مقالات



البداية (1)

17-4-2025 | 21:58
د. إيمان طاهر

أحيانا نرى ونسمع مصطلحات ومواقف، مثل الاحتواء أو الردع وغيرها من سياسات انفردت بها وبرعت فيها أمريكا، وما هى  إلا أقنعة تخفى حقيقة الرغبة المتأصلة للسيطرة، وإخضاع الدول لحالة من انعدام الأمن لتحتل الساحة الدولية، حتى لو أحدثت كوارث لشتى مناطق العالم وشعوبها، كل ذلك من خلال صورة يتم تصديرها للعالم، بأنهم هم أصحاب الخير المطلق، وكل من يعارضهم، أو لا يخضع لسيطرتهم، ما هم إلا نبت شيطانى لابد من إزالته!
 
متى بدأت تهيئة العالم لتلك الصور المخادعة؟ ولماذا؟.
 
حين بدأ البلاشفة - جماعة حزب العمل الاشتراكى الروسى- رفض النظام الرأسمالى، ومنعه من التوغل فى روسيا، واتخاذ الغرب موقفا دفاعيا، وتشكيل ما يسمى بـ”الجيش الأبيض”، داخل روسيا، مدعوما من بريطانيا وفرنسا للقضاء على البلاشفة، الذين كانوا يشكلون ما يسمى بـ”الجيش الأحمر”، فخاضوا حربًا أهلية، وسيطر البلاشفة على الحكم وطبقوا الحكم الاشتراكى.
 
لم يتخل الغرب عن تعصبه، ومحاولاته المستمرة للوصول لأهدافه فى السيطرة الكاملة، وتلك نقطة مهمة فى فهم سيكولوجية العقل الغربى فى تغيير أساليب الوصول لأهدافه، والعمل عليها، وزرع الخلافات والنزاعات الداخلية، لتفكيك الكتلة المجتمعية والأحزاب الوطنية، فشنوا هجوما عام 1918، على الأراضى الروسية لإسقاط البلاشفة، استخدمت فيها بريطانيا الغاز السام بعد الحرب العالمية الأولى، وعلق ونستون تشرشل، وزير الخارجية البريطانى آنذاك، على تلك المهزلة الإنسانية، بأن البلاشفة يستحقون جرعة من هذا السم، هم والمتمردون العرب.
 
وبعد إبطال البلاشفة للجنة الدستورية، وإسقاطها تلتها هاييتى فى رفض الانصياع لدستور أقره الغزاة الأمريكيون، يمنح شركاتهم استباحة الشراء والاستحواذ على الأراضى الهاييتية، فكان حجم التدمير الأمريكى الذى أنزلوه بتلك الدولة وشعبها لا يحصى أو يغتفر،  على المستوى الاقتصادى والمجتمعى، حيث استنزاف الحياة القروية وزرع النزاعات العرقية وبالنهاية، وقعت فريسة للشركات الأمريكية مثلها مثل الدومنيكان.
 
كل تلك الأحداث الدموية العنيفة، تمت فى عهد الرئيس الأمريكى وودرو ويلسون، الذى يحتفون بتاريخه كمعلم أخلاقى ورسول للحرية والمساواة، فاستطاعوا خداع العالم والشعوب بشعارات مغايرة للحقائق، ولا تعرف طريقا للمصداقية أو المبادئ، وهنا بدأت الخدعة الكبرى، واستمرت بنفس التكنيك حتى الآن.
 
كانت تلك المرحلة الأولى لمحاولات التصدى للنظم الاشتراكية، امتدت من الثورة البلشفية وصولا للحرب العالمية الثانية، وحتى انهيار الاتحاد السوفيتى، وتم تدمير الفكر الاشتراكى وتوجهاته بتقديم مفكرين ادعوا الإصلاح ونشروا فكر الدولة الشمولية، وتفشت المؤامرات الداخلية بيد الغرب وتمكنوا من تسخير الإعلام، والدعاية بسطوة تأثيرها لتقديم بدائل فكرية لتحقيق مصالح، وأسدل الستار على المرحلة الأولى بكل ما تحويه من تحذير لكل من يتجرأ على العصيان!
 
وسرعان ما دخلت روسيا بالمرحلة الثانية فى عام 1945، حيث لا تزال تحاول السيطرة على الدول المتناثرة التابعة لها بأوروبا الشرقية، ومنهم أفغانستان، فما كان من الغرب إلا غزوها ودمروها ثلاث مرات فى القرن العشرين.
 
وهكذا لم تتغير الخطوط العريضة، التى تحكم السياسة الأمريكية، ولا المبادئ المثالية “الويلسونية”، وهنا لابد أن نتوقف قليلا وننتبه بشكل أعمق لتلك المبادئ، التى أعلنوا فيها أنها لا تنطبق على الشعوب، التى تعيش فى مرحلة متأخرة من الحضارة، فأولئك يجب أن يمنحوا حماية  ودودة وتوجيها من قبل القوى الاستعمارية، ثم أعلنها ويلسون بلا حياء حين قال:”مصالح الشعوب ذات المطالب التى تنتاسب مع أوزانها العالمية”، أى حسب قوتها الاستعمارية.
 
وبسقوط حائط برلين 1989، انتهت أيضا الحرب الباردة، بغزو بنما وأعلن حينئذ جورج بوش محتفلا بأن شيئا لن يتغير، وهذا بالفعل ما أكدته الأحداث الماضية والحالية، فى غزو وتفكيك العراق من أمريكا وبريطانيا، وبسقوط حائط برلين أيضا، اتخذت أمريكا من هندوراس قاعدة إرهاب أمريكية للمنطقة، مخلفة تحت أقدام جنودها شعبها الأصلى بأسوأ كارثة إنسانية من المجاعات والبؤس.
 
وفى أثناء انشغال أمريكا وحلفائها بفرض سيطرتهم على العالم، ظهرت كثير من المشكلات الداخلية سواء أيديولوجيا أم مجتمعيا، بسبب أثر الركود الاقتصادى الكبير فى الثلاثينيات، مما أجبر الحكومة الأمريكية على منح العمال الأمريكيين حقوقا، مثلما فعلت إنجلترا من قبل، خوفا من التنظيمات العمالية والديمقراطية الشعبية، مما أدى لتخوف العودة للوراء فى الفكر الاشتراكى، وتمت أكبر خدعة وتضليل للشعب الأمريكى، حيث تم الزج بصفوة الرأسماليين ورجال الصناعة، فأطلقت تلك الشركات الرأسمالية هجومها المضاد، مستخدمة كل الوسائل غير المشروعة، وحمتها الحكومة سرا واستخدمت علاقاتها الشخصية والإعلام لشن حملات ضد الفوضى، واستطاعت التغلغل داخل تلك التنظيمات العمالية والفلاحية والعمالة الكادحة، لزرع انشقاقات بالخداع تارة والتضليل تارة أخرى، لإرساء هيمنة رأسمالية، وهكذا تحولت أمريكا لدولة عدوانية مثيرة للحروب، لم تحقق حتى على أراضيها مبادئ الديمقراطية ولا المساواة أو الحرية كما تدعى، بل فرضت إرادتها الشيطانية، بالخفاء لتحقيق غاياتها فى فرض القوة، وليس لتقديم الخير للإنسانية أو العدالة.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام