مقالات



مختبر النار المفتوح

3-6-2025 | 23:24
مهدى مصطفى

بماذا نصف الوضع العالمى الحالى؟ وما الحرب العالمية الثالثة، إذا لم تكن دائرة بالفعل؟
أوروبا تتسلح حتى الأسنان، أمريكا تعسكر الفضاء، الإخوة السلاف “الروس والأوكران” يسبحون فى حرب لا نهاية لها، الهند وباكستان تقتربان من جحيم نووى، والشرق الأوسط يغرق فى حرب رمال ناعمة، لا صوت فيها لصدام مباشر، إنما صراع مستمر بين الهويات والمعانى والخرائط. 
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، خرجت نغمة تقول إن البشرية شبعت من القتال، وإن أوروبا فهمت الدرس.
انطلقت خطة مارشال لمساعدة اقتصادات مدمرة، لا حبا فى الشعوب، بل خوفا من تمدد الشيوعية إلى شوارع باريس ومصانع برلين.
تأسست الأمم المتحدة، كتب القانون الدولى بيد المنتصر، وظهرت المنظمات العابرة للحدود والمحاكم الدولية، تحت شعار العدل، لكن بأدوات السياسة. 
العالم انقسم إلى شرق وغرب، وانطلقت الحرب الباردة.
الغرب أعاد تشكيل نفسه، جدد آلياته، تنفس من داخل السوق، فيما حمل المعسكر الشرقى شعاراته فوق أكتاف مثقلة، حتى تآكل من الداخل.
كما كتب المفكر المصرى فؤاد مرسي: “الرأسمالية تجدد نفسها”، بينما كانت الاشتراكية تتوقف عند النداء الأول.
انهارت المنظومة، ومعها انهارت نخب كثيرة فى العالم الثالث، كانت تكرر المقولات ذاتها، دون نقد أو مساءلة. 
تحت عباءة الحرب الثقافية الباردة، جرت المعارك عبر الكتب والمجلات والحفلات الموسيقية.
جرى تجنيد الكتاب والمثقفين من خلال مؤسسات مثل “مؤتمر الحرية الثقافية”، بتمويل مباشر من الاستخبارات الأمريكية.
الوثائق الغربية كشفت لاحقا هذا المشهد الخفى، كيف جرى توجيه الذوق، وتدريب الألسنة، وإعادة تشكيل الخيال الجمعي. 
انهار المعسكر الشرقى، وتبعته نخب الجنوب، التى غرقت فى التمويلات، ووقعت فى عشق الجلاد.
كما وصف إدوارد سعيد ذلك الانبهار بالمركز، أصبح المثقف المحلى صدى لصوت الآخر، وسقطت المؤسسات فى حب خطاب السيطرة. 
فى قلب هذا المشهد، تأسست إسرائيل، لا كدولة عادية، بل كحربة غرست فى الخاصرة العربية.
أعلن مؤسسها الأول ديفيد بن جوريون أن إسرائيل يجب أن تملك القوة لفرض سطوتها على محيطها لعشرات السنين.
القوة المطلوبة لا تعنى الدبابات فقط، بل تعنى هندسة جديدة للمنطقة: تفكيك الاقتصاد، إعادة تشكيل الثقافة، تدجين السياسات، تمزيق اللغة. 
التمهيد بدأ عبر شراء النخب، وتغذية المراكز البحثية، وتمويل برامج التحديث.
شعارات مثل “الحداثة”، “تمكين المرأة”، و”حقوق الإنسان”، حملت وعودا تبدو براقة، لكنها حملت معها شروطا ضمنية للتخلى عن الاستقلال.
دخلت المنطقة عصر “تحديث التخلف”، وانفجرت الفوضى. 
خرجت الجماعات التكفيرية من كتب لا تمت إلى الإيمان” الديني”، بل إلى الأجهزة العالمية والإقليمية.
ظهرت الأسواق السوداء، انهارت العملات، وبدأت التجارب فى مختبر كبير، يتراوح بين استخدام الأسلحة البيولوجية والتلاعب بالوعي.
كما كتب نعوم تشومسكي: حين يريد المركز تحطيم كيان، يبدأ من لغته، ثم يمحو ذاكرته، ثم يسلمه سلاحًا لا يعرف كيف يصنعه، ولا كيف يستخدمه. 
الشرق الأوسط اليوم يتحرك فوق رمال هندسية ناعمة.
تعود خرائط سايكس– بيكو دون معاهدة مكتوبة، والاعتذارات الغربية لا تمحو النوايا، بل تمهد لاستعمار جديد، ناعم، عالى التقنية.
يتم تفكيك الدول إلى وحدات طائفية، تدار بأجهزة تحكم لا ترى، فيما تملى المنصات الرقمية ما يجب أن يقال، وتقتل الحكايات المحلية التى لا تواكب “السردية الرسمية”. 
الحرب لم تعد دبابات وملاجئ، أصبحت قصصا تروى، ومصطلحات تكرر، وصورا تستهلك على الشاشات.
لم تعد القوة فى عدد الجيوش، بل فى عدد المتابعين، وسرعة التداول، وحجم الصمت الجماعى أمام سردية واحدة. 
الشرق الأوسط لا يخوض معركة واحدة، بل يعيش داخل مختبر مفتوح، تختبر فيه الأدوات، وتعاد فيه التجارب، ويعاد فيه إنتاج الهيمنة، تحت عناوين براقة، وبرعاية مراكز تعتقد أنها تفكر، بينما يجرى التفكير نيابة عنها.
حان الوقت لنخرج من مختبر النار المفتوح.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام