نحن والعالم



الكيان الاحتلالى يعجز عن فرض الهيمنة رغم فائض القوة.. «السراب التوسعى»

17-4-2025 | 23:11
⢴إلهامى المليجي

من غزة إلى الضفة ومن جنوب لبنان إلى الجولان تتكشف اليوم حدود القوة الصهيونية وتظهر هشاشة مشروعها التوسعى
إسرائيل أحد النماذج الكلاسيكية فى التاريخ للدول التى بنيت على القوة المستعارة
غزة هذا الشريط المحاصر تحول إلى معضلة كبرى فى العقل الإستراتيجى الصهيونى
 
منذ نشأته، قدم الكيان الإسرائيلى كقوة لا تقهر، متفوقة عسكريًا وتكنولوجيًا، ومحاطة بهالة من الدعم الغربى غير المشروط، حتى باتت صورته النمطية لدى كثيرين تختزل فى مقولة «الجيش الذى لا ُيهزم». لكن خلف هذه الصورة المروجة، تقبع حقائق جيوسياسية وديموغرافية عميقة، تكشف التناقض البنيوى بين طموح الهيمنة وواقع العجز.
 
فالكيان الإسرائيلي، برغم امتلاكه قوة نارية هائلة، واختراقه للتكنولوجيا، وتفوقه الاستخباراتي، ودعمه المطلق من القوة العظمى الأولى فى العالم، عاجز عن تحويل هذا الفائض فى القوة إلى استقرار سياسى أو سيطرة جغرافية حقيقية والأخطر أنه كلما حاول التمدد، وجد نفسه محاصرًا بجبهات مقاومة تستنزفه، وبسكان يرفضون الخضوع، وبمعادلات دولية بدأت تتغير خارج نطاق سيطرته.
 
هذا العجز لا يقاس فقط بالمقاييس العسكرية، بل يتجلى فى مأزق أعمق: مأزق دولة صغيرة فى المساحة والسكان، تفتقر إلى العمق الإستراتيجى والمناعة الداخلية، وتحاول فى المقابل فرض إرادتها على شعوب ذات تاريخ طويل من النضال، وعلى جغرافيا لا تروض بسهولة، وعلى وعى جمعى لا يمحى بالقوة. 
 
من غزة إلى الضفة، ومن جنوب لبنان إلى الجولان، تتكشّف اليوم حدود القوة الإسرائيلية، وتظهر هشاشة مشروعها التوسعي، الذى لا يستند إلى عوامل القوة الشاملة بقدر ما يقوم على شبكة من الأوهام: وهم التفوق المطلق، ووهم الردع الدائم، ووهم «الشرق الأوسط الجديد» الذى تهيمن عليه إسرائيل من البحر إلى النهر.
 
ومن هنا، تبدو الحاجة ملحّة إلى قراءة معمقة، لا تستسلم لسطوة المشهد العسكرى الظاهري، بل تحفر فى الجذور البنيوية والسياسية والديموغرافية، لتكشف لماذا يعجز هذا الكيان، رغم كل ما أوتى من أدوات، عن فرض هيمنته، ولماذا كانت وستبقى المقاومة – فى كل أشكالها – قادرة على قلب المعادلات، وتعطيل مشروعه التوسعي، وتحويل فائض القوة إلى عبء دائم.
 
التناقض بين فائض القوة والعجز
 
فى عالم الإستراتيجية، لا تكفى القوة وحدها لصناعة السيطرة. فالتفوق العسكرى قد يحدث صدمة، لكنه لا ينتج بالضرورة خضوعًا طويل الأمد، ولا يؤسس لهيمنة مستدامة، ما لم يرتبط بقدرة على هندسة البيئة السياسية والاجتماعية فى المناطق المستهدفة. 
 
وهنا يتجلى أحد التناقضات البنيوية فى المشروع الصهيوني: امتلاك فائض هائل من القوة، دون قدرة حقيقية على الحسم.
 
منذ أكثر من عقد ونصف، يخوض الكيان الصهيونى حروبًا متكررة على قطاع غزة، مستخدمًا خلالها أحدث ما فى ترسانته الجوية من قنابل ذكية وطائرات دون طيار وتقنيات تجسس ومراقبة فائقة الدقة.
 
ومع ذلك، لم تُحقق تلك الحروب أى نصر حاسم. بل إن مقاومة الاحتلال ازدادت خبرة وتنظيمًا وتسليحًا، وتحوّلت غزة إلى ساحة تحدٍ دائم، تربك القرار السياسى والأمنى فى تل أبيب، وتشوش صورة الردع المزعومة أمام الجمهور الإسرائيلى نفسه.
 
أما فى الجنوب اللبناني، فقد واجهت «نخبة النخبة» من القوات البرية الإسرائيلية هزيمة مذلّة فى حرب تموز 2006، رغم تفوقها فى العدد والعدة. فالمعادلة التى رسمها حزب الله فى تلك الحرب لا تزال فاعلة حتى اللحظة: لا مجال لحرب دون ثمن باهظ فى الداخل الإسرائيلي.
 
إن أزمة إسرائيل هنا هى أزمة مشروع يريد فرض الهيمنة بقوة النار، لكنها تفتقر للقدرة على السيطرة على العقول والإرادات، تواجه  مقاومة لا تسعى إلى توازن القوى، بل إلى تفكيك منطق الاحتلال نفسه.
عقبتان لا تروضان
 
يقال فى أدبيات الجغرافيا السياسية إن «الخرائط لا تغفر»، وإن الطبيعة لا تقبل الغزاة طويلًا، حتى لو بدا لهم أن النصر العسكرى يمنحهم مفاتيح الأرض. فكل جبهة لا تراعى منطق الجغرافيا ومنطق السكان، تتحول من مشروع سيطرة إلى مستنقع استنزاف.
 
غزة، هذا الشريط المحاصر، تحوّل إلى معضلة كبرى فى العقل الإستراتيجى الصهيوني. فقد تحولت إلى «جغرافيا مقاومة» تتحدى المفاهيم العسكرية، وتحاصر الاحتلال أخلاقيًا وإعلاميًا، تمامًا كما يحاصرها عسكريًا واقتصاديًا.
 
الضفة الغربية، ورغم التغلغل الاستيطاني، بقيت على الدوام ساحة توتر دائمة، وتمتاز بتعقيدها المكانى والبشري. فالمقاومة هنا متجددة، متحركة، وغير قابلة للاستئصال، ما دام فيها وعى وذاكرة.
الجنوب اللبناني يمثل نموذجًا استثنائيًا فى التاريخ الحديث لمقاومة مندمجة بالجغرافيا. لم تعد إسرائيل تملك حرية المبادرة، بل تحسب حساب الصواريخ والمدن المحصنة.
 
أما الجولان السورى المحتل، فلا يزال حالة مؤقتة فى عقل الدولة السورية، وفى وعى المجتمع المحلي، ينتظر لحظة التبدل الإقليمى ليعود إلى مركز الصراع.
العجز البنيوي
 
تبنى مشاريع الهيمنة الكبرى على قاعدة داخلية صلبة، أما الكيان الصهيوني، فكلما اتسعت رقعة احتلاله، انكشفت هشاشته من الداخل.
 
مجتمع غير متجانس، منقسم بين طوائف وأصول متناحرة؛ نظام سياسى مأزوم، يتخبط فى تحالفات هشة وانتخابات متكررة، مشروع أيديولوجى يفقد شرعيته، ويعيد إنتاج أزمته مع كل مقاومة.
 
تدعى إسرائيل أنها تمثل «يهودية الدولة»،  لكنها تقصى ما يقرب من ربع سكانها الفلسطينيين، وتخشى التغيرات الديموغرافية، وترتعب من احتمالات الحرب متعددة الجبهات. 
جيلها الجديد لا يحمل حماسة الجيل المؤسس، وينظر إلى الوطن كملجأ مؤقت، لا كأرض مقدسة.
 
وهكذا، يتحول التفوق الظاهرى إلى مأزق داخلي، ويغدو التوسع العسكرى مسرعًا للتفكك السياسى والاجتماعي.
 
قوة مستعارة لا تنتج مشروعًا
 
الكيان الإسرائيلى هو أحد النماذج الكلاسيكية فى التاريخ للدول التى بنيت على القوة المستعارة. 
 
لا يوجد مشروع توسعى يبنى على مساعدات خارجية دائمة، ولا على حماية أمريكية مشروطة بتغير الإدارات والمصالح.
 
لقد تحول الدعم الخارجى من نقطة قوة إلى عبء: الولايات المتحدة تواجه تراجعًا إستراتيجيًا، العلاقات التطبيعية العربية تخلو من الحاضنة الشعبية، وأوروبا تميل تدريجيًا إلى انتقادات صريحة بفعل الضغط الشعبى والمنظمات الحقوقية.
 
حين يفقد الداعم حماسته، ويتراجع الغطاء، تترك الدولة التى لم تبن نفسها من داخلها أمام المصير الذى طالما أجلته بالقوة.
 
المقاومة.. ذاكرة الأرض
 
المقاومة ليست مجرد فعل عسكري، بل منظومة شاملة من الوعي، والكرامة، والقدرة على التضحية، فغزة، رغم الحصار، أثبتت أن القلعة قد تكون صغيرة ولكن لا تؤخذ، والضفة، رغم التنسيق الأمنى والضغوط، تنجب مقاومين من تحت أنقاض الاستكانة، والجنوب اللبناني، لا يزال مثالًا على كيف يتحول الردع إلى ميزان قوة متكافئ؛ وسوريا تحتفظ بجبهة مفتوحة مؤجلة لكنها لم تُغلق أبدًا. 
 
المقاومة هنا مشروع حياة لا رد فعل، وامتداد حضارى لا انفجار غاضب، وكلما حاولت إسرائيل سحقها، ازدادت تجذرًا، لأنها تقاتل من أجل الحق، بينما تقاتل إسرائيل من أجل وهم.
 
مأزق الهيمنة
 
قد يبدو المشهد وكأن إسرائيل تملك كل المفاتيح، لكن الواقع يقول إن مشروعها التوسعى يعيش أزمة بنيوية عميقة، فدولة بهذا الحجم، وبهذه التركيبة، وبهذا الارتهان للخارج، لا يمكن أن تفرض الهيمنة على محيط مقاوم، وجغرافيا عصيّة، وذاكرة لا تموت.
 
فى النهاية، القوة وحدها لا تصنع التاريخ، ومقاومة المحتل، وإن بدت أضعف ماديًا، تملك ما لا تملكه إسرائيل: الحق، والشرعية، والإرادة.. وذلك كافٍ ليهزم فائض القوة، ويسقط سراب الهيمنة.

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام