رئيس مجلس الإدارة:
د.محمد فايز فرحات
رئيس التحرير:
جمال الكشكي
الأحد 15 يونيو 2025
نحن والعالم
حياة الناس
سوق ومال
فنون وفضائيات
مقالات
ثقافة
فجر الضمير
المزيد
دائرة الحوار
رياضة
الملفات
أرشيف المجلة
أول الأسبوع
منوعات
Business Leaders
ثقافة
عبد المنعم القصاص.. فنان أخرج الجمال من صمت الورق
21-5-2025
|
20:48
إلهامى المليجى
(1)
فى رحلتى الطويلة بين الكلمات والصور، قلّما التقيت بفنان يجيد الإصغاء إلى صمت الصفحة كما كان يفعل عبد المنعم القصاص، لم يكن مجرد فنان تشكيلى، ولا فقط مصممًا صحفيًا بارعًا، بل كان روحًا مرهفة تسكن خطوط الحرف ومساحات البياض، وتحوّل الإخراج الصحفى إلى ضربٍ من الموسيقى البصرية
.
ولد عبد المنعم القصاص عام 1927، فى زمن مشحون بالأسئلة الكبرى، فكان لا بد أن يتفتّح وعيه الفنى والسياسى معًا، على خلفية مشهد عربى يعج بالثورات والتحولات. منذ شبابه الأول، لم ينفصل القصاص عن قضايا وطنه، بل كان شاهدًا وفاعلًا فى مفاصلها الأساسية، من مقاومة العدوان الثلاثى فى بورسعيد إلى محطات النضال الفلسطينى واللبنانى فى بيروت.
فى عام 1956، حين اجتاحت القوات المعتدية مدينة بورسعيد، لم يحمل القصاص السلاح، لكنه حمل سلاحًا لا يقل خطورة: الكلمة المصورة. كان أحد الفاعلين فى الجبهة المتحدة للمقاومة الشعبية، وتولى مسئولية إصدار جريدة “الانتصار”، التى لم تكن مجرد نشرة حائطية، بل نافذة حرة ومُلهمة فى قلب زمن الحصار.
أما فى بيروت، فقد تولى القصاص مهمة سكرتير تحرير مجلة “اليسار العربى”، التى كانت منبرًا لليساريين والثوريين العرب، ومقرها حيث كان يقيم، فتحول بيته إلى ملتقى حيوى لقيادات وكوادر المقاومة الفلسطينية بكل تنويعاتها، من حركة فتح إلى الجبهة الديمقراطية، وغيرهم من رموز الحركة الوطنية اللبنانية، من الحزب الشيوعى إلى الحزب القومى، إلى الثوريين العرب، كان ذلك الفضاء مساحة تفاعل فكرى ونضالى، أسهم فى تشكيل الوعى السياسى لجيل كامل.
لكن ذروة تأثيره، كما عرفته عن قرب، كانت فى عالم الإخراج الصحفى هنا، كان القصاص أستاذًا حقيقيًا، لم يكن يرى الصفحة إلا بوصفها لوحةً صامتة تبحث عمّن يمنحها نبضًا، كان يدقق فى المسافات بين العناوين والصور، كما يدقق الموسيقى فى علامات الصمت بين النوتات. يؤمن أن الجمال لا يُفتعل، بل يُكتشف. وأن الإخراج الجيد ليس زينة، بل رؤية كاملة للموضوع وروحه.
لم يكن القصاص يوجه ملاحظاته كمخرج تقنى، بل كفنان يتعامل مع الورق كأنه كائن حى، علّمنى أن كل تفصيلة لها معنى: اختيار الصورة، موقعها، علاقتها بالعنوان، وحتى حجم الفراغ المحيط بها، “دع الصفحة تتنفس”، كان يقول لى، وهو يتأمل العمل قبل الطباعة كما يتأمل عاشقٌ وجه حبيبته.
كان عبد المنعم القصاص مثقفًا موسوعيًا، يعزف على العود، ويتحدث عن الموسيقى كما يتحدث عن الرسم والسياسة والناس، صوته كان هادئًا، لكنه نافذ، لا يرفع نبرة صوته، لكنه يترك أثرًا لا يُمحى، كان يقرأ فى الفنون كما يقرأ فى الفكر، وفى قضايا الوطن كما يقرأ فى ملامح العابرين.
فى حضرته، كنت أشعر أن الإخراج ليس مهنة، بل حالة شعورية، وأن الفنان الحقيقى لا يكتفى بأن يُتقن أدواته، بل يعيشها.
المشهد الأول: عين فنان ودفء أب
جاء عبد المنعم القصاص إلى بيروت مع انتقال مجلة “اليسار العربى”، من باريس إلى العاصمة اللبنانية، وهناك قدّمنى له المخرج التسجيلى والمسئول الحزبى فؤاد التهامى، لأكون ضمن فريق عمل المجلة، إلى جانب عملى آنذاك فى مجلة “الفجر الجديد”، التى كانت تصدر عن الشبيبة الديمقراطية التابعة للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
منذ اللقاء الأول، نشأ بينى وبين القصاص تقارب روحى سريع، كان دافئًا فى استقباله، أبويًا فى تعامله، ووديًا إلى حد الشعور بالألفة الفورية، بعد أيام قليلة من تعارفنا، طلب منى أن أترك عملى فى “الفجر الجديد”، وأن أتفرغ للعمل فى “اليسار العربى”، ثم فاجأنى بقوله: «أرى فيك عين فنان»، واقترح أن أتحول من العمل التحريرى إلى الإخراج الصحفى، وكانت تلك النقلة بمثابة تحول محورى فى حياتى المهنية.
كان عبد المنعم القصاص فى موقع أشبه بمدير التحرير الفنى، وهى صيغة نادرة فى الصحافة، إذ كانت علاقته بالمواد المنشورة تأتى مباشرة بعد رئيس التحرير ميشيل كامل، ويتمتع بمساحة واسعة من الحرية فى التعامل مع النصوص والمواد البصرية. كان يرسم الماكيت بنفسه، وكنت أساعده فيه بعدما علّمنى أصوله، ولم يكن يبخل علىّ بأى تفصيل.
بناءً على تكليفه، كنت أقوم بتصحيح النصوص فى المطبعة بمساعدة الصحفية الراحلة إجلال عبده، زوجة الكاتب الكبير الراحل سمير كرم. كان نظام الطباعة آنذاك لا يزال يعتمد على الحروف الرصاص، فكنا نقضى الساعات الطويلة داخل المطبعة نُعيد ترتيب الحروف ونضبط المسافات، كأننا نحرس ولادة كل عدد من المجلة.
أدركت بعدها، أن الصحفى الذى تبدأ رحلته من المطبعة، حيث تنبعث رائحة الأحبار الساخنة وتتناثر حروف الرصاص كأنها نُسخ أولى من الحلم، هو صحفى يرى فى وقع الأحرف نغمةً خفية، وفى كل سطر نبضًا منسجمًا مع إيقاع داخلى لا يسمعه سوى العاشقين للحرفة هناك، فى دهاليز المطابع، يتكوّن الحس الإبداعى كما تتكوّن القصيدة فى رحم الصمت.
المشهد الثاني: الروشة.. حيث يُعدّ الفطور كما تُرسم اللوحة
من فرط محبته ووده وحديثه الشيق، كان يومى يبدأ دائمًا فى شقة عبد المنعم القصاص الواسعة التى انتقل إليها لاحقًا، وكانت تقع فى الطابق الرابع عشر بمنطقة الروشة، من شرفتها، كنت ترى مساحات واسعة من البحر والسوق الشعبية العشوائية على شاطئ الروشة، وكانت أصوات الأغانى المنبعثة من المحلات تصعد إلينا فتملأ الأفق حياة.
فى ذلك الزمن، كانت أغنية راغب علامة “بدنا نتجوز ع العيد” تُبث عشرات المرات فى اليوم، فكنا ندندن بها ونتبادل النكات الساخرة عنها، مع ضيوف البيت الكثيرين الذين تحوّلوا إلى أصدقاء دائمين.
كان القصاص يُصرّ على أن نتناول الإفطار معا، وكان فنانًا بحق فى تحضير الطعام، لا يقل إبداعه فيه عن الرسم أو الإخراج، يفتح شهيتك ويُسعد بصرك، ويحوّل أبسط المأكولات إلى طقوس محبة، وعلى الرغم من أن “اليسار العربى” كانت مجلة شهرية، فإننى كنت أزوره يوميًا تقريبًا، بدافع من إلحاحه وحرصه على أن أكون بجانبه.
كنت أتأمله بصمت وهو يرسم، خصوصا فى فن البورتريه الذى برع فيه بإتقان مدهش، وكان شديد الفرح حين وصله شريط كاسيت من ابنته الطفلة ياسمين يحمل معزوفاتها على البيانو، ظل أيامًا يحدثنا عنها وعن موهبتها، يفتخر بها وينصت معنا إلى العزف مرارًا، على الحائط، كان يعلق «بورتريه» لياسمين، وآخر لابنه حسن، الذى كان من ذوى الاحتياجات الخاصة، كان القصاص يتغزّل بذكاء ياسمين وجمالها، ويتحدث عن حسن بحب وحنان كبيرين.
وبرغم هذه الرقة والروح الفنية العالية، كان صارمًا فى العمل، لا يقبل تأخيرًا ولا تساهلًا فى التصحيح أو الإخراج، تعلمت منه أن الانضباط جزء من الجمال، وكان يُشدد على دقة التصحيح الطباعى، خصوصا أن المجلة كانت تنشر مقالات لكبار المفكرين والكتّاب العرب: محمود أمين العالم، غالى شكرى، أديب ديمترى، عصام خفاجى، حسين مروة، مهدى عامل، فيصل دراج وغيرهم، أما الغلاف، فكان من إبداع الفنان الكبير جورج البهجورى.
حين يصبح الفن حياةً كاملة
هكذا كان عبد المنعم القصاص، ليس مجرد مخرج صحفى بارع أو فنان تشكيلى موهوب، بل إنسانًا يحمل فى أعماقه بهجة الفن وسكينة الروح فى حضرته، كانت الحياة تتخذ شكلاً آخر، أكثر صفاءً، أكثر أناقة، وأكثر التزامًا، لم يكن يفصل بين الجمال والانضباط، ولا بين العاطفة والدقة، علمنا أن التفاصيل الصغيرة تصنع العظمة، وأن الصمت فى الصفحة قد يكون أبلغ من ألف كلمة.
فى الجزء الثانى والأخير من هذه السيرة المضيئة، سنتوقف أمام تجربة فريدة فى حياته: تأسيسه لمجلة “المعركة” أثناء العدوان الإسرائيلى على بيروت عام 1982، مستلهمًا الفكرة من تجربته السابقة خلال العدوان الثلاثى على بورسعيد، وهى فكرة ناقشها مع الكاتب الفلسطينى زياد عبد الفتاح، ثم شرعا معًا فى تنفيذها.
الخاتمة سنتابع أيضًا لقاءاتنا المتعددة فى القاهرة بعد عودته من اليمن، حيث أقام لفترة بعد خروجه من بيروت، وسنزور مرسمه الريفى فى كنج مريوط، ذلك المكان الذى كان بمثابة امتداد لروحه، وملاذه الأخير قبل أن يغيب جسده وتبقى روحه معلّقة على جدران ذاكرة لا تشيخ.
رابط دائم
اضف تعليقك
الاسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
الاكثر قراءة
يحيى يخلف.. وجه لا يتخلى حين يختفى الآخرون (2)
اعلى
< li>
نحن والعالم
< li>
حياة الناس
< li>
سوق ومال
< li>
فنون وفضائيات
< li>
مقالات
< li>
ثقافة
< li>
فجر الضمير
< li>
دائرة الحوار
< li>
رياضة
< li>
الملفات
< li>
أرشيف المجلة
< li>
أول الأسبوع
< li>
منوعات
< li>
Business Leaders
جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام