رئيس مجلس الإدارة:
د.محمد فايز فرحات
رئيس التحرير:
جمال الكشكي
الأحد 25 مايو 2025
نحن والعالم
حياة الناس
سوق ومال
فنون وفضائيات
مقالات
ثقافة
فجر الضمير
المزيد
دائرة الحوار
رياضة
الملفات
أرشيف المجلة
أول الأسبوع
منوعات
Business Leaders
ثقافة
فهمى حسين.. صوت الثورة وضمير الصحافة (1)
30-4-2025
|
19:42
إلهامى المليجى
حين يُذكر اسم فهمى حسين، يتنفس الحبرُ رائحة البارود، وتنهض الكلمات شاهدةً على زمن كانت فيه الصحافة مرآةً للدم والكرامة والاحتمال. لم يكن صحفيًا عاديًا، بل كائنًا من نار وماء، من حبر وعرق ودم، يتنقل بين الخنادق وغرف التحرير كمن يكتب قدر الأمة لا مجرد خبر. هو الصوت الذى لا يخطئه القارئ، والقلم الذى لا يتراجع، والموقف الذى لا يُساوم. حين كان صبيًّا فى الثامنة عشرة، لم ينتظر إشعارًا ولا تكليفًا، بل حمل بطاقة جريدة «المصري» واقتحم مقر قيادة الثورة فجر 23 يوليو 1952، ليكون أحد أوائل الصحفيين الذين شهدوا ميلاد الجمهورية. لم يكن ذلك مجرد سبق صحفي، بل كان إعلان نذرٍ داخلي: أن يكتب من قلب النار لا من ظلالها، وأن يظل وفيًا لما رآه ذات فجر من احتمالات.
وُلد فى بنى حسين بمحافظة الشرقية، وعاش حياته كأنه يردّ للدنيا جميل هذا الانتماء. من القرية إلى القاهرة، من حزب الوفد إلى “حدتو”، من “المصري” و”روز اليوسف” إلى “الرسالة الجديدة”، ومن دار الجمهورية إلى خنادق فايد، ومن جبهة الإسماعيلية إلى بيروت وعمان وتونس، لم يُغادر الميادين. ترك مكتبه خلال العدوان الثلاثى عام 1956، وحمل السلاح إلى جانب الأهالى فى فايد، ثم عاد بعد النكسة ليعتصم فى مجلس الأمة، وليكتب من بين الأنقاض جريدة “المعركة” مع رفيقه يوسف صبري، حيث كانت الكلمة لا تقل نارًا عن الرصاصة.
فى العام 1968، قادته البوصلة إلى فلسطين، إلى الأردن أولًا ثم بيروت، حيث التقى بياسر عرفات ورفاقه، وشارك فى تأسيس إعلام الثورة، فكان من أوائل من وضعوا أسس وكالة وفا، وترأس تحريرها فى مرحلة كانت بيروت فيها قلب النار وعين العاصفة، عرف عنه أنه الصحفى الأقرب إلى عرفات، الذى كان يستدعيه بالاسم، ويأتمنه على ما لا يُقال علنًا. كان يكتب فلسطين كما تُكتَب القصيدة: بشغف لا يخلو من الانكسار، وبإيمان لا يخلو من المساءلة.
لم يكن ناصريًا بالولاء السياسى فقط، بل بالوجدان العميق. ناصر الحلم والطبقة والحقيقة، وواجه فساد ما بعد النكسة بصلابة، فكتب عن “المؤامرة فى القفص” فى محاكمات العسكريين، وانتقد الاتحاد الاشتراكى من داخله، ووقف على الحافة دومًا: قريبًا من الناس، بعيدًا عن المزايدات.
ورغم كل هذا، لم تغب قريته عن وجدانه. يروى ابنه أنه فى يومٍ ما، استأجر دراجة من حى المنيل، وقطع بها ستين كيلو مترًا ليصل إلى بنى حسين، وكأنه يؤكد لنفسه أن المسافة بين المدينة والقرية لا تُقاس بالأميال، بل بالحب.
فى سيرة فهمى حسين، ما يختصر سيرة وطن، وما يُلخّص جيلًا كان الصحفى فيه مناضلًا لا ناقلًا، وشاهدًا لا حياديًّا، وكاتبًا لا موظفًا. سيرة تقول إن الكلمة قد تكون وطنًا، وإن الصحفي، إن صدق، يكون آخر حراس المعنى… وأول شهيد فى محراب الحقيقة.
المشهد الأول: “بيست هوم”... حيث ابتدأت الحكاية
كان أول لقاء جمعنى بفهمى حسين فى أواخر سبعينيات القرن الماضي، فى تلك اللحظة التى كانت فيها بيروت ما تزال تتنفس ما تبقى من هوائها الجميل، رغم كل ما كانت تعيشه من حصار داخلى وخارجي. كانت المدينة يومها تضجّ بالأسئلة والصراع والأنفاس المتقطعة، لكن فى أحد أركانها، فى بناية قديمة تدعى “بست هوم” بشارع الصيدانى المتفرع من شارع الحمرا فى وسط بيروت، كان يسكن رجل يشبه الصفحة الأولى فى جريدة لا تنام.
كنت أقيم فى الطابق الخامس من تلك البناية البيروتية القديمة، بينما كان هو يسكن فى الشقة رقم 44 فى الطابق الرابع. زرتُه للمرة الأولى بناءً على اقتراح مُلحّ من شريكى فى السكن، حسنى أمين، ابن شقيقة الكاتب الصحفى والسيناريست الراحل سيد خميس، الذى كان فى ذلك الوقت قد انتقل من بيروت إلى دمشق، ليتولى هناك تمثيل فرع سوريا من تجمع الوطنيين المصريين فى الخارج، ويشرف على صفحة مخصصة للشأن المصرى فى صحيفة “تشرين” السورية.
حين فتح الباب، لم يستقبلنى كغريب، بل كمن يعرفنى منذ زمن بعيد.عانقنى بعينيه قبل أن تمتد يده، وأدخلنى بيته كما يُدخل ابن البلد إلى عتبة الدار، كان فهمى حسين، فى بيروت، بمثابة “عمدة” غير معلَن للمصريين المقيمين هناك، يُحيط الشباب القادمين من القاهرة بكرم الشرقاوية ودفء القرى، ويوزّع النصيحة كأنها زاد الطريق.
دعانا، أنا وحسني، إلى غداء أعدّه بيديه، رغم أنه كان يوم الأحد، يوم راحته المعتاد، لكنّه كسر طقسه الأسبوعى من أجل لقائي، حين علم أننى أعمل فى إحدى المجلات الفلسطينية. جلسنا إلى مائدة صغيرة، لكنّها كانت عامرة بالمحبة والكلام، وأخذ يحكي، لا ليُظهر تجربته، بل ليزرعها فى تربة جديدة.
أرانى صورًا نادرة من لقاءاته مع عرفات وأبوجهاد وأبو إياد، حكايات عن بيروت، عن الأردن، عن المخيمات، عن اللحظات التى كان فيها القلم يتقدّم البندقية أو يرافقها. لم يتحدث كمن يمنّ، بل كمن يسلّم الشعلة فى طقس صامت من طقوس المهنة النبيلة، بتواضع الكبار الذين لا يرون فى تجاربهم مجدًا شخصيًا، بل أمانة لا بد أن تُنقل.
المشهد الثاني: الحوار الفريد عن أيلول
لم تنقطع علاقتى به بعد انتقالى من “بست هوم” إلى سكن يقع فى طلعة أبو شاكر على مقربة من مسجد جمال عبد الناصر، حيث مقر إذاعة صوت لبنان العربي، القريبة من المقر المركز لحركة الناصريين المستقلين” المرابطون”، على مقربة من شارع الفاكهاني، حيث كانت مكاتب المقاومة الفلسطينية تنبض بالحركة، ومنها مكتب وكالة “وفا” الذى ظل يحمل بصمته. كنا نلتقى كثيرًا، فى الندوات، فى قاعة جمال عبد الناصر بجامعة بيروت العربية، أو على مقهى “أم نبيل”، الذى كان آنذاك ملتقى غير رسمى للصحفيين والمناضلين، حيث يتدفق الحديث بلا مجاملة، وتُصنع المواقف على طاولات بلا رتوش.
فى إحدى تلك الجلسات، كنا نناقش مجازر أيلول الأسود، حين باغتنى بسردية مختلفة، إذ أخرج من ذاكرته حكاية حواره الصحفى الفريد مع منفذى عملية اغتيال وصفى التل رئيس وزراء الأردن الأسبق، ونشره فى روز اليوسف عام 1972، لم يكن حوارًا عاديًا، بل تحقيق متكامل بلغة دامغة، تجاوز فيه الحياد الصحفى المزيّف إلى موقع أكثر صدقًا: الموقع الذى لا يُبرر العنف، بل يفكّكه ويُعيده إلى جذوره، حيث تصبح المجازر هى الجريمة الأولى، والرصاصة ردًّا على المدفع لا رغبة فى القتل.
كان يقول إن التحقيق لم يكن سبقًا صحفيًا بقدر ما كان وثيقة إدانة أخلاقية وسياسية لمهندس مذابح أيلول ، وقد أرفق التحقيق برسم لكف يده، كأنه أراد أن يضع توقيعه بجسده، لا بحبره فقط. تلك الكف التى رسمها، كما قال، كانت شهادة حيّة على أن الصحفى لا يكتب فحسب، بل يُقسم، ويحلف، ويشارك.
كان ذلك الحوار يُدرّس كوثيقة فى الصحافة السياسية؛ كأنه صاغه لا لينشره، بل ليُدوَّن فى سجل من سيتولون الشهادة لاحقًا على زمن الطعنات العربية فى الظهر الفلسطيني.
كان فهمى حسين من القلة الذين عاشوا زمنهم بوعى الحالمين، وكتبوا عنه بصدق المنتمين، ولم يستبدلوا نبرة الصوت العالية بمهادنة، ولا الضمير الحيّ بمصلحة عابرة. ولذلك لا تنتهى حكايته فى بيروت، ولا تُختصر فى مقهى أو مقالة أو صورة مع القادة، بل تمتد إلى ما هو أعمق: إلى التجربة المشتركة فى تجمع الوطنيين المصريين فى الخارج، إلى وقفته إلى جانبى حين تركت مجلة “اليسار العربي”، إلى رسائله وهمساته بعد الخروج من بيروت إلى دمشق، ثم إلى لقاءاتنا العابرة فى شوارع القاهرة، حيث لم يكن يفصل بين بيته ومقر دار النديم سوى خطوات قليلة، لكنها كانت كافية ليظل فى القلب، حيًّا، لا كذكرى، بل كوصية.
نلتقى فى الحلقة المقبلة لنواصل رسم ملامح هذا الوجه الذى لا يموت، لأنه كتبنا، وكتبناه.
الخاتمة الحبر الذى لا يجف
بهذه الملامح الموشّاة بالمعنى والملح، نودّع القسم الأول من حلقة “فهمى حسين” فى وجوه عبر الزمن. لم يكن مجرد صحفى فى جريدة، ولا مجرد اسم بين محررى الأخبار والتحقيقات، بل كان ذاكرة حيّة تمشى على قدمين، وضميرًا مهنيًا حفر بالرصاصة لا بالقلم.
رابط دائم
اضف تعليقك
الاسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
الاكثر قراءة
بعد إعلان الفائزين فى الدورة الخامسة.. «جائزة المبدع الصغير» سلاح فى معركة الوعى
«الغجر».. من سرقة مسامير صلب المسيح إلى قراءة الكف
عبد المنعم القصاص.. فنان أخرج الجمال من صمت الورق
اعلى
< li>
نحن والعالم
< li>
حياة الناس
< li>
سوق ومال
< li>
فنون وفضائيات
< li>
مقالات
< li>
ثقافة
< li>
فجر الضمير
< li>
دائرة الحوار
< li>
رياضة
< li>
الملفات
< li>
أرشيف المجلة
< li>
أول الأسبوع
< li>
منوعات
< li>
Business Leaders
جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام