ثقافة



يحدق فى وجوه الهامش وهو على أبواب الثمانين..‬ على عاشور: الإنتاج الفنى كثير .. لكن الفن نادر‬

7-5-2025 | 21:17
⢴ ‪ ‬ سيد محمود

 

‫الفن وسيلة للتحرر من الخوف‬ لا أنافس أحدا ولا أدعى الريادة‬
‫سيف وانلى ظل عالميا إلى يومه الأخير وهو من أخذ بيدى وعلمنى‬
الفن لغة للتعبير عن الموقف الإنسانى القاعات الخاصة تحرص على تسليع الفن ‫أشتاق إلى رؤية القاهرة من نافذة حسن سليمان ‬
‫لا أملك قدرات الكاتب وأحب الحوار مع علاء خالد وعادل السيوى‬
‫من يفتقر للدراما فى أعماله يفتقر إلى الفن‬

 

 
‫قبل أن يبلغ عامه الثمانين بشهور قليلة، أقام الفنان التشكيلى السكندرى على عاشور معرضا للوحاته بعنوان (وجوه الهامش)، وذلك فى جاليرى زهوة بوسط القاهرة.‬
‫وجذب المعرض جمهورا كبيرا من المهتمين، نظرا لندرة المعارض التى قدمها الفنان عبر مسيرته.‬
‫وعلى الرغم من تميز الأعمال وجدارتها، فإنها تبدو شبه مجهولة لمن هم خارج الأوساط التشكيلية، نتيجة عزوف صاحبها عن الإعلام، بالإضافة لندرة المعارض التى قدمها فى القاعات الخاصة التى تحدد خيارات الجمهور العام وتحكم توجهاته فى سياسات الاقتناء.‬
درس عاشور فن التصوير فى القسم الحر، على يد أساتذة من كبار فنانى التصوير بالإسكندرية وهم الفنانون: كامل مصطفى - سيف وانلى - حامد عويس،‬ ‫واستطاع طوال 60 عاما من الممارسة الفنية أن يحظى بمكانة متميزة، جعلت تجربته  بمثابة منارة أخرى لمدينة حافلة بالعطاء.‬
ينظر مبدعو الإسكندرية لعاشور، بوصفه حالة إنسانية فريدة، تفيض بنوع نادر من الإخلاص، وبرغم ما يشيعه من رضا فى نفوس من حوله، فإن روحه لا تعرف راحة، وتخوض صراعا لا يهدأ مع خياراته الفنية، التى تشهد تحولات لا حدود لها، فكل لوحة يرسمها مغامرة تعطى ظهرها لما أنجزه فى السابق.‬
 
اعتدت على رؤية أعمال على عاشور وتأملها فى زيارات متعددة، لأن كل وقفة أمام لوحاته تمثل مقابلة مع روح لا تستطيع الإفلات من سحرها، لا تستطيع تفادى السكينة التى تغمرها كما لا تستطيع تجنب (الفخ) الذى ينصبه، لأن ما يستهدفه هو “النبش“ داخل الروح ومعرفة ما تهجس به.‬
‫يقف عاشور ضد الفهم الضيق لمفهوم الأسلوب، لأنه يحد من حرية الفنان، فحين يبتكر الفنان طريقة للأداء، يخشى أن يتمرد عليها بزعم ألا يتعرف الناس على أعماله.‬
‫لذلك يفخر الفنان بتجربته الطويلة لأنها حافلة بتحولات كثيرة، ولم تستسلم لفخ التنميط.‬
 
يبدو الأسلوب عنده أقرب لنهر متعدد الروافد، يبتكر لنفسه مسارا جديدا كلما واجه ما يعطله، وبالتالى فإن جميع تحولاته هى تأكيد على بصمة تميز أعماله، وهذه البصمة لا تستسلم للركود.‬
‫وعندما ينظر لتجربته وهو على وشك الدخول للثمانين، يجدها مليئة بالتحولات الصادقة، والتى يمكن أن تشم فيها رائحته وتدرك (سكته) بقدر من الاستبصار.‬
 
‫التنوع الخلاق‬
 
يقرب على عاشور فكرته فى حواره معى ويعود لأعمال بابلو بيكاسو، التى قسمها النقد إلى مراحل وإلى تحولات لتيسير دراستها.‬
‫لا يعنى هذا التقسيم أن تلك الأعمال تقع خارج منهجه، أو لا تعبر عن طعمه ومذاقه الفنى.‬
‫لذلك آمن عاشور بوحدة المنهج وتنوع المثير والمسارات، ويلفت إلى أنه لا يملك تفسيرا لذلك التنوع.‬
‫ويقول “هناك طبائع داخل كل واحد منا، تعبر عن نفسها فى صور مختلفة”‬
‫ بدأ العمل الفنى منذ نهاية الستينيات، لكن تجربته عرفت   انقطاعات كثيرة يرجعها إلى الظروف المعيشية، التى افتقد معها فرصة التفرغ للفن أو حتى العمل من داخل مرسم مستقل.‬
‫ يحتاج الفن إلى ممول لذلك، فإن الفنان لعب دائما أكثر من دور، فهو الساحر والقبعة والكتكوت، بمعنى أنه اضطر دائما للعمل فى مجالات ليست لها صلة بفنه، لكى يتمكن من امتلاك الحرية التى تؤهله لرسم ما يرضى عنه.‬
‫ بعد مرور سنوات يبدو عاشور فخورا بما أنجز فى رحلته.‬
 
‫ضد التسليع‬
‫ بشهادة النقاد والفنانين، تميزت أعمال عاشور بقدرتها على مزج الأساليب والشغب مع الأسطح، لتستجيب إلى الخلطات اللونية المذهلة التى تجعل من اللوحة بناء متعدد الطبقات.‬
‫على الرغم من ذلك فقد ظل عزوفا عن عرض لوحاته فى قاعات العرض الخاصة والجاليرهات وفضل العروض الجماعية أو داخل المراكز الثقافية، إضافة إلى الأتيليه فى الإسكندرية والقاهرة أحيانا.‬
‫يبرر عاشور ذلك مؤكدا أنه اختار التعامل مع نفسه، فى مسافة غامضة بين الهواية والاحتراف ويقول “الفن عندى موقف ضرورى ووجودي، كما أنه لغة للتعبير عن الموقف الإنساني”‬.
‫ويضيف: “منذ أن عملت بالفن وأنا أؤمن تماما بهذه الفكرة، لذلك لم أفكر أبدا فى العرض التجارى، ولم أستجب لفكرة الاقتناء لأن التركيز فى هذا الأمر يعطل الإبداع ويدفع الفنان للتفكير فى أشياء تقع خارجه”‬.
‫ ‬تغيرت تلك القناعة قبل خمس سنوات فقط، واستجاب الفنان لإلحاح الأصدقاء وعرض أعماله للاقتناء من داخل قاعة خاصة، سرعان ما اختلف معها بسبب حاجته لمعرفة الأشخاص الذين آلت إليهم أعماله.
 
دفاعا عن حرية الفنان‬
‫يحرص عاشور على استقلاله الفنى وعلى عزلته، التى حالت دون تورطه فى مفهوم المنافسة والصراع برغم تأثيره الواسع فى المجتمع الثقافى السكندرى.‬
‫كما يشعر بالكثير من الاعتزاز بهذا الاستقلال رغم ضريبته، مؤكدا أنه غير نادم أبدا على خياراته، ولو أتيح له أن يكررها لفعل دون تذمر أو استياء.‬
يرفض سياسات القاعات الخاصة، وينتقد حرصها البالغ على تسليع الفن ويشير إلى أن بعض القاعات ترفض إبلاغ الفنان بالمصير الذى انتهت إليه لوحاته المباعة، كما ترفض الكشف عن أسماء المشترين برغم أنها تسلم الفنان مستحقاته الفنية دون تذمر أو تحايل.‬
 
‫ ويلفت إلى أنه اختلف مع القاعة التى عرض فيها قبل سنوات لهذا السبب بالتحديد، فهو مهتم بمصير لوحاته، ويحب أن يعرف أسماء من يقتنون أعماله، ويقول”لوحاتى تمثل جزءا من روحى وتاريخى ومنهجى وأحب أن أعرف مصيرها على الأقل حرصا على توثيقها، لا سيما وأننى لا أكرر أعمالى ولا أرسم لوحة تشبه لوحة أخرى، وكل قطعة أنجزها أتعامل معها كقطعة نادرة”‬
‫ويضيف “يؤسفنى تماما أن يقبل الفنانون ما تلجأ إليه بعض الجاليرهات حين تعمد إلى تجاهل حق الفنان فى معرفة مصير لوحاته خوفا من وجود صلة بينه وبين المقتنى تلغى وساطة القاعة”‬
‫لست فى مواجهة مع أحد‬
‫ لم يكن الموقف الذى اتخذه عاشور فى مواجهة أحد، فهو بتعبيره “خارج المنافسة” كما لا يدعى ريادة من أى نوع، ناظرا إلى تجربته الفنية كمن ينظر إلى خلاصة الروحى، معتبرا أن التزامه مع فنه هو الضرورة، وإذا لم تتوافر الطاقة الروحية اللازمة لذلك، فعليه أن يتوقف ويضيف :” إذا لم أرسم يلازمنى التعب“.‬
‫حين سألت على عاشور عن أسلافه من الفنانين الذين أثروا فى مسيرته، وساهموا فى بناء وعيه بتجربته، يتذكر على الفور معلمه الفنان كامل مصطفى عميد كلية الفنون الجميلة إبان دراسته بالإسكندرية، كما لا يتوقف عن تعداد مآثر الفنان سيف وانلى الذى يراه عالميا أنتج بغزارة دون أن يتخلى عن تميزه وبقى عظيما‬
‫ويأسف عاشور لأن هناك الكثير من لوحات الأخوين وانلى تم تزييفها، كذلك ينظر إلى الفنان التشكيلى الراحل حسن سليمان كصديق حميم ويقول “ كنا قريبين، برغم أننى أرسم بشكل يختلف عنه تماما، لكنه أحبنى وظل يداوم على زيارة مرسمى القديم فى عمارة المخرجة الراحلة أسماء البكرى قرب المتحف اليونانى الروماني.‬
 
‫كان يأتى ويقعد على الأرض، وينظر إلى لوحاتى، ثم يسألنى “أنت بتتعاطى إيه علشان ترسم بالشكل دا”‬
يضيف عاشور “بعد لقائنا الأول أصبحنا صديقين واعتدت زيارته، فقد كنت أحب النظر إلى القاهرة من نافذة مرسمه، وحين أتذكرها الآن أشعر بوحشة الفقد”‬.
‫ولا ينسى أبدا الأثر الذى تركه الود الموصول بينه وبين فنان كبير مثل حامد ندا.‬
‫ويقول “كنت أذهب لهؤلاء الفنانين باحثا عن شيء محدد، فقد ذهبت لكامل مصطفى لتطوير مهاراتى فى الرسم، لكنه أكد لى قدراتى ولكنى تعلمت منه الإجادة، لأنه رسام قوى، أما حامد عويس فأردت أن أتعلم منه معمارية السطح وما يلزمها من توازن واستقرار”‬.
‫ضد الكتابة‬
‫بعد 60 عاما من الممارسة الفنية المتنوعة، لم يفكر عاشور فى كتابة نص نظرى حول تجربته مكتفيا ببعض الشذرات التى يكتبها عبر (فيس بوك) ويقاوم بها إلحاح الأصدقاء الذين أحاطوا تلك الممارسة بالاهتمام والحوار وأولهم الشاعر علاء خالد‬.
 
‫كما لا يشعر بأن بداخله أداء الكاتب برغم أن لديه ديوانا شعريا كتبه أوائل التسعينيات، نال اهتمام الكثيرين لكنه قاوم هذا الاهتمام بسخرية وقال “لست شاعرا وأحب العمل بالفرشة مثل أى نقاش”‬.
‫وفى الوقت نفسه، يشعر بالغنى الناتج من صحبته التى امتدت مع الأدباء والفنانين العاملين فى حقول أخرى، لأنه آمن منذ البداية بوحدة الثقافة وضرورة أن تتجاور التجارب الإبداعية لتنمية فكرة الحوار.‬
‫يقول عاشور “ربما كانت دائرة أصدقائى من الأدباء والمسرحيين أكثر اتساعا من التشكيليين”‬.
 
ويتذكر كيف عمل فى بداياته فى أعمال مسرحية كثيرة، قدم فيها رؤيته التشكيلية بدلا من استعمال كلمة ديكور، ولذلك ينظر إلى نفسه كمجدد فى هذا المجال، ويوضح “لغيت كلمة ديكور وبدأت استعمال عبارة رؤية تشكيلية التى حلت محلها الآن كلمة سينوغرافيا، كما دخلت نقاشات كثيرة حول معنى التشكيل على المسرح ولى كثير من التعريفات التى استعملتها فى هذا المجال كما حصدت أكثر من جائزة“‬.
‫يتذكر أن بداياته فى مجال المسرح، جاءت بفضل أستاذه سيف وانلى الذى شده إلى هذا العالم، مستغلا شغفه بقراءة النصوص المسرحية، ثم دعاه للعمل معه ومساعدته فى إنجاز الرؤية البصرية لأعمال مسرحية كثيرة.‬
 
‫ويشير إلى أنه زار خلال سنوات الدراسة متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية، وتوقف أمام لوحة لوانلى بعنوان «المغنى» وشعر بما فيها من طاقة درامية، لأن صاحبها كان يقول دائما: “من يفتقر للدراما فى أعماله،يفتقر إلى الفن”.  ‬
‫ ‬‫ الخوف من وانلي‬
‫خاف على عاشور من وقوعه تحت تأثير أعمال وانلى، لذلك لعب معه لعبة لذيذة، وقرر أن يغطس فى دراسة أعمال فنانين آخرين، وكلما زاره عرض عليه لوحات منجزة بأساليب مختلفة ومتنوعة وبعد كل زيارة يقف وانلى أمام طلابه ويقوم بتحليل تقنيات العمل وأسلوب الفنان الذى استلهمت تقنياته، وبهذه الطريقة اكتشف عاشور أن التلميذ يستطيع الحصول من أستاذه على ما يريد، بشرط أن يكون الأستاذ مؤهلا للعطاء ومستعدا له“‬.
‫ بذل على عاشور ما يستطيع ليثبت تفرده أمام أستاذه الكبير، ويقول: “حين تركت العمل معه احتجت لفترة طويلة حتى أصفى عينى من الوانلية، أى تأثير عائلة وانلى، وحرمت نفسى من رؤية أعمالهم لنحو عامين”‬.
 
‫ ‬يتذكر عاشور بقدر كبير من السعادة الكلمة، التى قالها له سيف وانلى بعد أن شاهد معرضه الأول بالمركز الثقافى السوفيتى بالإسكندرية، وكان ذلك عام 1974، فقد وقف وانلى أمام تلميذه وسأله: “أنت تاخرت فى عرض شغلك فى معرض خاص ليه؟”.
‫ ‬ظل هذا السؤال يلاحقه طوال مسيرته، لكنه يرد دائما بإجابة واحدة “أحب أن أنجز أعمالا كثيرة و متكاملة تجيب عما يشغلنى من أسئلة وأنا أنفذها “.
بدون عنوان‬
لا يضع عاشور عنوانا للوحات التى يعمل على تنفيذها، كما لا يبدأ بفكرة أو إسكتش تخطيطى، بل يترك روحه لما يسميه “الهاجس الذى يقود”‬.
يبدأ دائما من تصور أولى ثم يبدأ التفاوض مع السطح فى مغامرة مفتوحة، فالسطح عنده ليس أداة كما يعتقد البعض، وإنما هو طرف فى حوار يتسم بالندية إلى أن تنضج الفكرة وتكتمل فى شكل لوحة تصل إلى ما يسميه بـ”الرعشة المضيئة”.‬
 
‫ينشغل عاشور عموما بالقضية الإنسانية وما يدور حولها، مؤمنا أن ما ينتجه من فن يأتى دائما لمواجهة الخوف، فالوقوف أمام السطح محاولة للتحرر.‬
‫ولا يحب كذلك الاستسلام لمرحلة أو تقنية أو أسلوب، كما لا يستسلم للخلطة اللونية المتاحة، ويقوم بتصنيع الألوان التى يرغب فى اكتشاف طاقتها، ويخلط عادة المائيات مع الألوان الزيتية ويقول: “جزء كبير من التفرد يأتى من اختراع اللون، وفى العادة أذهب إلى السطح مباشرة لرؤية الأثر، لا أنتظر اللون الذى أعرفه بل أتطلع إلى اللون الذى أحلم به لدعم تجربتى “‬.
‫  سألت على عاشور عن الفنان الذى يحب أن يتحاور معه نظريا حول الفن، فرد بسرعة “يمكن عادل السيوى لأنه ثقافته أكبر من حدود اللوحة وأستمتع دائما بالحديث معه“‬.
‫ ويضيف: “قلت للسيوى ذات مرة إن هناك إنتاجا فنيا كثيرا، لكن الفن قليل”‬.
 
‫ويشرح لم أقصد بهذا الحكم إدانة مرحلة أو تجربة بعينها وإنما هو شعور يراودنى أحيانا أطبقه على نفسى كما أطبقه على الآخرين.‬
 
يشعر على عاشور بسعادة غامرة بفضل استجابة الجمهور لأحدث معارضه فى جاليرى زهوة بوسط القاهرة، وأكثر ما لفت نظره تعبير قالته سيدة وقفت أمام إحدى لوحاته وقالت: “أريد أن أدخل فى اللوحة ولا أفارقها أبدا”، كما تمنت الشاعرة غادة نبيل لو نامت مستلقية على كنبة تتوسط القاعة وهى تنظر إلى السقف محتفظة بما أوجدته اللوحات من طاقة روحية”‬.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام