ليست حياة عبد المنعم القصاص سيرة فنان فقط، بل حكاية مثقف عربى لم يتردد فى الاصطفاف حيث يجب أن يكون الشرفاء، وإذا كان الجزء الأول من هذه الحلقة قد أطلّ على ملامحه الشخصية، ومسيرته المهنية، وما امتلكه من حس فنى مرهف وثقافة واسعة، فإن الجزء الثانى يأخذنا إلى منطقة أشد التباسًا، وأكثر توهجًا: إلى لحظات الاختبار الكبرى، حين تشتعل الحروب، وتغدو الكلمات غير كافية، فينزل المثقف من برجه، ويضع روحه على كفّه.
فى هذه المساحة، نرى القصاص فى بيروت، عشية الاجتياح الإسرائيلى عام 1982، يتقدّم الصفوف لا بالبيانات والخطب، بل بالفعل الصامت الحاسم، حاملًا قلمه إلى قلب الجبهة، ومؤمنًا بأن التصميم يمكن أن يكون سلاحًا، وأن الفن ليس ترفًا فى زمن الدم، بل ضرورة.
هنا تبدأ حكاية الفنان الذى لم يهرب من العاصفة، بل دخلها بكامل وعيه، واختار أن يبقى شاهدًا، وشريكًا، ومقاتلًا من نوع خاص.
المشهد الثالث: عبد المنعم القصاص –الفنان والمناضل فى قلب العاصفة
لم يكن عبد المنعم القصاص مجرد فنان تشكيلى، أو مصمم صفحات بارع، كان مثقفًا عضويًا بالمعنى العميق للكلمة، لا يفصل بين الإبداع والنضال، ولا بين الجمال والموقف، وحين دقّت طبول الحرب على أبواب بيروت فى صيف 1982، لم يتردد فى خوض المعركة على طريقته، بالكلمة، والصورة، والتصميم، وبكل ما تمنحه إياه أدواته الفنية من قدرة على التعبئة والتأثير.
فى مجلة “المعركة”، التى ولدت من رحم لحظة شديدة القسوة، كان القصاص يوقّع كل عدد بروحه، يبيت الليالى بين أكوام الصور، يختار العناوين، يعيد تشكيل الصفحة كمن يعيد ترتيب شظايا الواقع، باحثًا عن المعنى وسط الفوضى، كان يرى فى المجلة أكثر من مجرد مطبوعة، كانت بالنسبة له خندقًا متقدمًا فى معركة الكرامة، لم يكن يتعامل مع التصميم كزخرفة، بل كنداء مقاومة، يحمل غضب بيروت، ووجع الجنوب، وصبر الفلسطينى فى المخيمات.
وبرغم أن الظروف دفعتنى لاحقًا لترك العمل فى المجلة والانتقال إلى جريدة “النداء”اللبنانية، فقد ظل التزامى بالمواجهة قائمًا، لا بالكتابة وحدها، بل أيضًا بالبندقية إلى جانب عملى الصحفى، شاركت كمقاتل فى كتيبة الثوار العرب التى كانت تتمركز فى باحة الجامعة الأمريكية ببيروت ويقودها القائد الفلسطينى وليام نصار، وتحديدًا عند الجهة المطلة على شاطئ المتوسط هناك، حيث كنا نحرس البحر من محاولات الإنزال الصهيونى التى استهدفت التسلل إلى قلب العاصمة واختراق جبهة المقاومة الفلسطينية من الخلف، كانت البندقية تصافح الحبر، ويتعانق الموقف مع الفعل.
ومع تزايد ضراوة القصف، واقتراب شبح الاجتياح الكامل، واحتكام الحصار على شرق بيروت، بدأ العد التنازلى لقرار الخروج، غادر عبد المنعم القصاص إلى عدن، بصحبة الكاتب الصحفى والمناضل سليمان شفيق، يحملان معهما ما تبقّى من حلم، وبعض دفاتر الذكريات، ووجع المدينة التى قاومت حتى الرمق الأخير، وبعدها ببضعة أيام، غادرتُ أنا بيروت على متن باخرة متجهة إلى ميناء طرطوس السورى، أراقب من على سطحها خيوط الدخان تتصاعد من المدينة، وكأنها تلوّح لنا بوداع صامتٍ موجع.
انقطعت بيننا سبل اللقاء لسنوات، تفرّقت الدروب والمنابر والخرائط، لكن حين عدتُ إلى مصر، كان أول ما فعلته أن طرقت باب شقته القديمة فى شارع معروف، وسط القاهرة، لم يتغير كثيرًا؛ كانت ملامحه كما تركتها، مزيج من الطيبة والحزن، وابتسامة تعرفك جيدًا حتى دون أن تتكلم. جلسنا نسترجع ما تبقى من بيروت، ومن القصاص الذى ظل فنانًا فى زمن الحرب، ومناضلًا فى زمن الجمال.
المشهد الرابع: كأننا لم نفترق أبدًا
عندما التقيته للمرة الأولى بعد سنوات الغياب، فى شقته القديمة بشارع معروف، كان المشهد كأنما أزيح الغبار عن لوحة محببة لا تزال تحتفظ بألوانها الأصلية، لم يكن ثمة عتاب ولا تساؤلات مؤجلة، فقط ابتسامة دافئة وسؤال مباشر عن مشاريعى المقبلة، أخبرته بأننى التحقت بالقسم الفنى فى جريدة الأهالى، فبادر بعرض كريم: “أتحدث إلى صديقى الفنان عبد الغنى أبو العينين ليسهل لك أمورك إن احتجت”، شكرته بلطف وأخبرته أننى على وشك مغادرة الأهالى، وأننى أفكر فى خطوات مختلفة.
ثم نادى على رفيقة دربه، الكاتبة الصحفية الكبيرة والمناضلة والنقابية، أمينة شفيق، أطال الله فى عمرها، وقدّمنى لها بكلمات دافئة تعبّر عن محبته وتقديره لي، قائلاً: “هذا صديق قديم، ورفيق بيروت، وقلبه ملىء بالحبر والنار، سيصبح له شأن فى الكلمة والصورة”.
رحبت بى الأستاذة أمينة بلطفها المعهود، وكانت ابتسامتها كفيلة بأن تذيب أى مسافة، ومنذ تلك اللحظة، استمر تواصلى معها، وتعمقت معرفتنا، ونشرت لها لاحقًا كتابًا فى دار النديم، لكن لتلك العلاقة الجميلة حديثًا آخر، سنفرده فى حلقة قادمة تستحقها عن جدارة.
منذ ذلك اللقاء، تواصلنا وتعمقت صداقتنا أكثر. دعانى إلى زيارته فى ضاحية كينج مريوط، قرب برج العرب والعامرية، حيث كان يقيم فى بيته الريفى الجميل بيت هادئ، تتعانق فيه الطبيعة مع الفن؛ هناك كان مرسمه، وهناك كنّا نأكل معًا تحت شمس ناعمة أو فى ظل أشجار الحديقة الصغيرة الملحقة بالبيت، حيث يتفنن هو فى إعداد المشاوى أو الأكلات الشرقية التى يعشقها، كان الطبخ بالنسبة له طقسًا إبداعيًا آخر، يوازى الرسم فى دقته ودفئه.
أقنعنى يومًا بشراء بيت ريفى على مقربة منه، جاء أحد أبناء كينج مريوط من العرب البدو، واتفقنا، ودفعت له المبلغ مقدمًا، لكن عندما عدت إلى القاهرة، لم ترق الفكرة لزوجتى آنذاك، كما لم يشجّعنى بعض الأصدقاء المقربين، فتراجعت، ومع ذلك، لم تنقطع زياراتى له، وظل القصاص مصدر إلهام وأخًا كبيرًا أستشيره فى شئونى المهنية والخاصة، بعين الفنان وصدق الإنسان.
كان من أكثر المؤيدين والداعمين لفكرة إنشاء دار النديم للنشر، كان يؤمن أن النشر “صناعة ثقيلة”، كما كان يردد دائمًا، وأننا بحاجة ماسّة إلى دور نشر تنويرية تواجه المد الأرهابى الزاحف، الذى اتخذ من دور النشر أحد أخطر أدواته لاختراق الوعى العربى وتزييفه.
قبيل أن يطوى عام 1996صفحته الأخيرة، غادرنا عبد المنعم القصاص، بصمتٍ يشبه ملامحه، وهدوءٍ يشبه نبله، لكنه لم يغادرنى أبدًا، لا هو ولا أثره، سيظل صوته، وفنه، ووجهه المشع بالحكمة والإخلاص، حاضرين فى ذاكرتى ما بقى الدهر.
ظله الذى لا يغيب
كان عبد المنعم القصاص أكبر من أن يختزل فى مهنة، أو يؤطر فى لقب. لم يكن مجرد مصمم بارع أو فنان تشكيلى مميز، بل كان مشروعًا إنسانيًا وجماليًا متكاملًا، تتجسد فيه صورة المثقف الذى حمل قضايا أمته فى قلبه وضميره، ولم يتخل عنها فى زمن الانهزام أو الصمت، عاش حياته منسجمًا مع ذاته، لا يساوم على ما يؤمن به، ولا يرفع صوته إلا حين يكون للحق قضية، وللجمال دور.
لم تكن علاقته بالفن ترفًا ولا هروبًا من الواقع، بل كانت فعل مقاومة. يرى الصورة مساحة للتعبير، والتصميم رسالة، والكتاب قارب نجاة. لم يسع يومًا إلى الأضواء، ولا تهافت على الجوائز، بل آثر العمل بصمت، ينجز بروح المحب، ويتوارى بروح الناسك، وكان فى كل ما يفعل، يسكنه هاجس الجمال والعدل معًا.
وحين أتأمل اليوم سيرة هذا الرجل الذى جمعتنى به الصدفة أول مرة، ثم جمعتنى به التجربة والنضال والصداقة لاحقًا، أدرك أننى كنت محظوظًا، محظوظًا لأننى عرفت إنسانًا نادرًا فى زمن يتكاثر فيه الزيف، فكان هو الحقيقة، عرفت فنانًا لا تشبهه إلا أعماله، ومثقفًا لا تخطئه البوصلة، ورفيقًا يسكن القلب ولو غاب الجسد.
رحل عبد المنعم القصاص قبل أن يدرك كثيرون قيمته، لكن من عرفوه عن قرب، ومن تلامسوا مع أثره الإبداعى والإنسانى، يدركون أن أمثاله لا يرحلون حقًا يظلّون بيننا، بصمتهم، برسالتهم، وبظلهم الذى لا يغيب. لم يكن حضوره محصورًا فى زمان أو مكان، بل امتدّ ليقيم فى الذاكرة، وفى القلب، وفى كل ما تركه من أثر نبيل وجمال صادق.
الخاتمة لعلّ كلمات جلال الدين الرومى تعبّر عن هذا المعنى خير تعبير، حين قال:
“”لقد رحل الجسد، لكن نوره باقٍ... لا تبحث عن القبر فى الأرض، إن روحه فى قلب من أحبّه.”
هكذا يظل عبد المنعم القصاص... نورًا لا يبهت، وصوتًا هادئًا لا يغيب.