ثقافة



محمد المخزنجى.. بعين طائر وقلب لا يصرخ.. كتب صمته

15-5-2025 | 16:02
إلهامى المليجى

فى زمنٍ صاخبٍ يعلو فيه ضجيج الكلمات الخاوية، ويضيع الأدب فى زحام السرد المعلَّب، يطل محمد المخزنجى كصوتٍ نقيٍ من زمنٍ آخر، يحمل من الحكمة بقدر ما يحمل من الحنان، ومن العلم بقدر ما يحمل من الحلم. كاتبٌ يعرف كيف ينسج الحكاية بحرير اللغة، وكيف يوقظ الدهشة من ثنايا التفاصيل اليومية. هو الطبيب الذى تمرَّد على سماعة العيادة ليصغى إلى نبض العالم، لا نبض الجسد فقط، فكتب كما لو أنه يُجرى جراحة فى النفس، أو كأن كل قصة يكتبها هى وصفة لتضميد جراح الإنسان.
 
درس الطب وتخصص فى الطب النفسي، ثم سافر إلى الاتحاد السوفيتى ليستكمل دراسته العليا فى طب نفس الأطفال فى كييف، وهناك عاش سنوات التكوين الأدبى الحقيقي، حيث بدأ يكتب القصة القصيرة بأسلوب مختلف، يمزج بين الرؤية العلمية والدقة النفسية والخيال الأدبي، ويُسخّر اللغة لتكون أداةَ كشف لا مجرد وسيلة سرد، وقد صدرت له منذ ذلك الحين مجموعات قصصية بارزة جعلت اسمه يتألق بين كتاب القصة فى العالم العربي.
 
لم يكن المخزنجى مجرد كاتب قصة، بل كان صاحب مشروع ثقافى وإنسانى متكامل، عبَّر عنه من خلال مقالاته المنتظمة فى مجلة «العربي» الكويتية، تلك النافذة الواسعة التى أطل منها على قرائه العرب لسنواتٍ عديدة، يكتب عن البيئة والطبيعة والمجتمعات والطب والحرب والسلام، بأسلوب يمزج بين الرصانة العلمية وحرارة المشاعر، بين دقة الطبيب ورهافة الشاعر.
تميّزت كتاباته بعمق التجربة، وصفاء الرؤية، وبصيرة قادرة على النفاذ إلى جوهر الأشياء. ولم يكن معنيًّا بالمبالغة أو الزخرفة، بل بالجمال الكامن فى البساطة، والدهشة المنبعثة من التفاصيل الصغيرة. وفى كل ما كتب، ظل صادقًا مع نفسه، نقيًا فى لغته، عميقًا دون تعقيد، دافئًا دون ادّعاء.
 
إنه واحدٌ من أولئك الذين لا يثيرون الضجيج حولهم، بل يتركون الأثر فى صمت، كالنهر العميق الذى لا تسمع له صوتًا، لكنه يغذى الأرض ويمنحها الحياة.
لكن ما يلي، ليس سيرة لمحمد المخزنجي، ولا استعراضًا متكلفًا لمسيرته، بل هو ما بقى عالقًا فى الذاكرة من مشاهد وقصص جمعتنى به، كإنسانٍ قبل أن يكون كاتبًا، وكصديقٍ عابر ثم قريب، ثم بعيد، ثم باقٍ فى الوجدان. 
 
المشهد الأول: دهشة العين من قاسيون.. وصمت القلب عند بردى
عرفته للمرة الأولى فى ساحة جامعة المنصورة فى سبعينيات القرن الماضي، خلال اجتماعات كانت تضمنا فى «النادى الوطنى الديمقراطي» الذى كان يؤطر الطلاب اليساريين من كليات متعددة. 
كان وقتها لا يزال طالبًا فى كلية الطب، ولفتنى أنه قليل الكلام، أقرب إلى الصمت المراقب. لكن الأدهى أنه كان أحيانًا، وسط ذلك الزحام الفكرى والسياسي، يمشى على يديه حول المجتمعين، علمت لاحقًا أنه كان يمارس رياضة الجمباز.
ظلّت العلاقة بيننا عارضة، دون خصوصية، حتى جاء من كييف فى عطلة دراسته العليا التى كان يقضيها فى جامعتها، متعمقًا فى طب نفس الأطفال، جاءنى عبر البحر من اللاذقية، ومنها إلى دمشق، حيث كنت أقطن وحدي. استضفته فى شقتي، وهناك بدأ التعارف الحقيقي. كان دقيق الملاحظة، حتى تفاصيل محيط الشقة لم تفُتْه، وانتبه لجبل قاسيون من زاوية لم ألحظها من قبل. أظنه كتب لاحقًا قصة عن هذا الجبل وحى ركن الدين حيث كنت أسكن.
 
كان يميل إلى التأمل، وله طقوس خاصة فى الكتابة؛ يبدأ بإعداد إبريق كبير من الشاى يضعه بجواره ويظل يشرب منه طوال ساعات الكتابة، ويستخدم القلم الرصاص دون غيره، وكان يتمتع بحس نقدى ساخر عالٍ، يزن كلماته بميزان دقيق. وذات مرة زارنى أحمد فؤاد نجم، وكان اللقاء بين نقيضين: نجم، بصوته العالى وضحكاته المجلجلة، والمخزنجى بهدوئه وصوته الخفيض وتنظيمه اللافت للنظر، اقترح نجم إعداد صينية بطاطس، ووافق المخزنجى بلطف قائلاً إنه يصلح كمساعد طباخ، لا أكثر، فالطبخ لم يكن هواه. ومع ذلك، أبدى إعجابه بالطعام، وبعد أن غادرنا نجم، سألته باستغراب عن رأيه، خصوصًا أن الطعم لم يكن طيبًا والملح كان زائدًا، فرد بهدوء: «أولًا، أنا لست ذوّاقًا ولا من محبّى الأكل، فسيّان عندي. وثانيًا، لا يليق أن يقول المرء عن طعام بذل صاحبه جهدًا لإسعادنا إنه ليس طيبًا.»
تلك الإجابة كشفت لى عن جانب مهم من شخصيته: لم يكن صداميًا، خصوصا فى الأمور غير الجوهرية، وكان يؤمن أن الكلمة الطيبة جزء من الذوق والاحترام.
واكتشفت جانبًا آخر من شخصيته لم أكن أتوقعه: محبته العميقة للحيوانات. كنت أربى عصافير كناريا آنذاك، وقد أبدى انزعاجًا حقيقيًا من رؤيتها داخل قفص، لم يعظني، بل فتح نقاشًا راقيًا عن الحرية والاعتياد، كان حديثه مؤثرًا كفاية لأن يدفعنى إلى فتح القفصين. المفاجأة أن اثنين فقط من العصافير الأربعة خرجا، لكنهما لم يبتعدا، بل طارا على ارتفاع منخفض داخل الغرفة، ثم حطّا على كرسيين قريبين. عندما اقتربت منهما، لم يُبديا أى مقاومة. نظر إليّ وقال بابتسامته الهادئة: «لقد أصبحت عادة... لا أكثر».
 
وبقى منشغلًا بالأمر حتى بعد مغادرته، وعندما التقيته فى مصر لاحقًا، فوجئت بكمّ المعلومات التى أصبح يعرفها عن الكناريا، وربما كتب عنها مقالًا فيما بعد، لا أدري.
لم يكن من هواة الخروج، لكنه كان ينجذب للأمكنة المفتوحة، حيث الهواء الطلق والأشجار والمياه. أحب سوريا كثيرًا، وكان يبتهج حين نزور أماكن كـ»عين الفيجة»، النبع الذى يمد دمشق بمائها. فى إحدى المرات، جلسنا سويًا قرب نهر بردى، وتأمله طويلًا، ثم سأل بدهشة صادقة: «أهذا هو النهر الذى تغنّى به أحمد شوقي؟!»، ثم أضاف متأمّلًا: «الشعراء يرون ما لا نراه، ينقلونه إلينا بخيالهم الخصب ولغتهم البديعة.»
 
المشهد الثاني: كتب عن ضبٍّ مشع وابتسم فى حضرة الحزن
حين عاد محمد المخزنجى من كييف إلى مصر، كان يحمل فى قلبه ما يشبه المرارة الثقيلة. لم يكن انفجار مفاعل تشرنوبل مجرد كارثة بيئية فى نظره، بل صدمة أخلاقية وإنسانية عميقة، أغضبته كما لم يغضبه شيء من قبل. كان يتحدث عنها بشيء من الحنق، لا على الطبيعة، بل على الإهمال البشري، على استخفاف الأنظمة بمصائر الناس، وعلى استهتار السلطة بالحياة. قرأ الحدث بعين من عاش فى كييف، وتنبّه لتفاصيله المباشرة وغير المباشرة، وكان مما قاله لى حينها إنه يرى فى ذلك الانفجار بداية النهاية للاتحاد السوفييتي، لا من باب التحليل السياسي، بل من واقع معاش وتواصل مباشر مع الناس، خصوصا فى موسكو وكييف، حيث كانت الشروخ قد بدأت تظهر بوضوح فى جدار الإمبراطورية الحمراء.
التحق بالعمل فى مستشفى العباسية للصحة النفسية، وكان لا يزال يقيم فى المنصورة، فيأتى إلى القاهرة فى بداية الأسبوع ليبيت فى المشفى، ثم يقضى أيام الإجازة معى فى شقتي، هكذا استمرت العلاقة بيننا فترة قصيرة لكنها كثيفة التفاصيل، إذ كان يأتى محمّلًا بقصص المستشفى، بعضها لا يُصدّق، وبعضها أقرب إلى الكوميديا السوداء.
كان يحكى لى عن نزلاء المستشفى ومواقفهم، وعن تداخل الجنون بالعقل، والسخرية بالحكمة، وكان يضحك أحيانًا وهو يروي، لكن ضحكته دائمًا ما كانت محاطة بشيء من الشجن، كأنه يرى فيهم – دون أن يقول – ضحايا أكبر من مجرد تشخيص نفسي. كنت أراه فى تلك اللحظات كاتبًا يختبر الحياة فى أقسى تجلياتها، ليعود منها بحكايا لاذعة، يمزج فيها الطرافة بالأسى، والدهشة بالتأمل.
وحين التقانى فى القاهرة بعد سنوات من الغياب، كشف لى عن أمر لم يفاجئنى كثيرًا: أنه وقع فى غرام سوريا، وزارها أكثر من مرة بعد مغادرتى لها، كان فى حديثه دفء المحبّ، وشيء من الاعتزاز الطفولي. أخبرنى – ببساطته المعهودة – أنه تعلّق بإحدى بنات مدينة حمص، وغالبًا سيرتبط بها.
 
ثم، بعد انقطاع طويل، صادفته مصادفة أمام نادى القاهرة القريب من دار الأوبرا، فعرفت أنه بالفعل تزوّج من التى تعلّق بها، ويقيم معها فى أحد ضواحى جنوب القاهرة. تبادلنا الأحاديث والضحكات وتواعدنا على إعادة التواصل، لكن أيضًا انقطع التواصل من حينها. لا أدرى سببًا مباشرًا، لكنه – كما يبدو – من تلك الانقطاعات التى تحدث دون قطيعة، وتبقى رغم الصمت على هيئة ودّ معلق فى الذاكرة.
 
ذاكرة تمشى على أطرافها
ثمة أصدقاء فى الحياة نلتقيهم مصادفة، ونقترب منهم كثيرًا، حتى نظن أن هذا القرب سيستمر، وأن فى العلاقة شيئًا من النداء القديم، أو من توقٍ دفين لا نعرف مصدره. لكن الحياة، بمفارقاتها التى لا تفسر ولا تُفسَّر، قد تأخذ كل طرف فى اتجاه، حتى يحدث التباعد، ثم الصمت، ثم الغياب، لا لأن بيننا خصامًا، ولا لأن الود انطفأ، بل لأن الريح قررت أن تأخذ السفن إلى مرافئ أخرى.
الخاتمة كان محمد المخزنجى واحدًا من هؤلاء. صديقًا حضر بقوة، وتسلّل بهدوء، دون ضجيج وداع أو قطيعة معلنة، لكنه ظل، كما عرفته دومًا، كاتبًا يتقن الإصغاء لما لا يُقال، ويعرف كيف يمنح التفاصيل الصغيرة لغة تُقيم طويلًا فى القلب.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام