فى حياة كل منا شخصيات تترك أثرًا لا يُمحى، سواء بفكرها، أم بسلوكها الإنسانى، أم بقدرتها على إلهام من حولها. ومن بين هذه الشخصيات التى أضاءت مسيرتى الفكرية والثقافية، المفكر والمناضل والناقد محمود أمين العالم، الذى تجاوز تأثيره الأبعاد الشخصية ليصبح أحد أعمدة الفكر العربى، ورمزًا للمثقف العضوى، الذى لم ينفصل يومًا عن قضايا أمته. لقد كان نموذجًا نادرًا للمفكر الذى حمل هموم مجتمعه وأعاد تشكيل أسئلة النهضة، والتنوير، والمقاومة الفكرية.
لم يكن «العَالمِ» مجرد ناقد أدبى أو منظّر ماركسى، بل كان عقلًا متقدًا، يحلل بوعي، ويناقش بشغف، ويربط بين الفكر والواقع الاجتماعى والسياسي. حمل قناعاته بثبات، لكنه لم يتقوقع فى إطار الأيديولوجيا الصارمة، بل ظل منحازًا للإنسان، متجاوزًا الخطابات الجاهزة، ليؤسس فكرًا نقديًا يزاوج بين التحليل والتغيير.
حياته كانت سلسلة من التحديات، فقد دفع ثمن مواقفه، وتعرض للإقصاء والملاحقة، لكنه ظل صامدًا، مؤمنًا بأن الثقافة ليست ترفًا، بل ضرورة للتحرر، رفض أن يكون المثقف شاهدًا محايدًا على الأحداث، بل اختار أن يكون فاعلًا فى معركة الوعى، ملتزمًا بقضايا الحرية، العدالة الاجتماعية، ومواجهة الاستبداد، سواء فى صورته السياسية أم الثقافية.
فى فكره، لم يكن هناك تناقض بين الفلسفة المادية والروح الإنسانية، بل رأى فيهما تكاملًا يعكس جوهر الفكر المستنير. حمل إرثًا حضاريًا متجذرًا فى التقاليد الفكرية العربية والعالمية، فكان صوته حاضرًا فى أهم المعارك الثقافية التى خاضها العرب فى القرن العشرين.
المشهد الأول: الحبر الذى ينطق بالفكر
قبل أن ألتقيه شخصيًا، كانت كلماته تسبق حضوره، حين كنت أعمل فى مجلة اليسار العربى كمصحح لغوى، كنت أقرأ مقالاته التى يرسلها إلى المجلة، وأتوقف طويلًا أمام خطه الانسيابى المنمنم الذى لم يكن مجرد كتابة، بل لوحة تشكيلية تنبض بالحياة، كأنها مرسومة بريشة فنان، أما فكره، فكان يقطر نقدًا وتحليلًا عميقًا، يشع بريقه بين السطور، كنت أستمتع بكل حرف، وأدرك أننى أمام عقل يختزن المعرفة كجوهرة مصقولة، تضىء كل زاوية من الوعى النقدى.
أما اللقاء المباشر فكان فى صيف 1980، حين أستُضيف فى إحدى دور الضيافة الخاصة بالزعيم الفلسطينى ياسر عرفات فى الفاكهانى فى بيروت الغربية، ضمن مجموعة من القيادات السياسية والفكرية اليسارية المصرية، جاء هؤلاء إلى بيروت للمشاركة فى احتفالية تكريم عبد الرحمن الخميسى، بمناسبة حصوله على جائزة «لينين» لتعزيز السلام بين الشعوب، لكن تزامن الحدث مع اختفاء الشخصيتين اليساريتين، المخرج فؤاد التهامى، والكاتب أديب ديمترى فى ظروف غامضة، مما أضفى على الزيارة جوًا من الترقب والقلق.
كان من حسن حظى أننى كنت مقيمًا مع هؤلاء المفكرين، فوجدت فى الأستاذ محمود أمين العالم إنسانًا نبيلاً نادر النظير، متواضعًا إلى أقصى درجة، برغم مكانته الفكرية الرفيعة، أولانى اهتمامًا خاصًا ربما لأنى كنت الأصغر سنًا بينهم، وكان يشجعنى على طرح وجهات نظرى وسط الكبار عندما يتناقشون فى قضايا سياسية وفكرية، لم يكن فقط مستمعًا، بل داعم ومحفز، يعاملنى كندٍّ برغم الفارق الكبير فى المعرفة والتجربة.
كان هذا اللقاء نقطة فارقة فى حياتى، إذ زاد من محبتى وتقديرى له، وترسخت مكانته فى وجدانى حين منحنى رقم هاتفه فى باريس، حيث كان يقيم، واتفق معى على استمرار التواصل، كان ذلك لفتة إنسانية عظيمة من رجل بحجمه، جعلتنى أشعر أن الثقافة ليست فقط تراكم معرفة، بل هى أيضًا موقف ومسئولية أخلاقية تجاه الأجيال الشابة.
كان محمود أمين العالم مفكرًا موسوعيًا، لم يكن النقد عنده مجرد تحليل نصى أو دراسة منهجية، بل كان أداة وعى وتغيير، ظل حتى آخر أيامه مؤمنًا بقضية التحرر والعدالة الاجتماعية، منحازًا دائمًا للإنسان، مدافعًا عن الفكر الحر، ورافضًا لكل أشكال الاستبداد.
تجربتى معه لم تكن مجرد لقاء عابر، بل كانت درسًا فى التواضع، فى الفكر، وفى الالتزام بقضايا الإنسان، وما زالت ذكراه حية فى وجدانى، تلهمنى كلما تذكرت نقاشاتنا وأحاديثنا، وكلما قرأت كلماته التى تحمل روحًا لا تموت.
المشهد الثانى: زيارة الفكر والكتاب
كان اللقاء التالى مختلفًا فى طبيعته، لكنه لم يكن أقل تأثيرًا، جاءنى اتصال هاتفى من الأستاذ محمود أمين العالم، يبلغنى فيه بأنه قادم إلى بيروت خلال يومين، وطلب منى أن أشترى له نسخة من كتاب رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، غمرتنى السعادة لهذا الخبر، لسببين رئيسيين: الأول أننى سألتقيه مجددًا، وأستمتع بحواراته التى كانت تمثل إضافة نوعية إلى معارفى، والثانى أنه نبهنى لهذا الكتاب المهم، الذى لعب دورًا محوريًا فى توسيع مداركى الفكرية.
دون تردد، اشتريت نسختين من الكتاب، واحدة له وأخرى لى، وخلال اليومين السابقين لوصوله، انغمست فى قراءته بعمق، حتى أكون جاهزًا لمناقشته فى مضامينه، وفهم هذه الجماعة الفريدة من العلماء والفلاسفة المسلمين، التى حملت رسائلها مفاتيح للمعرفة والتأمل الفلسفى العميق.
مثلّت هذه الزيارة محطة مهمة فى مسيرتى الفكرية، إذ أتيحت لى فرصة لقائه عدة مرات خلال الأيام القليلة التى أمضاها فى بيروت، كانت حواراتنا بمثابة دورة مكثفة فى الفكر والفلسفة والسياسة، حيث استمعت إلى رؤاه العميقة وتحليلاته الرصينة، التى أضاءت لى زوايا لم أكن ألمسها من قبل، لكن الأهم من ذلك كله، كانت متعة الصحبة مع إنسان يحمل فى شخصيته كل سمات المفكر الحقيقى: الرقى، النبل، الدماثة، والبساطة، وهو ما جعل لقائى به تجربة لا تُنسى.
المشهد الثالث: الثقافة فى مواجهة المشاريع الاستعمارية
جاء المشهد الثالث فى دمشق عام 1980، عندما طُلب من الأستاذ محمود أمين العالم، المشاركة فى الدورة الاستثنائية لمؤتمر الوزراء المسئولين عن الشئون الثقافية فى الوطن العربى، كممثل عن الجبهة الوطنية التى كان يرأسها الفريق سعد الدين الشاذلى، ممثلًا عن الثقافة المصرية، لكنه رفض أن يحضر بصفته ممثلًا لمصر، مبررًا أن لمصر وزيرًا رسميًا للثقافة هو المخول بتمثيلها.
لكن تقديرًا لمكانته الفكرية، طلب الرئيس السورى حافظ الأسد لقاءً خاصًا معه باعتباره أحد كبار المثقفين والمفكرين العرب، استغرق اللقاء حوالى أربع ساعات، تناول خلالها العالم رؤيته للواقع الثقافى العربى وسبل تطويره حتى يأخذ مكانته الحقيقية، ويسهم فى تعزيز المناخ الثقافى والخطاب الفكرى العربى فى مواجهة المشاريع الصهيو-أمريكية.
جاء محمود أمين العالم بعدها مباشرة، وبناءً على طلبه، شاركت معه فى العديد من لقاءاته، حيث استعرض ببساطة شديدة مضامين ما تحدث فيه مع الأسد، كاشفًا عن رؤيته العميقة لمستقبل الثقافة العربية، وكيف يمكن أن تكون ركيزة أساسية فى مشروع التحرر والاستقلال الفكرى والسياسى.
كانت هذه اللقاءات بمثابة محطة فكرية استثنائية، عززت قناعتى بأن الثقافة ليست ترفًا، بل أداة مقاومة، وأن المفكر الحقيقى هو من يظل فى قلب المعركة الفكرية والسياسية، ملتزمًا بقضايا أمته، غير متردد فى تقديم رؤيته، ومؤمنًا بدور المعرفة فى بناء المستقبل.
المشهد الأخير: وداع المعلم والأب الروحى
بعد عودتى من الخارج عقب عشر سنوات قضيتها فى صحافة المقاومة الفلسطينية بين لبنان وسوريا، قررت إعادة تأسيس دار النديم، فى عام 1990، وخلال مشاركتى الأولى فى معرض الكتاب، التقيت بالأستاذ فى ساحة المعرض، وحين علم بمشاركتى هنأنى بحب شديد ودعمنى بقوة كعادته، أمسك بيدى وهو يطوف بى أروقة المعرض، مقدّماً إياى لكبار الكتّاب على أننى صديقه، مما أشعرنى بالفخر والاعتزاز.
اعتدت زيارته فى مقر قضايا فكرية، حيث كنت أطرح عليه تساؤلات تؤرقني، مثل التناقض بين الماركسية والتصوف، فأجابنى برؤيته العميقة: “لا تناقض، بل تكامل”، لم تقتصر إجابته على الكلمات، بل امتدت لتكون محورًا لعدد خاص من المجلة، كاشفًا عن عمق رؤيته واتساع فكره.
انقطعت تواصلاتنا لفترة، لكننى عدت إليه فى أوائل الألفية الثانية، فاستقبلنى بحفاوة وبدون عتاب، متفهمًا الأسباب التى أبعدتنى، زرته فى شقته لتسجيل حلقة من برنامج «بلا رقيب»، الذى كنت رئيسًا لتحريره، وحين دخلت مكتبته أذهلنى الكم الهائل من الكتب التى تحيط به، كأنها تشكل امتدادًا لروحه المتقدة بالفكر والمعرفة.
لكن ظروف عملى، وسفرى المتكرر لتسجيل البرنامج فى عدة عواصم، حالت دون تكثيف لقاءاتنا، حتى جاء اليوم الذى هزنى فيه خبر صعود روحه إلى السماء فى منتصف الأسبوع الثانى من يناير 2009، شعرت بفقدان ليس مجرد مفكر، بل معلم وأب روحى، كان يملؤنى دائمًا بجرعات من التفاؤل بالمستقبل.
الخاتمة ما زال لدى الكثير من المشاهد التى جمعتنى بهذه الشخصية الفذة، وستبقى ذكراه حاضرة فى وجدانى، كضوء
لا ينطفئ، وإرث فكرى وإنسانى لا يفقد بريقه مع الزمن.
وقد ولد فى 18فبراير 1922فى الدرب الأحمر بالقاهرة.