رئيس مجلس الإدارة:
د.محمد فايز فرحات
رئيس التحرير:
جمال الكشكي
الأحد 25 مايو 2025
نحن والعالم
حياة الناس
سوق ومال
فنون وفضائيات
مقالات
ثقافة
فجر الضمير
المزيد
دائرة الحوار
رياضة
الملفات
أرشيف المجلة
أول الأسبوع
منوعات
Business Leaders
ثقافة
أحمد فؤاد نجم.. الفاجومى بين الفوضى والحياة
27-4-2025
|
20:22
إلهامى المليجى
حين يُذكر اسم أحمد فؤاد نجم، تتجسد صورة الشاعر الشعبى الجرىء، صوت الميادين والحارات، لكن بالنسبة لي، كان أكثر من ذلك بكثير. كان إنسانًا حرًا بالفطرة، بسيطًا فى معيشته، معقدًا فى تناقضاته، يجمع بين بساطة السخرية وعمق الحكمة المولودة من التجربة. لم تكن علاقتى به مجرد لقاءات، بل فصولًا من قصة أوسع، تجلت فيها شخصيته التى تأبى القوالب والحدود.
إلهامى المليجى كانت معرفتى به قبل أن ألقاه، حين سحرتنى كلماته بصوت الشيخ إمام، لم تكن مجرد أشعار، بل صرخات تتحدى الظلم، توقظ الحلم، وتستفز فى داخلى التوق للعدالة. شرائطه التى تسللت إلينا بشغف لم تكن أغنيات، بل أبوابًا تفتح على عالم الثورة والجمال معًا. وعندما تقاطع مسارنا، من دمشق إلى المقطم، من الغورية إلى حوش آدم، وجدت فيه روحًا تعيد صياغة الفوضى إلى إيقاع نابض بالحياة. لم يكن مجرد شاعر، بل تجربة متكاملة، بصمة لا تُمحى فى القلب، قبل أن تُخلَّد فى التاريخ.
المشهد الأول: لقاء يتجاوز التوقعات
دمشق، 1986. لم يكن مجرد لقاء، بل انفتاح نافذة على عالم آخر. حين وطأت قدماه العاصمة السورية، بدا وكأن صوته سبق حضوره، محمولًا على موجات من الترحيب الرسمى والشعبى.
حين التقيته لأول مرة فى أحد فنادق دمشق، وجدت أمامى روحًا مشحونة بطاقة لا تهدأ، حضورًا يجمع بين البساطة والعمق، وبين السخرية الحادة وحكمة التجربة. لم يكن مجرد حديث عابر، بل بداية رحلة ممتدة، عقد غير مكتوب على روحه الحرة. وقعنا اتفاقًا لطباعة ديوانه “أهيم شوقًا”، لكن الحقيقة أن العلاقة التى بدأت بورق الحبر امتدت إلى ما هو أبعد، إلى صداقة ستحملنى إلى أعماقه، حيث الكلمة مقاومة، والشعر معركة، والحياة قصيدة لا تعرف القيود.
المشهد الثانى: الطبع غلّاب
كان حضور نجم فى دمشق طاغيًا، لا يمكن تجاهله. شاعريته الثائرة جعلته حديث المثقفين والشارع، لكنها أيضًا وضعت المسئولين أمام معضلة التعامل مع “فوضاه”، التى لم تكن حالة طارئة، بل أسلوب حياة. شقته فى شارع العابد كانت خلية نحل، تضيق بأصوات السياسة والشعر، تتداخل فيها الضحكات الصاخبة مع إيقاع الأغانى الشعبية، كأنها امتداد طبيعى لروحه الحرة.
لم يكن مستغربًا أن يأتيه اقتراح “ترويضي” من أحد كبار المسئولين: شقة أخرى، بعيدة عن الزحام، مخصصة للقاءات “المهمة”، بدا الأمر محاولة لتوجيه عاصفته إلى مسار أكثر هدوءًا، راقت له الفكرة، ليس كقيد، بل كفرصة للعب لعب بطريقته، بعينين متقدتين، أخبرنى عن “الشقة السرية”، متآمرًا وكأنها خطة حربية.
لكن نجم لم يكن يومًا سرًا، ولم يكن يعرف العزلة. فى صباح اليوم التالى، طرقت الباب بدافع الفضول، وأنا واثق أن أى مكان يسكنه لا يمكن أن يكون هادئًا. فتحت الباب على مشهد مألوف حد الدهشة: الفوضى ذاتها، الزحام ذاته. شباب متوزعون بين النوم والنقاش والتدخين. كانت “الخطة” قد انهارت قبل أن تبدأ، لأن نجم لم يكن يعيش الفوضى، بل كان هو الفوضى ذاتها.
أدركت أن الحرية عند نجم لم تكن شعارًا، بل وجودًا نابضًا. لم يكن يتقمصها، بل يجسدها. كانت حياته لوحة صاخبة، بلا أقنعة.
المشهد الثالث: الفاجومى فى أروقة السياسة
لم تكن شقة أحمد فؤاد نجم فى دمشق مجرد مكان للإقامة، بل صارت ملتقى نابضًا يتقاطع فيه الثائر بالحالم، والمثقف بالسياسى، وحتى رجل الظل، بمن يعيش تحت وهج الأضواء. فى هذا الفضاء المشحون، ظهر عاطف أبو بكر، مسئول الإعلام فى تنظيم “فتح – المجلس الثورى”، جناح أبو نضال الغامض، الذى لطالما أحاطته الاتهامات، بالاغتيالات والعمليات السرية.
وسط دخان السجائر والجدل المحتدم، طرح أبو بكر عرضًا غير متوقع: نشر مذكرات نجم على شكل حلقات فى مجلة “فلسطين الثورة”، لم يكن الاقتراح مجرد تعاون صحفى، بل مغامرة سياسية تحمل بصمات المرحلة.
لم يتردد نجم. بدأ بكتابة الحلقات تحت عنوان الفاجومى، حيث نسج حياته فى مزيج من السيرة الذاتية والسخرية السياسية.
المشهد الرابع: البدلة والجلباب والوزير
كان نجم لغزًا محيّرًا للمسئولين السوريين، لا يعترف بالبروتوكولات، ويفرض إيقاعه أينما حلّ، من بينهم وزير الدفاع مصطفى طلاس، الذى أراد أن “يفهم” ظاهرة نجم.
أرسل طلاس مدير مكتبه، لكنه عاد مستاءً من فوضى الشقة. لم يستسلم الوزير، بل ابتاع بدلة رسمية لنجم، فى محاولة “لتهذيب” حضوره. نجم، كعادته، لم يُقاوم السخرية: ارتدى البدلة فوقها جلبابًا! عندما دخل مدير المكتب، انفجر ضاحكًا، فيما بدا بيانًا صريحًا: نجم لا يُروَّض.
برغم الطابع الكوميدى، نشأت بين نجم وطلاس علاقة استثنائية، حتى قرر الوزير أن تتولى “دار طلاس”، طباعة أعمال نجم الكاملة. لم يكن شاعرًا سياسيًا، لكنه كان رجل موقف، قادرًا على الحوار مع الجميع، دون أن يفقد جوهره.
فى دمشق، كما فى حياته كلها، ظل نجم حيث البدلة تلتقى بالجلباب، والشعر يقاوم القوالب، والكلمة تبقى دائمًا حرة.
المشهد الخامس: مجلة الوطن المصور
فى إحدى الأمسيات المليئة بالنقاشات والأفكار، أخبرنى أبو النجوم بابتسامة مفعمة بالحماسة عن فكرة طريفة ومثيرة: رجل أعمال سوري، اقترح عليه تمويل مجلة جديدة، تكون منصتها فريدة من نوعها فى تناول قضايا السياسة والثقافة. كان الاقتراح مفاجئًا، لكن نجم تلقاه كما اعتاد: بروح المغامر، الذى يرى فى كل تجربة فرصة للابتكار. وبتلك الثقة الفريدة التى ميزت علاقتنا، قال لى: “أريدك أن تكون مدير التحرير. هذه المجلة ستكون مختلفة، وستحمل بصمتنا نحن”.
كان اسم المجلة “الوطن المصور”، كانت تهدف إلى مخاطبة القارئ العربى، مستعرضًة قضايا مصيرية بروح نقدية تجمع بين الجرأة والتحليل العميق. انطلقنا فى العمل على العدد الأول، مدركين أننا أمام مشروع ليس مجرد مجلة، بل منصة تعبر عن أصوات متعددة.
تكريم حسين مروة
اخترنا أن يكون العدد الأول مخصصًا لتكريم المفكر اللبنانى حسين مروة أحد رموز الفكر العربى، الذى أغتيل بوحشية. كان قرارنا محاولة لتخليد ذكرى رجل، أفنى حياته فى الدفاع عن العقلانية والحرية الفكرية. شارك فى العدد نخبة من أبرز المفكرين والكتّاب العرب، حمل العدد رسالة صريحة: أن الفكر الحر أقوى من رصاص الاغتيالات.
الصحفى المبدع
خلال إعداد المجلة، اكتشفت جانبًا جديدًا فى أحمد فؤاد نجم. كان صحفيًا بالفطرة، يجيد صياغة الأفكار وتحويلها إلى مقالات جذابة، لم يكن مجرد شاعر، بل كان كاتبًا بارعًا، قادرًا على تناول مواضيع مختلفة، بروح تجمع بين السخرية والعمق. حتى حين كتب الأبراج، أضفى عليها روحًا فكاهية فريدة، جعلت القارئ يبتسم، وهو يقرأ ما يظنه عادةً قسمًا جامدًا.
المشهد السادس: من حوش آدم إلى المقطم
بعد عودتى إلى مصر ببضعة أشهر، عاد أحمد فؤاد نجم أيضًا، وكأن القدر قرر أن تظل طرقنا متقاطعة، زرته فى غرفته المتواضعة بحارة حوش آدم، حيث وجدته كما عهدته: بسيطًا فى حياته، ثريًا فى حضوره، استقبلنى بترحاب صادق، كأنه يستقبل صديقًا عائدًا من سفر طويل، ثم قرر أن يأخذنى إلى جولة فى حى الغورية، وكأنها طقوس عبور لا بد منها لكل من يقترب من عالمه.
قلب نجم النابض
فى الغورية، لم يكن نجم مجرد زائر، بل كان جزءًا من نسيجها الحى، كل صاحب محل، كل نادل فى مقهى، كان يعرفه ويحييه، وكأنه فرد من العائلة، رأيت فى عيون الناس مزيجًا من الحب والاحترام، وكأنهم يرون فيه صورة مكثفة لأحلامهم وصراعاتهم، لصوتهم الذى لم يخفت يومًا. توقفنا عند مطعم شعبى، حيث تناولنا طعامًا شهيًا وسط حوارات لا تهدأ، ثم ختمنا الجولة بكوب شاى كُشرى على أحد المقاهى، حيث كانت الحياة تتدفق بلا تكلف.
نظر إليّ نجم مبتسمًا، كأنه قرأ فى وجهى الانبهار بهذه التجربة، وقال بنبرة مازحة لكنها عميقة المعنى:
شكلك حبيت الغورية، وهى كمان حبتك. عشان كده، أنا باقترح عليك تستأجر “مكان هنا، وكل ما تتخنق أو تضايق، تيجى الغورية”.
ضحكت، موافقًا على الفكرة دون تفكير، لكنها بقيت حلمًا لم يكتمل، فقد كان الزمن يخبئ لنجم منعطفًا آخر.
من حوش آدم إلى المقطم
حين ضرب زلزال القاهرة البيت الذى كان يسكنه، وجد نفسه مجبرًا على مغادرة حوش آدم، انتقل إلى مساكن الزلزال فى المقطم، وهناك زرته، فوجدت شقته الجديدة مفروشة بأناقة غير متوقعة، لكن الأهم أن روحه لم تتغير. قادنى نجم إلى سطح المبنى، حيث كان قد أنشأ ما أسماه “مجلس قيادة السطوح”، وهو اسم يحمل فى طياته الكثير من السخرية والجدية فى آنٍ واحد.
لم يكن هذا المجلس مجرد مكان للقاء الأصدقاء، بل كان فضاءً مفتوحًا يجمع كل الألوان والخلفيات، حيث لا حدود ولا قيود. كان المشهد أقرب إلى لوحة حية: هنا تجد الفنان والمثقف والمناضل، وبجانبهم العبثى الذى لا يأخذ الحياة بجدية، كانت الفوضى التى أحبها نجم حاضرة، لكنها فوضى من نوع خاص، تمنح الحياة معنى لا يتكرر.
■ ■ ■
ولد فى 22 مايو 1929 فى الشرقية، رحل فى 3 ديسمبر 2013 لكن صوته لم يخفت، وكلماته لم تهدأ. بقيت قصائده نبضًا فى صدور الثائرين، وطلقة فى وجه الظلم. من أزقة القاهرة إلى هتافات المعتصمين، من أحلام البسطاء إلى ذاكرة الوطن، ظل “الفاجومى” حاضرًا، كأن الرحيل لم يمر به أبدًا. الخاتمة لم يكن انتقال نجم من حوش آدم إلى المقطم مجرد تغيير فى العنوان، بل كان استمرارًا لمسيرته كعابرٍ للأمكنة، لكن الثابت الوحيد كان هو: أحمد فؤاد نجم، بروحه التى لم تهتز، وكلماته التى لم تفقد بريقها، ومجالسه التى ظلت مليئة بالحياة، كما لو كان قد خلق ليكون نبضها الدائم.
كلمات بحث
أحمد فؤاد نجم
الفاجومى
الشاعر الشعبى الجرىء
ثقافة
رابط دائم
اضف تعليقك
الاسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
الاكثر قراءة
بعد إعلان الفائزين فى الدورة الخامسة.. «جائزة المبدع الصغير» سلاح فى معركة الوعى
«الغجر».. من سرقة مسامير صلب المسيح إلى قراءة الكف
عبد المنعم القصاص.. فنان أخرج الجمال من صمت الورق
اعلى
< li>
نحن والعالم
< li>
حياة الناس
< li>
سوق ومال
< li>
فنون وفضائيات
< li>
مقالات
< li>
ثقافة
< li>
فجر الضمير
< li>
دائرة الحوار
< li>
رياضة
< li>
الملفات
< li>
أرشيف المجلة
< li>
أول الأسبوع
< li>
منوعات
< li>
Business Leaders
جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام