتتلاعب بفضول النَّاس وأسئلتهم وانطباعاتهم عنَّا، لذا، مساحة التّلاعب والتّوارى والجسارة والأريحيّة فى النّصوص الرّوائيّة أكبر وأوسع ممّا هو موجود فى كتب اليوميّات والمذكّرات والسّيرة الذاتيّة، التى يخشى الأدباء وضع كلّ ألغام سِيَرِهم فيها، وعليه، طبيعى أن تجد شذرات من سيرتى وتجاربى فى الحياة متناثرةً فى رواياتى، وعليك تجميعها كأنّك قاضى تحقيق يبحث الآن عن أدلَّةٍ صغيرةٍ ودقيقةٍ فى مسرح جريمة اقترفها مجرم شديد الاحتراف والدّهاء قبلَ سنوات، وعليك أن تؤكّد لنفسك وللقارئ، أنّه ما من جريمة كاملة فى هذه الحياة.
 
< يبدو عالمك الروائى مسكوناً بالهم السوري، فهل أسهمت الحياة خارج سوريا فى بحثك الدائم عن ذاك الوطن المفقود؟
عشت فى سوريا قرابة 32 عاماً، أمضيت منها عقدًا ونيّف أعيش فى دمشق. كأيّ شابٍ ريفيٍّ آتٍ من منطقة بعيدة نائية على الحدود السّوريّة – التّركيّة إلى العاصمة، أصابتنى المدينة بصدمة الحداثة والعمارة، والأماكن التى كنتُ أراها من العاصمة على شاشة التليفزيون الأبيض والأسود، صرت أراها بالألوان رؤيَ العين، لكن، حين بدأت كتابة الرّواية عام 2015، صرت أكتشف تفاصيل دمشق، كما لو أنّنى لم أرها من قبل.
لشخص مثلى فقد الوطن وهو داخل الوطن، الرّواية سياحة آمنة بين الأمكنة وحيواتها وبشرها وشجرها وحجرها، كنتُ محرومًا من الجنسيّة السّوريّة، لأسباب سياسيّة لأنّنى كردى، هويّتى ولغتى الكرديّتان تمَّ منعهما، اسمى ممنوعٌ من التّدوين فى سجلات البشر الذين يعيشون فى هذا البلد، مُحرومٌ من حقوقى المدنيّة والقوميّة والوطنيّة، محرومٌ من الحريّة والكرامة والحياة الكريمة، وسط هذه الظّروف، هل يمكن الحديث عن الوطن؟ جرى ذلك، بفعلِ نظامٍ سياسى بعثى قمعى عنصرى سقط أخيرا، بعد أن حَكمَ سوريا بالحديد والنّار والسّجون منذ عام 1963. الوطن ليس مجرّد مكان ولادة، بل حرية وعدالة وحياة كريمة، الوطن ليس فقط مجرّد دولة تُنسب إليها جنسيّتك، بل الإحساس بالمساواة والسّلام والاطمئنان وعدم القلق من اليوم والخوف من الغد. ومع كل ما ذكرتهُ لك، بقيت سوريا حاضرة فى نصوصى الشعريّة والرّوائيّة، باعتبارها وطنًا جريحًا تؤلمنى جراحه ومأساته، الرّواية بالنّسبة إليّ كانت محاولة لاسترداد الوطن من بين براثن وأنياب ومخالب نظام قلّ نظيره عبر التاريخ فى الفاشيّة والعنصريّة.
 
< سبق أن فازت روايتك “وطأة اليقين” بجائزة «كتارا» للرواية هل ألقى الفوز على كاهلك مسئولية أكبر؟
طبعًا، مسئوليّةٌ كبيرةٌ، بخاصّة أنّها كانت روايتى الأولى، اسمحْ لى بأنّ أشى لك بسرّ، لم أبح به فى أيّ حوار صحفى سابق: فوز روايتى الأولى بجائزة كتارا سنة 2017، جرَّ عليّ حسد ونقمة وكراهية بعض كتّاب الرّواية من العرب والكرد، لا تزال مستمرّة حتّى يومنا هذا، وأتفهَّم ظروفهم وحسدهم النّاجم عن شعورهم أنّهم الأجدر بالجائزة. بمعنى آخر، منحتنى الجائزة محبّة العشرات من الأدباء والأديبات والنقّاد والقرّاء، وجرَّت عليَّ كراهية وحسد بعضهم أيضًا، لكن، نهر المحبّة يجري، ولا يكترث بنقاطِ سمِّ الحسد والأحقاد التى تُلقى فيه. ربّما يكون ذلك من طبائع الأمور فى الأوساط الثقافيّة.
الفوز بجائزة أدبيّة فخٌّ جميل يسعى إليه كارهو الجوائز الأدبيّة أكثر من الشغوفين بها، لا تأخذ كلام منتقدى الجوائز الأدبيّة على محمل الجد، فالنّاقد يودُّ أن يكون مُحكِّمًا فيها، والرّوائى أو الرّوائيّة يمنّيان نفسيهما بالفوز، وهكذا.
 
< ما الذى أعطاه المهجر لـ”هوشنك أوسي” وما الذى سرقه منه؟
أعطانى الحريّة والكرامة والإحساس بالأمان، وسرق منّى الأوهام والخرافات عن الغرب التى كانت تصلنا عن طريق مناهج التّربية والتّعليم وإعلام نظام حزب البعث العربى الاشتراكى فى سوريا، أنا سعيد جدًّا بتلك الخسارة.
أمّا عن التأثيرات فهى واضحة فى نصوصى، النّاقد والباحث الأكاديمى الفلسطينى د. عادل الأسطة، حين قرأ رواية “حفلة أوهام مفتوحة” قالها لى: “هذه الرّواية لا يمكن أن يكتبها كاتب مشرقى يعيش فى العالم العربى، بل يكتبها شخص تأثّر بطرائق الكتابة الغربيّة وعاش فى الغرب”، وقلتها فى حوار صحفى مع صحفية بلجيكيّة لصالح جريدة “دو ستاندارد”، بما معناه: نحن دماء الأدب البلجيكى الجديدة، نجمع بين روح الشّرق وخياله، ومناخ الغرب وتحرّره وحداثته.
 
< هل أنت من الكتاب الذين انبهروا بالكتابات الغربية خصوصا وأنت تعيش فى بلجيكا؟
مرجعيّتى خيالى وأفكارى وتجربتى التى يجرى فيهما نهرا الثّقافة العربيّة والكرديّة، وجدول صغير جدًا من الثّقافة البلجيكيّة، تبهرنى النّصوص الإبداعيّة، كائن من يكن صاحبها أو موطنها، نصوص الشّعراء المتصوفة الكرد والفرس والعرب، تدهشنى أكثر من نصوص شعراء الحداثة فى أوروبا والعالم العربى، لكن هذا لا يعنى أنّنى كائن تراثي، أصولي، ماضوى، لستُ فعلاً ماضيًا لا مضارع له، ولا فعل مضارعًا بدون ماض. أنا ابن لحظتى التى ترنو نحو المستقبل بشغف وأمل كبيرين، وتضربُ بجذورها فى الماضى السَّحيق.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام