نحن والعالم



أبو على شاهين.. حين تصبح الثورة إنسانًا (1)

10-4-2025 | 16:21
إلهامى المليجى

وُلِد أبو على شاهين فى الرمال الحارقة لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين، ونشأ فى زمن الانكسار العربي، لكنه اختار أن يرفع راية المقاومة فى زمن الهزيمة، ليصبح لاحقًا أحد أبرز رموز حركة فتح، وصوتًا للفقراء والبسطاء الذين لم تكن الثورة بالنسبة لهم خطابًا سياسيًا، بل حياة يومية ومعاناة مستمرة.
لم يكن مجرد قائد ميدانى أو اسم يتكرر فى محاضر الفصائل الفلسطينية، بل كان مدرسة فكرية قائمة بذاتها، ومؤسسة ثورية تمشى على الأرض. يرفع راية النضال بيد، ويكتب باليد الأخرى حكاية الوعى المقاوم، الذى لا يُهزم بالسلاح وحده، بل بالفكر أيضًا.
فى «الهواء المقنع»، ترك أبو على شاهين بصمته فى أدب السجون الفلسطيني، لم يكتب تجربته من باب التأريخ الذاتي، بل من باب الرسالة للأجيال، كان يدرك أن السجون ليست جدرانًا وسلاسل فقط، بل ميدان للمواجهة، وساحة لصياغة وعي، ومنبر لبناء كوادر، لقد آمن بأن التجربة النضالية لا تكتمل إلا حين تُكتب، لا بوصفها ماضيًا يُبكى عليه، بل ذاكرة تصنع الحاضر والمستقبل.
كتب فى مقدمة كتابه: «فى السجن، اكتشفت أن الزنزانة يمكن أن تكون وطنًا مؤقتًا، إذا امتلأت بالأفكار والكرامة.»
حين قُذف به إلى سجن عسقلان، لم يكن أسيرًا ينتظر الفرج، بل كان رجلًا قرر أن يحوّل الزنازين إلى قلاع فكرية، رأى أن الثورة ليست رصاصة فقط، بل فكرة تُنبت مقاتلين، وكلمة تشعل انتفاضة، ووعى لا يُمكن كسره بالمعتقلات، كان أبو على شاهين يقاتل بالبندقية، وبالكلمة، وبالموقف والمبدأ، وكان يرى أن المعركة مع الاحتلال لا تدار فى ساحات القتال فقط، بل فى ميادين الفكر والسياسة أيضًا.
كما قال فى إحدى جلساته:
«فى السجن تعلّمت أن الحرية ليست أن تخرج من الزنزانة، بل أن تظل ثائرًا وأنت داخلها».
خرج أبو على شاهين من الأسر، لكنه لم يخرج من المعركة، واصلها فى كل ساحة، بين السياسة والفكر والتنظيم، بين الميدان والقلم، بين لحظة المواجهة والتأمل الطويل فى المصير الفلسطيني، لم يكن يومًا من أولئك الذين يهزمهم الإرهاق، أو تغريهم المسارات الناعمة، ظل حتى آخر أيامه منحازًا إلى روح الثورة، إلى المقاومة التى لا تعرف أنصاف الحلول، وإلى الفكرة التى تظل متقدة رغم محاولات الإخماد.
هذه الحلقة ليست تسجيلًا توثيقيًا لحياته، فالتاريخ يحتفظ به فى ذاكرته، بل محاولة شخصية لاستعادة محطات من علاقتى به، كما عرفته عن قرب، كما رأيته فى لحظات الصمود والتحدي، وكما تأملت فى فكره وكلماته التى بقيت حاضرة رغم الغياب.
 
المشهد الأول: لقاء غير متوقع مع قامة نضالية فريدة
لم أتوقع يومًا أن يبادر أبو على شاهين، القائد الفلسطينى الذى حملت سيرته الكثير من الدروس، بطلب لقائى شخصيًا، لم أكن من أولئك الذين يبحثون عن الأضواء، ولم تتجاوز لقاءاتى السابقة به إطار اللقاءات الجماعية.
فى عام 2002، أخبرنى الصديق فيصل الخيري، الكاتب والمؤرخ والأثري، أن أبو على شاهين يودّ لقائى فى أى وقت أحدده استغربت، كيف له أن يعرفني؟ ولماذا يطلبنى بالاسم؟
كانت دهشتى مبررة، فشخصية نضالية بحجمه، تحمل فى رصيدها عقودًا من النضال والتأثير، كيف تلتفت إلى شخص مثلي؟ قرأت كتابه “الهواء المقنع”، الذى دوّن فيه تجربته العميقة فى سجون الاحتلال، وكيف حوّل المعتقل إلى مدرسة ثورية، وجعل من القيد وسيلة لصقل الوعي، لا لكسره.
رحّبت بالدعوة، وذهبت برفقة فيصل الخيرى إلى شقته فى مدينة نصر، بالقرب من حديقة الطفل، حيث يسكن فى شقة بسيطة تفيض دفئًا، كان المكان مزيجًا من أوراق مبعثرة على طاولة صغيرة، وصور لرفاق الدرب تملأ الجدران.
ما إن فتحت الباب، حتى وجدت أمامى رجلًا ملامحه تحمل تعب السنين، لكن عينيه تلمعان بحيوية شاب لم يتعبه الزمن، استقبلنى بحرارة جعلتنى أنسى كل الحواجز.
فاجأنى حين قال بابتسامة:
“قد تكون قليل الكلام، لكن مداخلاتك القليلة كانت كافية لتُلفت نظري، كان واضحًا أنك تملك رؤية تحليلية دقيقة للحالة الفلسطينية، وأعجبنى انحيازك حينها لما كان يُعرف بـ’حركة فتح – الانتفاضة”.
لم تكن تلك الجملة عابرة، بل كانت كفيلة بأن تبدّد كل دهشتى وتساؤلاتي، لم يكن أبو على شاهين قارئًا للكتب فقط، بل قارئ للبشر أيضًا.
ذلك اللقاء كان بداية لحوار امتدّ طويلًا، تعمّقت فيه علاقتى به، واكتشفت جوانب أعمق من شخصيته ورؤيته النضالية.
 
المشهد الثاني: المناضل الذى لم تفارقه كرامة الكرم
لم تقتصر لقاءاتى مع أبو على شاهين على النقاشات الجادة حول القضية الفلسطينية، بل حملت دائمًا طابعًا إنسانيًا دافئًا، كان طباخًا ماهرًا، يعرف أسرار المطبخ الشرقي. يشترى اللحم من جزار محدد، ويتعامل مع عطار بعينه، يطبخ دائمًا بكمية تكفى خمسة أشخاص على الأقل، حتى لو كنا اثنين.
سألته مرة عن السبب، فأجاب ببساطة:
“قد يمرّ أحد دون موعد، الضيف رزق، لا يجوز أن نأكل وهو ينظر إلينا”.
ذات يوم، وبينما نحن على كورنيش النيل، فجأة أوقف سيارته عند مطعم “نعمة” الشهير فى العجوزة. قلت له مستغربًا.
“هل سنأكل هنا؟”.
أجابنى وهو يترجّل:
“دقائق وأعود”.
عاد حاملًا أكياسا مليئة بساندوتشات تكفى عشرة أشخاص على الأقل، شرعنا نأكل، وبين لقمة وأخرى، كان يلتفت إلى الشارع، يبحث بعينيه عن عمال النظافة، يوقف السيارة ويعطيهم الطعام بابتسامة عريضة وكلمات بسيطة:
“تفضّل يا بطل. عشا مُعتبر من القلب”.
لم يكن يعطيهم الطعام فقط، بل كان يمنحهم دفئًا إنسانيًا حقيقيًا، كأنما يرى فيهم أبناء وطنه الذين لا تلتفت إليهم العواصم.
حين انتهينا، التفت إليّ قائلاً:
“الثورة تبدأ من هنا، من أن تعترف بآدمية الإنسان قبل أن تُحمله السلاح”.
فى كل مرة جلست معه، شعرت أننى أمام رجل لم تسمّمه السياسة، ولم يصبه غرور القيادة، ولم ينفصل يومًا عن الناس البسطاء الذين حمل قضيتهم. الخاتمة فى الحلقة المقبلة، أواصل الحديث عن «أبو على شاهين»، حيث نقترب من صلابته الفكرية، عناده فى الحق، وعشقه الأبدى لمصر، سأروى كيف اختار أن يوارى جسده فى غزة، حيث تنتهى الرحلة ويبدأ الخلود.

 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام