نحن والعالم



الطبيعة الفلسطينية لم تعد تحتمل الصمت.. حرائق إسرائيل.. غابات الصنوبر تفضح الاحتلال

7-5-2025 | 21:02
إيمان عمر الفاروق

زراعة أشجار الصنوبر بكثافة من أدوات الاحتلال لإخفاء وطمس هوية الجغرافيا الفلسطينية
الصندوق القومى اليهودى قام بزراعتها فى إطار سياسة ممنهجة لاستبدال أشجار الزيتون التى اشتهرت بها الطبيعة الفلسطينية
أشجار غازية دخيلة لا تلائم البيئة الفلسطينية.. كل واحدة منها بمثابة «جالون بنزين»
حرائق غابات جبل الكرمل عام 2010 أشعلت الجدل حول مدى ملاءمة زراعة هذه الأشجار بكثافة فى الأراضى الفلسطينية
 
الحرائق التى شهدتها إسرائيل إبان الأيام الماضية، التى تعد الأكبر منذ سنوات، وتمددت جراء ارتفاع درجات الحرارة والرياح الشديدة، تكشف نيرانها المستعرة عن بعد آخر للاحتلال الإسرائيلى، فبينما تحولت آلاف الأشجار إلى رماد، فقد فضحت التاريخ السياسى الزائف للغابات الإسرائيلية، فكل شجرة صنوبر، تمثل إستراتيجية محسوبة، ومسمومة بنيات الاحتلال الخبيثة، رمزًا للمحو، مستعمرًا صامتًا، أداة لإخفاء التاريخ واستبدال الشعب، لقد كشف الحريق عن تاريخ رهيب، كان مخفيا تحت طبقات من الأساطير، وأكوام من إبر الصنوبر المتساقطة، وبينما تحترق الأشجار، تكشف النيران عن بعد آخر من الحقائق الجغرافية والتاريخية، التى حاول الاحتلال الإسرائيلى دفنها وطمسها، وعلاقة عمليات التشجير بسياسة تهويد الأراضى الفلسطينية، يبرز الحديث عن قابلية أشجار الصنوبر العالية للاشتعال السريع، ويتجدد مع حرائق الغابات التى اجتاحت إسرائيل فى أعوام  2010 و2016 و2021، واليوم فكأنما الأرض تحاول أن تتبرأ وتتمرد، على قهر وبطش الاحتلال الإسرائيلى، فما التاريخ السياسى لغابات الصنوبر؟
 
يروج الصندوق القومى اليهودى منذ تأسيسه، كمنظمة صهيونية عام 1901، لنهج بيئى إقصائى وتمييزى، ضد طبيعة الأرض الفلسطينية، فهو الجهة الرئيسية المسئولة عن إدارة الغابات، وقد قام بزرع نحو 240 مليون شجرة أغلبها من الصنوبر، كانت أشجار الصنوبر بحد ذاتها أدوات إخفاء وطمس للهوية الفلسطينية، قام بزراعتها "الصندوق القومى اليهودى"، بشكل ممنهج فى مواقع مئات القرى الفلسطينية التى أخلتها الميليشيات الصهيونية، بمنتهى الوحشية ودمرتها عام 1948، ومع نمو الغابات حيث كانت البلدات الفلسطينية قائمة جرى خلق انطباع زائف، خطط له وأراده "الصندوق القومى اليهودى"، وهو ما يمثل فى الواقع، أقصى أشكال التضليل البيئى. وجدير بالذكر، أن الصندوق القومى اليهودى، بدأ بحملات التشجير وإنشاء الغابات منذ عام 1920، بالتعاون مع "الجمعية اليهودية لاستعمار فلسطين"، التى أنشأها البارون الصهيونى إدموند روتشيلد.
 
قام الصندوق القومى اليهودى، بغرس مئات الآلاف من الأشجار فوق القرى الفلسطينية المدمرة مثل الطيرة، ولم تكن أشجار الصندوق القومى اليهودى، ملائمة للبيئة الفلسطينية، فمعظم الشتلات التى تم غرسها تحتاج إلى إعادة زراعتها بشكل متكرر، وفى بعض الأماكن قضت أشجار الصنوبر على أنواع نباتية محلية، وألحقت دمارا بالنظام البيئى، وأدى إلى تقليص التنوع البيولوجى، وزيادة حرائق الغابات.
وقد شهد شاهد من أهلها، ذلك أن ياكوف فرانكو - المحامى المتخصص فى تشريعات البيئة الطبيعية - هو الذى قاد إحدى المناقشات العامة الأولى حول تلك القضية عام 2005، فى مقال رأى فى صحيفة "جولدمان ساكس"، بعنوان "سبع مشاكل فى زراعة الصنوبر"، وأشار إلى أن أغلبها أشجار غازية لا تلائم البيئة، كأنه تم فرضها عنوة، وأن كل شجرة صنوبر "هى مثل جالون بنزين"، وتابع قائلا: "لهذا السبب، فإن عود ثقاب واحد يمكن أن يشعل منطقة بأكملها، تمتد من مدينة الخضيرة إلى قرية الجديرة، حيث يحترق السائل الذى ينتقل عبر خلايا اللحاء بالنبات، والمعروف باسم النسغ والإبر، والكوز والجذوع بسرعة رهيبة وتنتشر عبر الأغصان المكسورة بالقرب من الجذر، بما لا يسمح لأى نبات آخر بالنمو".
 
وتم اختيار أشجار الصنوبر، لأنها ذكرت أعضاء الصندوق القومى اليهودى بأوروبا الثلجية، حيث ذكر ديفيد بن جوريون، فى مذكراته، ما نصه "عندما أنظر من نافذتى، وأرى شجرة واقفة هناك، تمنحنى شعورا خاصا أعمق من كل الغابات الشاسعة التى رأيتها فى سويسرا، أو الدول الاسكندنافية"، إنه شكل من أشكال الفصل النفسى للبيئة عن طبيعتها، قسريا على يد المحتل الإسرائيلى.
غير أن حرائق غابات جبل الكرمل، التى اندلعت عام 2010، التى استمرت لمدة أربعة أيام ، وأسفرت عن خسائر كبيرة، أشعلت الجدل حول مدى ملاءمة استخدام الصنوبر فى الأراضى الفلسطينية، بتلك الكثافة، ذلك أنه فى بيئة ذات طبيعة شبه جافة، وقليلة الأمطار، فإنه يغذى انتشار الحرائق بشكل سريع، وهو ما قد يرجع إلى تركيبته الكيمائية، فالأوراق الإبرية للصنوبر تحتوى على مادة التربنتين القابلة للاشتعال بنسبة عالية، فضلا عن أن الأكواز، تزيد من احتمالية الاشتعال، إذ إن اشتعالها بالأساس يؤدى إلى فتح الكوز، فتخرج بذور الصنوبر منها التى بدورها تجدد من الحرائق، وذلك على النقيض من أشجار البلوط، مثلا التى تلائم طبيعة الأراضى الفلسطينية، نظرا لتوافر خصائص مقاومة الحرائق بها بشكل أكبر.
 
ووفق الخبراء والمتخصصين فى الشأن البيئى، فإن زراعة إسرائيل لأشجار الصنوبر بوتيرة عالية، وكثافة كبيرة أسهمت فى تأجيج الحرائق، بخلاف الأنواع الطبيعية الأخرى، التى كانت منتشرة فى الأحراش داخل الجبال الفلسطينية، حيث لم تكن لديها قابلية للاشتعال السريع، برغم البيئة شبه الجافة.
 
وقد تناول المؤرخ الفلسطينى الشهير، محمود محارب، تلك القضية فى كتاباته، مؤكدا أن الحركة الصهيونية، بدأت فى مطلع القرن العشرين إقامة الغابات، والأحراش بتنفيذ من الصندوق القومى اليهودى، للاستيلاء على الأراضى، وجرى استعمال ذلك الأسلوب لمصادرة الأراضى، والقضاء على الأحراش الطبيعية، ومنحها الاحتلال أسماء شخصيات صهيونية لطمس هويتها.
 
موقع ejatlas. org قام بنشر تقرير مفصل عن كيفية استخدام الاحتلال الإسرائيلى زراعة أشجار الصنوبر، كأداة للتضليل البيئى، ويوثق موقع أطلس العدالة البيئية العالمية، الصراعات حول القضايا البيئية ويقوم بفهرستها، وهو منصة تفاعلية إلكترونية، ينسقها ويديرها فريق من الباحثين، المحتوى والبيانات، هما ثمرة عمل مئات المتعاونين حول أشخاص يروون قصص مقاومتهم، أو يرصدون ما يشاهدونه فى جميع أنحاء العالم، ويهدف إلى إبراز تحركاتهم وتسليط الضوء على مطالبهم وشهادتهم، لدعم المساءلة الحقيقة للشركات، والدول عن الظلم الناجم عن أنشطتها.
 
جاء بالتقرير، أنه بالنسبة للاحتلال الإسرائيلى، تمثل "الأشجار سلاحا للمصادرة المستمرة"، كان أولها المذبحة النباتية لمتنزه جبل الكرمل التى شهدت "اقتلاع النباتات الطبيعية لأشجار الزيتون، والخروب والفاكهة التى اشتهرت بها المنطقة، التى زرعها الفلسطينيون لأجيال وأحاطتها بدلاً من ذلك بأشجار الصنوبر عديمة الفائدة"، هذه الأنواع الصنوبرية تتقدم فى السن، وتتطلب المزيد من المياه، وهى أكثر عرضة لمشاكل مثل الآفات والأمراض والحرائق، وتعد أحد الأسباب المهمة لحرائق بعض الغابات، التى اجتاحت إسرائيل، مثل موجة عام 2016، هو أن أشجار الصنوبر معروفة جيدًا بدرجة عالية من قابليتها للاشتعال، خصوصا فى بيئة قاحلة مثل مناخ المنطقة، وكان لليهود الاشكناز دور كبير فى زراعة هذا النوع من الأشجار، بدلاً من الأنواع المتوطنة، توفر زراعة أشجار الصنوبر الأوروبية، تمثيلًا مرئيًا للادعاءات الإسرائيلية الزائفة فى المنطقة، وكان الهدف منها جعل الأرض تبدو كأنها امتدادا لأوروبا، غالبًا ما يتم الاستشهاد بالجبال السويسرية.
 
تجدر الإشارة إلى أن شجرة الصنوبر، التى يزرعها الصندوق القومى اليهودى، هى أنواع من أشجار صنوبر غريبة دخيلة، إنها سياسة متعمدة ممنهجة باستبدال أشجار البلوط، والسنديان والزيتون التى اشتهرت بها الطبيعة الفلسطينية بأشجار الصنوبر الأوروبية الشاهقة، ويستخدم الصندوق القومى اليهودى، هذا التكتيك للاستيلاء على المزيد من الأراضى من خلال استخدام الأشجار لتغطية القرى المدمرة.
 
فى اجتماع عقد فى نوفمبر 1965، فى مكتب شموئيل توليدانو، مستشار رئيس الوزراء للشئون العربية، كان هناك نقاش حول القرى الفلسطينية، التى لا يرغب الاحتلال الإسرائيلى فى إعادة توطينها، وفقًا لإحدى الوثائق، ولضمان ذلك، قام الصندوق القومى اليهودى بزراعة أشجار الصنوبر حولها وفى داخلها، بعد هدم المبانى، وزراعتها بالغابات على أنقاض قرى فلسطينية هُدمت وطُرد أهلها من أراضيهم.
 
وهكذا تحرق حرائق الغابات الأساطير، والأوهام الزائفة، التى حاول الاحتلال الترويج لها، وطمس الهوية الفلسطينية بسياج من أشجار الصنوبر الدخيلة كالمحتل، فالأرض لم تعد تحتمل الصمت، وكان لابد لها من الاحتجاج.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام