رئيس مجلس الإدارة:
د.محمد فايز فرحات
رئيس التحرير:
جمال الكشكي
الثلاثاء 22 ابريل 2025
نحن والعالم
حياة الناس
سوق ومال
فنون وفضائيات
مقالات
ثقافة
فجر الضمير
المزيد
دائرة الحوار
رياضة
الملفات
أرشيف المجلة
أول الأسبوع
منوعات
Business Leaders
ثقافة
محمد الفيتوري.. شاعر الحدود المفتوحة والهوية الإفريقية العميقة ( 1 - 2 )
20-3-2025
|
21:44
إلهامى المليجى
عندما نذكر محمد الفيتوري، فإننا لا نستحضر مجرد اسم شاعر، بل نستعيد صوتًا بحجم قارة، قصيدة تجلجل بأنين إفريقيا وغضبها، بروح عربية مسكونة بالتمرد والبحث عن العدل، وبوجدان صوفى يرقص على حافة الحلم. كان الفيتورى شاعرًا بلا حدود، لم يكن أسير الجغرافيا الضيقة، بل ظل متنقلًا بين العواصم والأوطان، يحمل فى قلبه إفريقيا الجريحة، والعروبة المثقلة بالانكسارات، والصوفية التى تسعى خلف المطلق.
وُلد فى دار مساليت على تخوم السودان، لكنه نشأ فى الإسكندرية، حيث تشكل وعيه بين صرامة الأزهر وانفتاح المدينة الكوزموبوليتانية.
كتب ديوانه الأول وهو فى المراهقة، ووجد نفسه بين مجددى الشعر العربى الحديث ، لكنه لم يكن مجرد شاعر عربي، كما لم يكن شاعرًا إفريقيًا خالصًا، بل كان كيانًا مهجنًا، شاعرًا عابرًا للحدود، يعيد كتابة التاريخ فى كل قصيدة، محاميًا عن إفريقيا السوداء، وثائرًا ضد الانهزام العربي، وصوفيًا يسبح فى عوالم التجليات.
على مدى عقود، ظل الفيتورى الشاهد والمشهود، يكتب عن عمر المختار والمقاومة الليبية، عن إفريقيا المغتصبة، عن حلم الوحدة العربية، وعن فلسطين الجريحة. لكنه أيضًا كان الشاعر المتأمل، الذى يغوص فى دروب الروح، متصوفًا يبحث عن المطلق فى “عرى الشمس”. كان فى شعره تمرد وانعتاق، وفى حياته نفى واغتراب. فقد جنسيته السودانية لمعارضته نظام النميري، ثم منحه القذافى الجنسية الليبية والاستقرار الدبلوماسي، قبل أن يُسحب منه كل شيء بعد سقوط النظام، ليجد نفسه بلا وطن، بلا جواز، بلا راتب، بلا عمل، متروكًا للنسيان فى أحد منافى المغرب، غريبًا كما بدأ، حتى استعاد السودان اعتباره بعد فوات الأوان.
لم يكن الفيتورى مجرد شاعر، كان وجدانًا متحركًا، كان صوت إفريقيا الأول فى القصيدة العربية، الجسر بين الضفاف المتباعدة، بين التاريخ المنهوب والمستقبل المأمول. وفى كل قصيدة كتبها، كانت إفريقيا ليست مجرد فضاء مكاني، بل ذاكرة ممتدة بين الغبن والمقاومة، بين الاستعمار والانعتاق. كان نارًا على الظلم، وماءً يروى جذور الهوية المسلوبة. كان شاعرًا للأوطان التى لم يحتفظ بجنسيتها، وشاعرًا للثورات التى لم تصنه، لكنه ظل شاعرًا خالدًا، منقوشًا فى ضمير القارة ووجدان الأمة.
وهنا، لا أروى سيرته، بل أستعيد بعض المشاهد التى جمعتنى به، وهى كثيرة، حوار طويل امتد بيننا عبر محطات عدة، بين شعره وحياته، بين المنفى والوطن، بين الحلم والانكسار. سأحاول أن أوجزها فى حلقتين، وفقًا للمساحة المتاحة التى حددتها إدارة المجلة، تاركًا فسحة لما بقى من ذكرياتى معه، ولما تركه فى القلب من أثر، يصعب أن يختصر فى كلمات.
المشهد الأول: دهشة البدايات وصمت المفاجأة
كان لقائى الأول بمحمد الفيتورى فى بيروت، أواخر سبعينيات القرن الماضي، حين كان يعمل مستشارًا ثقافيًا فى السفارة الليبية. جمعنا لقاء فى مقهى “ويمبي” بشارع الحمرا، وسط نخبة من المثقفين العرب، حيث بدا بهيبته المعتادة، ملامحه الإفريقية القوية، صوته العميق، وحضوره الذى يجمع بين الوقار والنزق الشاعر.
حين صافحته، لم أخف سعادتى بلقائه، فأنا أمام شاعر كانت أشعاره مقررة علينا فى المرحلة الثانوية. قلتها بحماسة صادقة، لكن رد فعله جاء غير متوقع. ابتسم، لكنها لم تكن ابتسامة فرح، بل ابتسامة مشوبة بشيء من الغضب، أو ربما الأسى، ثم قال بجدية:
“”وأنا أيضًا كنت فى المرحلة الثانوية.
فى تلك اللحظة، تملكنى الصمت. لم أستطع تفسير انفعاله، ولم أعرف إن كان فى كلماته سخرية أم مرارة. شعرت وكأن اللقاء، الذى كان من المفترض أن يكون مبهجًا، قد أخذ منحًى غير متوقع. بدا وكأن صمتى لفت انتباهه، فحاول أن يخفف من الأثر، بأن أخذ يتحدث بمحبة عن مصر، لكننى بقيت على هامش الحوار، منشغلًا بوقع كلماته الأولى.
كان يمكن أن ينتهى اللقاء عند هذا الحد، لكن شيئًا ما حدث..
وفجأة، التفت إليّ قائلًا:
“ساكت ليه؟”
لم أجد سوى إجابة مقتضبة: “مفيش.” ثم نهضت مستأذنًا بالمغادرة، متحججًا بأمر طارئ.
لكنه استوقفنى هذه المرة بنبرة أكثر ودًا، وسألنى عن عملي، عن متى غادرت مصر، وكأنه يحاول ترميم شرخ اللقاء الأول. خلال حديثه، بدأ الجليد يذوب قليلًا، خصوصا عندما شرح لى بأنه لم يكن يمزح حين قال إنه كان فى المرحلة الثانوية، إذ نُشر ديوانه الأول، وهو لا يزال طالبًا فى الثانوية الأزهرية فى الإسكندرية.
توالت لقاءاتنا بعد ذلك ضمن تجمعات ثقافية، لكنه لم يكن لقاءً شخصيًا أبدًا. بقى أثر الانطباع الأول يطغى على علاقتى به، فلم أتصل به يومًا, برغم أنه أعطانى رقم هاتفه. ربما كانت بقايا الصدمة الأولى تمنعنى من الاقتراب أكثر، وربما هو الإحساس بأن بعض اللقاءات تظل محكومة بلحظتها الأولى.
ثم جاءت سنة 1982، وغادرت بيروت، تاركًا خلفى شوارعها التى شهدت اللقاءات العابرة، والصوت الجهورى لمحمد الفيتورى، الذى ظل صداه حاضرًا برغم أن علاقتنا لم تتطور، كما كان يمكن لها أن تكون.
المشهد الثاني: ولادة الصداقة من رماد الغربة
فى أوائل تسعينيات القرن الماضي، كنت فى زيارة إلى طرابلس، أقيم فى فندق باب البحر، أراقب الحياة من زاوية المقهى فى بهوه الواسع، حيث البحر قريب، لكنه لا يبدو مرئيًا من الداخل، تمامًا كالكثير من الأشياء التى نحسها ولا نراها.
فى لحظة هادئة، اخترقتها خطوات حازمة. دخل محمد الفيتورى برفقة صديق مشترك، وحين قدّمنى له باسمى الحقيقي، تفرّس فى وجهى للحظات، ثم سأل، كأنه يبحث فى ذاكرة بعيدة.
“ألم نلتقِ من قبل؟”
كان صوته عميقًا، لكنه بدا مترددًا بين اليقين والشك. ابتسمتُ وأجبته بالاسم الذى عرفنى به فى بيروت، ثم أضفت مؤكدًا أنه اسمى الحقيقي. للحظة، شعرتُ أن ذاكرته استعادت صورة، ذلك الشاب المتحمس فى مقهى ويمبي، لكنه هذه المرة لم يترك للحيرة مجالًا، بل أشرق وجهه بودٍّ واضح، وأمسك بيدى مصافحًا بحرارة، كأن الزمن لم يكن قادرًا على قهر شيء بيننا سوى المسافات.
كان يمكن أن يكون لقاءً عابرًا آخر، لكن شيئًا ما تغيّر هذه المرة.
حين غادر صديقنا المشترك، بقى الفيتورى معى لبعض الوقت، وسرعان ما انضم إلينا فؤاد الأطرش، شقيق الفنان الراحل فريد الأطرش. تحدثنا طويلًا، وضحكنا، واستعدنا بعض الذكريات، وكأننا نعيد ترميم حكاية, لم يكتمل بناؤها فى لقاءات بيروت. خلال اليومين التاليين، كنا معًا أغلب الوقت، تجمعنا المصادفة، والسكن فى الفندق نفسه، وربما شيء أعمق، يشبه رغبة دفينة فى سد الفجوات التى خلفتها السنوات.
لكن طرابلس، كما عوّدتنا مدن المنفى والعبور، لا تسمح للأشياء أن تبقى على حالها.
الغربة تأخذ شكلًا آخر..
جاءنا إنذار من إدارة الفندق:
“”عليكما إخلاء الغرف، جمعية الدعوة الإسلامية حجزت الفندق بالكامل.
لم يكد الموظف ينهى جملته، حتى انفجر الفيتورى غاضبًا:
“لن أخلى غرفتي! هذا جنون!”
كانت ثورته المفاجئة كافية لأن تدفعنى إلى اتخاذ موقف مماثل، فأعلنت رفضى للقرار، وأكدت أننى “لن أغادر إلا إلى مصر”. وهكذا، وجدنا أنفسنا وحيدين تقريبًا، وسط فندق يعج بضيوف الجمعية، أغلبهم من إفريقيا، وكأن المدينة قررت فجأة أن تضعنا وسط غربة أخرى، أشد وطأة من كل ما عرفناه سابقًا.
مضى يوم كامل ونحن نتحرك وسط هؤلاء الغرباء، كأننا فى أرضٍ ليست لنا. ثم نظرنا إلى بعضنا، وقررنا بهدوء:
“يكفي... لنبحث عن فندق آخر”
ومن تلك اللحظة، لم نعد مجرد عابرين فى حياة بعضنا البعض، بل بدأت صداقتنا تأخذ شكلًا أكثر عمقًا، كأن تلك العزلة القسرية التى فرضها علينا الفندق، كانت مجرد مدخلٍ لحوار طويل لم يكن ليحدث فى أى ظرف آخر.
وفى إحدى أمسياتنا الممتدة، روى لى الفيتورى حكايته الكبرى، الحكاية التى لم يكن يمكن أن ينساها أبدًا، لأنها اللحظة التى حملته من الظل إلى الضوء.
“كنت مجرد طالب أزهري، كتبت ديوانى الأول فى كُرّاس بسيط، لم يكن لديّ شيء سوى الشعر وبعض الأحلام المرتبكة. أخذت الكُرّاس وذهبت إلى مجلة آخر ساعة، حيث مكتب كامل الشناوي. كان المكتب مزدحمًا، فانتظرتُ بصبر. كان فى انتظارى حلمٌ كامل، ولم أكن أملك سوى الوقت.”
“أخيرًا، حين خلا المكتب، التفت إليّ الشناوى وسألني: من أنت؟ وماذا تريد؟ تلعثمتُ، ثم قلت: أود أن أريكم شعري.”
“مددتُ يدى المرتعشة وسلمته الكُرّاس، وبقيت أراقب وجهه، أبحث عن أى انطباع، أى إشارة، بينما كان يقرأ. مرت دقائق ثقيلة، شعرتُ بأن عمرى كله يُختزل فى تلك اللحظة. فجأة، وقف كامل الشناوي، تقدّم نحوي، احتضننى بشدة حتى كاد يسحقنى بين ذراعيه، ثم صاح بصوتٍ جهوري: برافو!”
“أخذنى من يدي، وسار بى نحو غرفة محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير آخر ساعة آنذاك، وصاح فيه: موهبة! وخلال دقائق، كان هيكل قد أصدر قرارًا بتعيينى محررًا ثقافيًا فى المجلة.”
كلما استعاد تلك اللحظة، كانت عيناه تشعان بوميض الفتى الذى دخل مكتب الشناوى خائفًا، وخرج منه شاعرًا تحتضنه القاهرة.
ثم نظر إليّ وقال، وكأنه يعيد صياغة يقينه فى الكلمات:
“هكذا كانت مصر... ولهذا كانت قبلة المبدعين، ومنتجة للثقافة الحقيقية.”
الخاتفى الجزء المقبل، سأعود إلى مشاهد أخرى، حيث يتداخل الشعر بالحياة، والمنفى بالموقف، وحيث يظل الفيتورى حاضرًا لا كشاعر فحسب، بل كإنسان امتلأت حياته بالمفارقات التى صنعت منه أسطورة لا تموت.
الخاتمة
رابط دائم
اضف تعليقك
الاسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
الاكثر قراءة
عروض فنية وموسيقية على مسارح الدولة المختلفة.. مهرجان أبوظبى للثقافة والفنون
ماريو فارجاس يوسا.. طفولة مضطربة وأفكار متناقضة
اعلى
< li>
نحن والعالم
< li>
حياة الناس
< li>
سوق ومال
< li>
فنون وفضائيات
< li>
مقالات
< li>
ثقافة
< li>
فجر الضمير
< li>
دائرة الحوار
< li>
رياضة
< li>
الملفات
< li>
أرشيف المجلة
< li>
أول الأسبوع
< li>
منوعات
< li>
Business Leaders
جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام