مقالات



يهود ضد الصهيونية

3-6-2025 | 21:54
د. عمرو بسطويسى

يشهد العالم كله فى الآونة الأخيرة، ذلك الجموح اليمينى المتطرف فى إسرائيل، الذى انتهز أحداث السابع من أكتوبر 2023، واتخذها مبرراً أخلاقياً لتنفيذ كل ما هو غير أخلاقى، حيث لاقى فى بداية الأمر دعماً أوروبياً وأمريكياً فى حربه ضد فلسطينيى غزة، فإن التمادى فى تدمير البنية التحتية للقطاع، والتهجير القسرى، والتجويع والقتل الجماعى، دون تفرقة بين عسكرى ومدنى وطفل، جعل العالم الحر فى نفس الدول التى أيدت إسرائيل سابقاً فى حرب غزة، تتراجع عن ذلك التأييد، وتندد بالهمجية الإسرائيلية، كما لاحظنا أيضاً تحول العديد من الإعلاميين والسياسيين الأوروبيين والأمريكيين، إلى مساندة الحق الفلسطينى، بعد أن كانوا عكس ذلك أو على حياد.
 
ومن هنا يحق لنا أن نتساءل عن مدى التأثير السياسى، والثقافى والفكرى لإسرائيل، على العقلية الأوروبية والأمريكية؟ والتى جعلت شعوب وقيادات هذه الدول، تتأخر فى إدراك طبيعة الفكر الصهيونى، والذى يدركه أطفال العرب، قبل عواقلهم وبسهولة.
ولعلنا نعزى هذا الأمر، إلى تكريس الصهيونية العالمية، لذلك الالتباس الكبير فى العقلية الغربية، بين مفهوم اليهودية كديانة روحية قديمة، والصهيونية كحركة سياسية ذات أهداف قومية واستعمارية، ذلك الالتباس، الذى بات يُستثمر سياسياً بصورة منهجية، يُفضى غالبًا إلى تجريم أى انتقاد يُوجَّه إلى السياسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطينى، بحجة ‪”‬معاداة السامية‪”‬، ولعل البعض لا يدرك وجود طيف واسع من الجماعات اليهودية، ترفض الصهيونية، وتُدين الاحتلال، وتنتصر للعدالة وحقوق الإنسان.
 
والحقيقة أن اليهودية، كديانة توحيدية سماوية، ضاربة بجذورها فى أعماق التاريخ الإنسانى، تتأسس على منظومة من التعاليم الدينية والأخلاقية، التى تبلورت عبر آلاف السنين، فى التوراة والتلمود وكتب الحاخامات، أما الصهيونية، فهى حركة سياسية حديثة نسبيًا، نشأت فى أواخر القرن التاسع عشر، على يد ثيودور هرتزل وآخرين، كرد فعل على معاداة اليهود فى أوروبا، لكنها اختارت أن تترجم معاناة اليهود إلى مشروع قومى استيطانى فى فلسطين، يقوم على منطق ‪”‬العودة إلى أرض الميعاد‪”‬، بمفهومه السياسى لا الدينى، متجاهلةً السياق التاريخى والسكانى للمنطقة، ومستخفةً بحقوق أهلها الأصليين.
ومن المفارقات الكبرى أن الصهيونية، عند نشأتها، لم تكن محل إجماع بين اليهود أنفسهم، بل إن قطاعاً واسعاً من الحاخامات الأرثوذكس عارضها بشدة، واعتبرها خروجاً صريحاً عن العقيدة، فوفقًا للفهم الدينى التقليدى، فإن اليهود لا يجوز لهم إقامة دولة قبل مجىء ‪”‬المسيح المنتظر‪”‬، وأية محاولة لفرض واقع سياسى بالقوة، تُعد تمرداً على الإرادة الإلهية.
 
من بين هؤلاء، برزت جماعة ‪”‬ناطورى كارتا‪” ‬ او “Neturei Karta”، التى تأسست فى القدس عام 1938، ولا تزال حتى اليوم ترفع شعار ‪”‬اليهود الحقيقيون ليسوا صهاينة، والصهاينة ليسوا يهوداً‪”‬، وتحمل لواء المعارضة الدينية لدولة إسرائيل، وتُشارك فى تظاهرات داعمة للفلسطينيين، سواء فى واشنطن أم لندن أم حتى فى طهران.
وبعيداً عن ‪”‬ناطورى كارتا‪”‬، ثمة جماعات يهودية حديثة ذات طابع تقدمى وإنسانى، تنشط فى أوروبا وأمريكا الشمالية، وتُعبّر عن تيارٍ متنامٍ فى أوساط الجيل اليهودى الجديد، الرافض لمنطق الاحتلال، والمناصر للحقوق الفلسطينية، من منطلق أخلاقى وإنسانى بالدرجة الأولى.
 
ومن أبرز هذه الجماعات هى جماعة ‪”‬الصوت اليهودى من أجل السلام‪ Jewish Voice for Peace (JVP) ‬، وهى منظمة أمريكية تناضل من أجل العدالة وحقوق الإنسان فى فلسطين، وتدعو لإنهاء الاحتلال، وتؤيد حركة المقاطعة، وقد وصل عدد أعضائها، ومؤيديها إلى مئات الآلاف، خصوصا فى الأوساط الجامعية والحقوقية.
وهناك أيضاً الشبكة اليهودية الدولية لمناهضة الصهيونية، ‪ InternationalJewishAnti-Zionist Network (IJAN)‬ وهى شبكة دولية تأسست عام 2008، وتُدافع عن الحقوق الفلسطينية وترى فى المشروع الصهيونى، مشروعًا استعماريًا يجب تفكيكه، أما جماعة ‪»‬يهود ضد الصهيونية» Jews Against Zionism، فهى مظلة فكرية ودينية تضم حاخامات ودارسين يهود، يؤمنون بأن الصهيونية شوهت رسالة اليهودية، وجعلتها أداة فى خدمة الاحتلال.
 
هذه الجماعات، برغم تباين منطلقاتها، تتقاطع فى رفض الاحتلال الإسرائيلى، وفى التأكيد على أن ‪”‬اليهودية الحقة لا تبرر الظلم، ولا تسكت على القتل والتشريد‪”‬، وتُقدم بذلك صورة نقيضة تماماً للصورة النمطية التى تسوّى بين كل يهودى وكل صهيونى.
وإذا ما نظرنا إلى التأثير السياسى والإعلامى لهذه الجماعات، فلا شك أن هذه الجماعات لا تملك ما يملكه اللوبى الصهيونى التقليدى (مثل ‪ AIPAC ‬أو CRIF أو WJC)، من موارد ونفوذ، غير أن صوتها يتصاعد، خصوصًا فى الفضاءات الأكاديمية والمنصات الرقمية الحرة، وقد أسهمت فى كسر الصمت داخل العديد من الجامعات الأمريكية والأوروبية، وفى دعم حملات لمقاطعة إسرائيل، وإلغاء شراكات معها، وفضح انتهاكاتها أمام الرأى العام.. كما لعبت هذه الجماعات دورًا حاسمًا، فى فضح الاستخدام المضلل لمفهوم ‪”‬معاداة السامية‪” ‬كسلاح سياسى، يُستخدم لإسكات كل من يجرؤ على انتقاد الاحتلال الإسرائيلى، حتى إن كان يهوديًا.
 
إن تفكيك الالتباس القائم بين اليهودية كدين، والصهيونية كأيديولوجيا سياسية، لم يعد ترفاً فكرياً، بل ضرورة أخلاقية وإنسانية، فاختزال الشعب اليهودى كله فى مشروع استيطانى عنصرى، يُلحق الأذى بالشعب الفلسطينى يومًا بعد يوم، ليس فقط ظلماً للفلسطينيين، بل أيضًا تشويهًا لليهودية ذاتها، ولرمزيّتها الأخلاقية والدينية.
ومن هنا، فإن الاعتراف بوجود تيارات يهودية مناهضة للصهيونية، واحترام صوتها، ودعم رسالتها، يشكّل خطوة فى طريق العدالة، وفى إعادة الاعتبار للحقيقة، فى وجه الآلة الإعلامية التى تخلط عمدًا بين الدين والسياسة، وبين العقيدة والاحتلال، ويستوجب هذا دعماً عربياً قوياً لمثل هذه الجماعات والتيارات، فما لم تحققه طلقات الرصاص، من الممكن أن تحققه أيديولوجيات العقول.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام