ثقافة



أحمد الرفاعي: العمدة الذى حمل الأرض فى قلبه

20-3-2025 | 00:13
إلهامى المليجى

فى قلب الريف المصري، حيث تمتزج الأرض بتاريخ أبنائها، وُلد أحمد الرفاعى فى واحدة من كبرى عائلات محافظة الدقهلية. لم يكن ابن العمدة مجرد وريث لعائلة ذات نفوذ محلي، بل كان مشبعًا منذ صغره بروح البحث عن العدالة والانتماء الوطني. بدأ مسيرته السياسية فى كنف حزب الوفد، كما فعل والده، لكنه لم يكن رجل حزب بقدر ما كان رجل قضايا، يتنقل بين التيارات الفكرية بحثًا عن طريق للخلاص الوطني

من مصر الفتاة إلى الفكر اليساري، وجد الرفاعى نفسه فى مواجهة الواقع الاستعمارى بتصميم لا يلين، انخراطه فى الحركة اليسارية لم يكن مجرد تبنٍ لنظرية، بل كان التزامًا عمليًا قاده للمشاركة فى الحرب الشعبية ضد الاحتلال البريطانى فى سيناء، ثم دوره القيادى فى المقاومة الشعبية ضد العدوان الثلاثى على بورسعيد عام 1956. إلى جانب نضاله السياسي، كان محاميًا بارعًا رفع لواء الدفاع عن العمال والفلاحين، حتى أصبح رئيسًا لنقابة عمال الزراعة وعمال التراحيل، ونائبًا لرئيس الاتحاد العام لعمال مصر، حيث خاض معارك شرسة من أجل حقوق العمال وكرامتهم

فى هذه الحلقة، لن أسرد سيرته، بل سأرسم مشاهد جمعتنى به، ليس فقط كمناضل وطني، بل كإنسان حمل هموم مجتمعه ولم يفصل بين النضال السياسى والكفاح الاجتماعي، سأحاول استعادة لحظات تقاطعت فيها طرقنا، لأقدم صورة أقرب عن الرجل الذى ظل حتى النهاية وفيًا لقناعاته، قارَن القول بالفعل، وتماهى سلوكه مع أفكاره، فكان مثالًا لمن جعل النضال أسلوب حياة لا شعارًا عابرًا.

المشهد الأول: العمدة الذى ظل وفيًا لأصالته

التقيته لأول مرة فى بيروت، فى شقة الفنان عبد المنعم القصاص، رفيقه فى مقاومة العدوان على بورسعيد، لم يكن لقاءً عاديًا، فقد وجدت نفسى أمام رجل لم تغيره المناصب، ظل ابن الريف بلهجته وملامحه وروحه، رغم عمله كخبير فى الأمم المتحدة، كان لا يزال يحمل قلب الفلاح البسيط، ويرتدى العباية داخل بيته كما يفعل أعيان ريف الدقهلية، وكأن طناح لم تغادر ذاكرته.

ما إن قدمنى القصاص إليه، حتى توقف عند اسمى متفحصًا، وسألنى بحماسة: هل أنت قريب الأستاذ محمود المليجى المحامي؟، وحين أجبته بالإيجاب، نهض واحتضننى بحرارة كأن اللقاء استعادة لصداقة قديمة، روى لى عن زمالته مع المليجى فى كلية الحقوق، وارتباطهما لفترة بحزب مصر الفتاة، ثم استعاد ذكرياتهما فى البجلات وطناح حينما كانتا تابعتين لمركز دكرنس.

منذ تلك اللحظة، لم يعد مجرد رجل التقيته، بل أصبح والدًا روحيًا، فى كل زيارة له إلى لبنان، كان يحرص على اصطحابي، لا لمجرد الرفقة، بل لينقل إليّ شيئًا من تجربته فى الحركة اليسارية، كأنه يورثنى ذاكرة النضال، وهى التجربة التى أدركت قيمتها لاحقًا حين وجدت نفسى أحمل بعضًا من ملامحه الفكرية دون أن أشعر.

 

المشهد الثاني: الزيارة الأخيرة إلى بيروت

فى زيارته الأخيرة إلى بيروت أوائل 1982، كان أحمد الرفاعى كما عهدته، يقرأ الواقع بوعي، متزنًا فى أحكامه. كنت ممتلئًا بالشكوى من ممارسات بعض أعضاء الحزب، فاستمع إليّ بصبر، ثم قال بهدوئه المعهود:

هؤلاء أبناء شعبنا، بكل تلاوينهم، وعلى من يتصدى للعمل العام أن يدرك ذلك».

كانت كلماته درسًا فى الواقعية السياسية، تذكيرًا بأن السياسة ليست مشروعًا مثاليًا، بل معركة تُخاض بين بشر بكل ما فيهم من تناقضات، وأن النضال لا يكون فقط ضد الخصوم، بل أحيانًا داخل الصف نفسه.

أمضيت معه أيامًا بدا خلالها كأنه فى سباق مع الزمن، كأن إحساسًا غامضًا يراوده بأن هذه زيارته الأخيرة. التقى بقيادات فلسطينية ولبنانية كمن يودّع بيروت، غير مدرك أنها ستسقط بعد شهور تحت الاجتياح الصهيوني.

ذات مساء، عرض عليّ مرافقته إلى عدن حيث يقيم، ووعدنى بفرصة عمل فى إحدى كبريات الصحف هناك. كان القرار صعبًا، لكن العرض مغرٍ. حين أخبرته بأن زوجتى تتابع دراستها ببيروت، قال مطمئنًا: ستكملها فى عدن، لا تقلق».

اتفقنا على المغادرة صباحًا برًا إلى دمشق، ومنها إلى عدن. لم أكن أعلم أن القدر سيتدخل، وأن ذلك الصباح لن يأتى كما خططنا.

كان قد وفر لى سابقًا جواز سفر يمنيا بقرار من صديقه، الرئيس على ناصر محمد، مما كان سيسهل دخولى اليمن. لكن فى تلك الليلة، تأخرت فى النوم، ولم أستيقظ إلا ظهرًا، وكان أحمد الرفاعى قد غادر.

بعد أسابيع، جاء الاجتياح الصهيوني، وانهارت كل الحسابات، بيروت تحت القصف، والمعركة باتت مصيرًا لا مفر منه.

اليوم، أتساءل:

هل شعر أن بيروت على وشك أن تُبتلع بالنار؟، كان شفافًا، صوفيًا بروحه لا بلسانه، يرى ما لا نرى، ويقرأ ما بين السطور، لم يكن فيلسوفًا، لكنه عاش كمن يدرك خفايا القدر.

 

المشهد الثالث: العمدة فى مزرعته الأرض التى حملت روحه

التقيته فى القاهرة أوائل التسعينيات، وكأن الزمن لم يغيره. بحماسة طفولية، أخبرنى عن قطعة الأرض التى استصلحها، وتحولت إلى مزرعة عامرة. لا يكفى أن أخبرك، عليك أن تراها بنفسك، قالها بإصرار، كمن يدعونى إلى جزء من روحه لا مجرد مكان.

فى حضرة الأرض والإنسان

ذهبت إليه، ولم تكن مجرد مزرعة، بل عالم ينبض بالحياة. الأشجار مثقلة بالثمار، وحيوانات المزرعة تتحرك بحرية، كأنها تدرك أن صاحبها ليس مجرد مالك، بل راعٍ عطوف، كان يمر على أشجاره كقائد بين جنوده، يطمئن على العامل وأسرته، ويبتسم للطفل الراكض بين الأشجار، كأنه يراه امتدادًا لحلم لم يتخلَّ عنه.

قضيت يومًا رائعًا فى بيته الريفي، حيث الكرم ليس عادة، بل جزء من تكوينه، وعند المغادرة، أصر أن أحمل من خيرات الأرض حتى امتلأت سيارتي، وكدت أعتذر، لكنه قال مبتسمًا: هذه الأرض أعطتنى بكرم، فكيف لا أعطي؟.

بين المزرعة والقاهرة.. عتاب الأب وودّ الصديق

تكررت زياراتي، وإن على فترات متباعدة لانشغالي، لكنه لم يتركنى للنسيان، كلما زار القاهرة، كان يسبق عتابه ضحكة ودود: أنت تأتى إلى المزرعة عندما تجد وقتًا؟ المزرعة لا تنتظر من يحبها».

العمدة الذى لم تغيره الأيام

فى المزرعة، كان عمدةبمعناه الحقيقي، لا بمنصب، بل بروح رجل وفيّ للأرض كما للناس، كريم بلا حدود، لا بخيراته فقط، بل بمشاعره، يفتح بيته كأنه وطن صغير، يمنحك شعورًا بأنك فى المكان الذى لا تحتاج معه إلى شيء آخر.

المشهد الأخير: الوداع الذى لم يكن

كان اللقاء الأخير فى دار الأوبرا المصرية، وسط أضواء الثقافة وصخب المناسبات الفكرية، لكنه لم يكن مجرد لقاء عابر. كان لحظة مكثفة، كأنها حملت بين طياتها وداعًا خفيًا لم أكن أدركه حينها.

ما إن لمحنى حتى هتف باسمي، بصوته الذى لم تغيره السنوات، رغم أننى لاحظت فى ملامحه ما لم أكن معتادًا عليه، وهج الحضور لا يزال كما هو، لكن الجسد بدأ يخونه، نهض من مكانه رغم وهنه، واحتضننى بقوة، كما لو كان يريد تعويض شهور الغياب بلمسة واحدة، أين كنت كل هذا الوقت؟قالها بعينيه قبل أن ينطقها بلسانه.

لم يكن عتابه سوى عتاب المحبة، ذلك العتاب الذى اعتدت سماعه منه كلما طالت المسافات بيننا، لكنه هذه المرة كان مختلفًا، أعمق، كأنه يختزن شعورًا لم يصرّح به، إحساسًا ما بأن الزمن لم يعد سخيًا كما كان دائمًا.

أصرّ أن أكون معه طوال الأمسية، كأنما كان يريد أن يجعل من هذا اللقاء لحظة تمتد أطول مما يسمح به الزمن، تحدثنا عن كل شيء، كما كنا نفعل دائمًا، لكنه هذه المرة كان أكثر دفئًا، أكثر قربًا، قبل مغادرته، أمسك بيدى بإصرار وقال:

عليك أن تزورنى فى منزلى فى منيل الروضة، لا تقبل الأعذار».

وعدته بذلك، وأنا أبتسم، غير مدرك أن هذا كان وعدًا لن أتمكن من الوفاء به.

خبر لم أكن مستعدًا لسماعه

مرت الأيام، وانشغلت بأسفارى المتكررة، ولم تسنح لى الفرصة للقيام بتلك الزيارة، كنت أؤجلها، كأننى كنت أعتقد أن الوقت لن ينفد، أو أن اللقاءات المؤجلة لا تموت.

ثم جاءنى الخبر الصادم:

العم أحمد الرفاعى غادر دنيانا فى نوفمبر 1999

كنت وقتها خارج مصر، فى إحدى سفريات العمل، ولم أكن حاضرًا فى تشييعه، وهو ما لا يزال يؤلمنى حتى اليوم، لم أتمكن من أن أودعه كما يليق برجل كان جزءًا من رحلتي، لم أكن هناك لأحمل نعشه كما حملنى يومًا فى قلبه.

الخاتمة الغائب الذى لا يغيب

لكن أحمد الرفاعى لم يغب عنى أبدًا. هو صوت لا يزال يتردد فى ذاكرتي، لمسة لا تزال تحيط بى فى أوقات الحيرة، ابتسامة تشجعنى فى لحظات التردد. لم يكن مجرد صديق أو رفيق درب، كان جزءًا من المعنى الذى تعلّمته عن النضال، عن الكرامة، عن الوفاء.

سيظل حيًا فى قلبي، كما كان دائمًا، ما حييت.

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام