رئيس مجلس الإدارة:
د.محمد فايز فرحات
رئيس التحرير:
جمال الكشكي
الأحد 15 يونيو 2025
نحن والعالم
حياة الناس
سوق ومال
فنون وفضائيات
مقالات
ثقافة
فجر الضمير
المزيد
دائرة الحوار
رياضة
الملفات
أرشيف المجلة
أول الأسبوع
منوعات
Business Leaders
مقالات
ثلاثية الغبار والمغول
21-5-2025
|
16:56
مهدى مصطفى
غبار كثيف يعلو سماء المنطقة العربية، لا يشبه العواصف الموسمية التى يعرفها الفلاحون، غبار رمزى كثيف، يخفى الخرائط، ويطمس الملامح.
سقطت المنطقة فجأة من سقف القرن الحادى والعشرين إلى قبو قرون مظلمة، كأن التاريخ نفسه خانه الزمن، وأعاده بالقوة إلى مشهد المغول وإخوتهم التتار، لا أسوار تحمي، ولا مدن تصد، ولا ذاكرة تتذكر الدرس.
فى القرن الثالث عشر، اجتاحت ثنائية المغول والتتار المدن العربية بوحشية مكشوفة، على صهوات الخيل، بالسيوف اللامعة، بصراخ المعارك، بجماجم البشر التى صنعوا منها جسورا لعبورهم.
أما مغول وتتار اليوم، لا يصرخون، لا يركبون الخيل، يصلون فى طائرات خاصة، يعزفون موسيقى ناعمة فى مؤتمرات الأمن، يتحدثون عن السلام، يوقعون اتفاقيات من ورق، يقتلون وهم يبتسمون، يشعلون الحروب باسم الديمقراطية، يفتتون المدن تحت رايات الشفافية، يوزعون العقائد الجاهزة مثل الحبوب المسكنة، يعلمون أبناءنا كيف ينسون آباءهم.
لم يأتوا فجأة، كانوا يتسللون منذ زمن، فى كتب التعليم، فى شاشات الأطفال، فى أغان لا أحد يفهم معناها، فى تطبيقات تراقب، توجه، تبنى عقلا جديدا، لا يعرف ما الوطن، ولا من العدو، ولا لماذا مات الذين ماتوا.
دخلوا من السماء عبر الأقمار الاصطناعية، من البحر عبر القواعد، من الهواء عبر الأخبار المصنعة فى معامل الغرب الأقصى، صار كل شيء هشا، وكل شيء مباحا.
فى زمن سابق، كانت مصر صامتة، تراقب، تتأمل ما يجرى خارج حدودها، ثم تخرج فجأة، كما خرجت فى وجه ثنائية المغول والتتار عند عين جالوت، أوقفت الانهيار، أعادت صياغة الخريطة، لم تفعل ذلك لأنها الأقوى، لأنها أدركت أنها إذا سقطت، سقطت كل القلاع بعدها، تلك هى وظيفة القلب، لا يتوقف حتى لو سقط الجسد.
أما اليوم، فنخسر مدينة تلو أخرى، بغداد لم تعد بغداد، دمشق تنام على ركام تاريخها، صنعاء تجرح فى القلب، غزة تباد كأنها فى ثأر قديم مع فكرة العدالة، طرابلس يجهزون لها جيلا معلبا، الخرطوم يسرقون نيلها بليل، بيروت ينهبون موسيقاها فى وضح النهار.
لم يعد الغزو فيزيائيا، عقليا وروحيا، صنعوا نخبا فكرية على أعينهم، علموهم كيف يخجلون من هويتهم، كيف يستبدلون بلغتهم لغة أخرى، وبأسمائهم رموزاً رقمية، علموهم كيف يشتمون ماضيهم، يقفون طوابير أمام السفارات.
ظن المغول والتتار الجدد أنهم نجحوا، وضعوا السيناريو، نفذوه بإتقان، صنعوا رجالا من كارتون، عقائد من دخان، ملأوا مفارق الطرق بإعلانات الحرية المصنوعة فى المصانع نفسها التى تصنع السلاح، ظنوا أن الأمة انتهت، أن كل ما تبقى هو إدارة أنقاض، تدوير معارك، احتواء الغضب.
لكنهم نسوا درس التاريخ، نسوا الهكسوس، نسوا الحيثيين، نسوا غزاة البحر.
لسنا أمة بلا ذاكرة، ننسى أحيانا، نعم، نتعب، نتراجع، نتنازل، لا نهزم، فى داخلنا مناعة قديمة ضد الهزيمة، نصاب بنكسة، ننكسر مؤقتا، لا نتبخر، نقف فجأة من تحت الرماد، تماما كما تفعل النار حين يظن أنها خمدت.
أرض العرب ليست فتاتا على مائدة التاريخ، فمن هذه الأرض خرجت الأفكار التى صارت عقائد، خرجت الرسالات التى غيرت وجه الزمن، من هذه الأرض نفسها سيخرج جيل جديد، لا يحفظ أناشيد الماضى فحسب، بل يكتب أناشيد المستقبل، جيل يرى بعينين لا غبار عليهما، يميز بين الغزاة والمصلحين، بين الابتكار والاستعمار، بين التقدم والزيف.
مغول وتتار القرن الحادى والعشرين لا يريدون الأرض وحدها، يريدون الوعي، يريدون عقولا بلا أسئلة، قلوبا بلا انتماء، يريدون أمة بلا معنى، أو رموز، أو ذاكرة، لذلك يستهدفون الأسماء والتواريخ، يشوهون الصور، يعيدون إنتاج اللغة، يريدونها أمة فى قفص، حتى لو نسجوه بخيوط من حرير.
لكن، هناك من يرى، هناك من يسمع، هناك من يستعد، الغبار لن يبقى طويلا، كل غبار فى التاريخ مصيره أن ينقشع، ما يبقى هو الأرض، والحق، والذين لم تنم أعينهم بعد.
رابط دائم
اضف تعليقك
الاسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
الاكثر قراءة
العدمية السياسية.. مرض خطير
جوائز متلاحقة!
شهداء البطون الخاوية
اعلى
< li>
نحن والعالم
< li>
حياة الناس
< li>
سوق ومال
< li>
فنون وفضائيات
< li>
مقالات
< li>
ثقافة
< li>
فجر الضمير
< li>
دائرة الحوار
< li>
رياضة
< li>
الملفات
< li>
أرشيف المجلة
< li>
أول الأسبوع
< li>
منوعات
< li>
Business Leaders
جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام