مقالات رئيس التحرير



زيارة إلى المستقبل

10-4-2025 | 16:27
جمال الكشكي

مصر مفتاح الشرق الأوسط، أمة وازنة ومسئولة، تقف إلى جانب العدالة الدولية المنشودة، لا تحيد عن صبرها الإستراتيجى، تستجيب للتحديات، ولا تنتظر أن تكون رد فعل، بل هى الفعل.
 
أما فرنسا، فهى الدولة المهمة فى الاتحاد الأوروبى، والعضو الدائم فى مجلس الأمن، والدولة النووية، التى طالما كان لديها قرار مستقل منذ زمن الجنرال شارل ديجول، لذا جاءت الزيارة التاريخية للرئيس الفرنسى، إيمانويل ماكرون إلى مصر، وعقد قمة، بل قمم، مع الرئيس عبد الفتاح السيسى، قبل أن ينضم الملك عبد الله الثانى، عاهل الأردن، إلى قمة ثلاثية تناقش ضرورة وقف إطلاق النار فى غزة.
 
ثمة نتائج عديدة لهذه الزيارة يمكن البناء عليها مستقبلا، لكن لابد هنا قبل الخوض فى تفاصيل الزيارة، لابد من التوقف أمام قوة واستقرار العلاقات المصرية - الفرنسية تاريخيا، التى تحولت بعد هذه الزيارة إلى علاقات إستراتيجية شاملة، كتلك العلاقات التى أقامتها مصر مع قوى عظمى فى أزمنة متعاقبة.
 
فرنسا تنظر إلى مصر بولع ثقافى وحضارى منذ الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، تلك الحملة التى اصطدمت بحجم عراقة التاريخ المصرى، من خلال اكتشاف حجر رشيد، وفك رموزه، فسجلات التاريخ تحدثنا عن شامبليون ورفاقه من العلماء الذين عكفوا على فك رموز الحضارة المصرية، وشفرات اللغة المصرية القديمة، التى صارت الآن بفضل هؤلاء العلماء الفرنسيين، متنا أساسيا فى الدراسات العالمية، فلا تخلو جامعة عالمية مرموقة من علم المصريات.
 
من جانب آخر تتشارك مصر وفرنسا بدور حيوي فى البحر المتوسط، قلب العالم القديم، ويعد شريانا حيويا للوجود الفرنسى، على ساحل المتوسط، ومصر جزء أساسى من ثقافة هذا البحر فى التعاون الاقتصادى، والأمنى، والعسكرى.
 
بين مصر وفرنسا شراكة إستراتيجية فى مختلف المجالات، «الطاقة والنقل، والأمن»، ويجمعهما مع اليونان وقبرص منتدى غاز المتوسط.
 
لا نريد هنا العودة إلى إشارات الماضى، عندما أرسل محمد على بعثاته التعليمية إلى فرنسا، وبرغم أن هناك محطات كثيرة من الشد والجذب بين البلدين، فى توقيتات تاريخية معينة، لكن قوة الاحترام والتقدير المتبادلين بين الثقافتين العريقتين، جعلت من البلدين، كل فى قارته، يمثل القوة الوازنة.
 
فرنسا تدرك أن مصر هى المفتاح الإستراتيجى فى الشرق الأوسط، وصاحبة الكلمة الفصل فى الممرات البحرية، فى البحر المتوسط، والبحر الأحمر، وقناة السويس، وصاحبة الموقع المتوسط بين قارات العالم، بينما فرنسا تمثل قلب وجوهر الاتحاد الأوروبى، كدولة نووية لديها صوت مستقل على المسرح الدولى، وبالطبع نتذكر موقف الرئيس شارل ديجول، بعد عام 1967، عندما استعاد علاقته بمصر، والتقى بالنخبة الثقافية، والفكرية المصرية فى أكثر من مناسبة، وحاول أن يمد جسورا مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وبالطبع هناك الرئيس الفرنسى، فاليرى جيسكار دستان، وعلاقته المميزة بالرئيس أنور السادات، وكذلك الرئيس فرانسوا ميتران، مرورا بالرئيس جاك شيراك، وصولا إلى الرئيس ماكرون.
 
هذه الزيارة، جاءت وسط ضباب عالمى كثيف، وتوترات عسكرية واقتصادية غير مسبوقة، أبرزها الاعتداء الإسرائيلى المستمر على قطاع غزة، والحرب الأوكرانية - الروسية، واتساع الحرب من غزة إلى لبنان، وسوريا، واليمن، ثم التعريفات الجمركية الترامبية التى أغضبت أسواق العالم، وهزت الثقة فى المؤسسات العالمية، وطالت الشركات والدول.
 
فرنسا كواحدة من القوى الاقتصادية فى الاتحاد الأوروبى، تأثرت بهذه التعريفات، كما تأثرت بالموقف المغاير من الرئيس الأمريكى ترامب، فى مسألة الحرب الأوكرانية - الروسية، والتى تتخذ فرنسا منها موقفا مختلفا عن أمريكا.
 
الرئيس الفرنسى من هذا المنطلق، أراد أن يقدم رسالة دعم إلى الخطة المصرية فى إعمار غزة، خصوصا أن فرنسا تؤمن بحل الدولتين، والعمل على السلام فى الشرق الأوسط، وفى هذا تتفق مع مصر فى دعم خطتها لإعمار غزة، وعدم تهجير الفلسطينيين، وبدا ذلك واضحا من زيارة الرئيس السيسى بصحبة الرئيس الفرنسى إلى العريش.
رأى الرئيس ماكرون  بعينيه حجم المساعدات المتراكمة أمام معبر رفح، التى تمنعها إسرائيل من الدخول إلى الجانب الفلسطينى، وشاهد داخل مستشفى العريش آثار الحرب على الجرحى والمصابين من ضحايا العدوان الإسرائيلى.
 
كما عايش الموقف الشعبى المصرى الملتف حول قرارات قيادته السياسية، التى ترفض رفضا قاطعا مسألة التهجير تحت أى ظرف، أو تصفية القضية الفلسطينية.
بالتأكيد، فإن ماكرون سيحمل رسائل هذه الزيارة إلى العقل الأوروبى، فكما نعلم أن الاتحاد الأوروبى، لديه موقف مغاير عن الموقف الأمريكى تحت إدارة ترامب، تجاه القضية الفلسطينية، فالاتحاد الأوروبى عضو الرباعية الدولية من أجل السلام، وتؤمن بحل الدولتين.
 
كانت زيارة الرئيس ماكرون للمتحف المصرى الكبير، استئنافا لعلاقة حضارية بين القاهرة، وباريس، فنحن نعلم أن الولع الفرنسى بالآثار المصرية، لا يعادله ولع آخر، كما أن زيارته الأخرى إلى منطقة خان الخليلى، بالقاهرة الفاطمية، تؤكد أن الاستئناف الحضارى فى مصر يظل دائما، دون توقف، فقد عايش ماكرون الشارع المصرى بنبضاته التلقائية والإنسانية، وشعر بالأمان والاستقرار فى صحبة المصريين الذين رحبوا به، كأنه واحد منهم.
 
بينما كانت رسالة جامعة القاهرة تعبيرا عن الحداثة العلمية فى العصر الحديث، لتؤكد أن مصر سلسلة مترابطة من الطبقات الحضارية المتواصلة، فجامعة القاهرة، أعرق جامعة فى الشرق الأوسط، وصاحبة الدرب الكبير فى التنوير على مدى أكثر من قرن، تعد حلقة متصلة مع الدولة الفرنسية، التى كثيرا ما أسهمت بمعلميها وأساتذتها فى نهضة هذه الجامعة اتصالا ومنهجا.
 
هذه الزيارة أيضاً توجت بقمة ثلاثية، بين الرئيس عبد الفتاح السيسى، والعاهل الأردنى الملك عبد الله الثانى، والرئيس الفرنسى تأكيدا على الثوابت المصرية العربية، والفرنسية، تجاه القضية الفلسطينية، وضرورة التوصل إلى وقف إطلاق النار، واستئناف مسيرة السلام، وصولا إلى دولة فلسطينية مستقلة.
 
هذه القمة اكتسبت أهميتها من أن مصر والأردن، تعرضتا لما يسمى بالتهجير إلى أراضيهما، وقد اتخذا موقفا صارما وقاطعا برفض المحاولات الإسرائيلية - الأمريكية، التى صارت علنية، وتأكيد ذلك مع الرئيس الفرنسى، باعتباره ممثلا لكتلة ضخمة ووازنة فى السياسة الدولية، وهى الاتحاد الأوروبى.
 
جاءت مكالمة القادة الثلاثة مع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، قبيل اجتماعه برئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، ليؤكد القادة الثلاثة على الثوابت الداعية إلى وقف إطلاق النار، ومنع التهجير، وعدم اتساع الحرب فى المنطقة.
 
إن صدى هذه الزيارة فى الدوائر الدبلوماسية العالمية، ودوائر الرأى العام، تؤكد أن خطة القاهرة لإعمار غزة، تقف بثبات أمام عواصف خطط أخرى خطيرة، ولذا سيعقد قريبا فى القاهرة، مؤتمر دولى لإعمار غزة، والرسالة واضحة، أن مصر لا تقبل بالظلم التاريخى للشعب الفلسطينى، مهما تكن العواصف والأنواء التى تحيط بالنظام الدولى فى الوقت الراهن.
كانت مصر منذ السابع من أكتوبر 2023، قد حذرت من هذه العواصف، وطالبت بعدم اتساع الحرب وضرورة إعطاء الشعب الفلسطينى، حق تقرير المصير، وهى المطالب التى تؤمن بها فرنسا الزائرة للقاهرة، كما تؤمن بها معظم دول الاتحاد الأوروبى، ودول العالم.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام