ثقافة



يوجين يونسكو بطل مهرجان "دبا الحصن" للمسرح الثنائى

3-6-2025 | 23:26
سيد محمود

بعد  ثمانى سنوات من انطلاقه، فاجأ مهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائى جمهوره فى إمارة الشارقة، بمجموعة من العروض المتميزة التى استجابت للتحدى الذى تقوم عليه فلسفة اختيار عروض المهرجان، والتى تقوم على (الديودراما) وهى تُبنى على التفاعل الدرامى بين شخصيتين فقط، ما يمنحها عمقاً فنياً خاصاً، يعزز من حضور الممثلين، ويبرز التقنيات المسرحية فى فضاء سينوغرافى محدود .
 
المهرجان الذى يقام سنويا برعاية الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمى، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة استقبل خلال دورته الثامنة التى انتهت الثلاثاء الماضي  خمسة عروض من بلدان عربية مختلفة، الإضافة إلى  الندوات التطبيقية المصاحبة للعروض، نظم المهرجان (ملتقى الشارقة للمسرح العربي) فى دورته العشرين، وذلك تحت عنوان "المسرح والحياة"، واستهدفت  الندوات التعريف بنظريات وتجارب مسرحية مختلفة، كما ناقش الملتقى دور المسرح فى مواكبة تحولات الحياة المعاصرة، وعلاقته بالفلسفة والفنون والعلوم الاجتماعية، كما شمل البرنامج ثلاث ورش تدريبية متخصصة فى المسرح المدرسى، استهدفت معلمى المسرح ومنشطى الفنون، وشملت ورشاً حول الإخراج، وتوظيف الدمى، وتصميم السينوغرافيا، بإشراف خبراء من تونس ولبنان والمغرب، وذلك فى إطار خطة دعم التربية المسرحية وتحفيز الإبداع لدى الناشئة.
 
احتضنت قاعات المركز الثقافى بمدينة دبا الحصن نخبة من الفنانين والأكاديميين المسرحيين العرب، اتسمت بالتنوع سواء بين أجيال المشاركين أم البلدان العربية التى يمثلونها، كما حرص المسئولون فى دائرة الثقافة على حضور حفل الافتتاح، وعلى رأسهم السيد عبدالله العويس، رئيس دائرة الثقافة، وأحمد بورحيمة، مدير المهرجان الذى حضر جميع فاعلياته.
تضمنت الدورة الثامنة، خمسة عروض مسرحية، على النحو التالى: عرض "17 ساعة" وقدمته فرقة مسرح الشارقة الوطنى، والعرض السورى "خلاص فردى" الذى قدمته فرقة تجمع أشجار، ثم المغربى "حياة وحلم" لفرقة مسرح الشامات، والعرض "تحضير بيضة مسلوقة" لفرقة الشامات الكويتية، واختتم المهرجان بالعرض المصرى "بروفايل" لفرقة ليالى المصرى المسرحية.
أهم ما يمكن ملاحظته فى المهرجان، الفرص التى يمنحها للفرق المستقلة، كما تلفت النظر المبادرات التى يتبناها المهرجان لحث سكان الشارقة على المشاركة، إذ يتم السحب يوميا على بطاقة مجانية تتيح لحاملها الحضور بأمل الحصول على جائزة مالية كبرى، وهى وسيلة تحفيزية ملهمة تسهم فى جذب الجمهور وتأهيل الصغار على استقبال نوعيات مختلفة من العروض.
 
عبث يونسكو
وهذا العام حظى المؤلف المسرحى الرومانى الفرنسى يوجين يونسكو (1909-1994 ) بعرضين من بين خمسة عروض، فقد قدمت فرقة مسرح الشارقة  الوطنى "عرض 17" ساعة" المعد عن نص "تخريف ثنائي" ليونسكو، وأخرجه عبدالله محمد،كما قدمت فرقة مسرح الكويت الوطنى عرضا عن نص ليونسكو، بعنوان (لتحضير بيضة مسلوقة) وهى مسألة لا تخلو من دلالة، فأعمال يونسكو تنتمى لمسرح اللامعقول، وتسخر من عبثية أوضاع الحياة، وتقاوم المنطق لأنها تكشف وحدة الإنسان وانعدام الغاية فى الوجود الإنسانى.
المؤكد أن العودة ليونسكو الذى غاب عن المسرح العربى خلال السنوات الأخيرة، تشير إلى شعور المخرجين الشباب بالمأزق الإنسانى الراهن، الذى يستدعى نصوصا تعزز الرغبة فى مفارقة اللحظة والاغتراب عنها، بنوع من الارتحال الذهنى.
 
خلاص فردى
ومن بين عروض المهرجان التى تابعتها حظى العرض السورى (خلاص فردي)، للمخرج سامر محمد إسماعيل بإعجاب الجمهور واهتمامه، وهو من تمثيل رغد سليم، ومحمد شما.
 يستعرض العرض ما يعيشه الكاتب عادل من معاناة، فى ظل الوحدة  التى يعيشها بعد فقد حبيبته، وفى نفس الوقت يسعى للعثور على نهاية مناسبة لنص يكتبه، حول تجربته فى الحب بأمل استعادة الذكريات التى كانت تجمعه مع حبيبته، لكن بدون سابق إنذار تقتحم عزلته الفتاة جودى، التى تأتى من إحدى شركات خدمات التنظيف ، وبسبب فضولها وتحركها فى الفضاءات المتروكة داخل البيت تبدأ التدخل فى حياة الكاتب عبر طرح تساؤلات  حول أسلوب حياته وما يبحث عنه بالضبط، كاشفة عن اهتزاز ثقة الكاتب فى موهبته مقابل غيرته الخفية من تجلى موهبة حبيته التى يرواغ فى كشف أسباب فقدها.
برغم وفاتها فى حادث سير، فإن حواره مع جودى يكشف عن حقيقة مشاعره تجاهها، كما تنجح جودى فى توريطه داخل عالمها الحيوى الذى يكشف بؤس ما يعيشه أيضا أمام نقاشها الذكى حول مفاهيم الحب، والموت، والحياة ما يدفع الكاتب لاستثمار وجودها ليشركها فى أزمة البحث عن نهاية محتملة للنص الذى يكتبه، وتلعب جودى معه لعبة تطوير شخصيات النص إلى أن يجهر بمشاعره الكامنة بشأن حبيبته الغائبة.
خلال الندوة التى أقيمت حول العرض أشاد المتحدثون بـالنص الدرامى الذى اتسم بثراء المحتوى والقدرة على استبطان مشاعر أبطاله، كما جرى الترحيب بموهبة الممثلة الشابة رغد التى ملأت المسرح بحيوية، واتسم أداؤها بالتنوع وخفة الانتقال من حالة إلى أخرى، بخلاف ما لديها من طاقة كوميدية، كانت على النقيض من كآبة البطل الذى أدى دوره بانضباط أقرب إلى الحذر الممثل محمد شما، كما اتسمت الرؤية الإخراجية باستغلال ذكى لمساحة الخشبة وخفة الانتقال من طبقة لأخرى داخل النص، من دون أن يؤثر ذلك على جماليته البصرية.
 فى المقابل نال العرض المسرحى المغربى حياة وحلم" لفرقة مسرح الشامات حظا وافرا من اهتمام الجمهور، الذى واجه صناعه بجملة من التساؤلات، العرض من تأليف وإخراج بوسلهام الضعيف، وبطولة هند بلعولة، وسفيان نعيم.
يدور حول قصة الأم سعيدة التى يدخل ابنها الوحيد يونس فى غيبوبة إثر حادثة تعرض لها فى باريس بعد تغييرات طرأت عليه هناك، وتحضر الأم على أمل استرداده من الغيبوبة التى أصيب بها، ثم  تلجأ إلى مالديها من حكايات  بأمل إيقاظ ذكرياته وهويته وتقوم الحكايات على سيرة الشاعر الذى كانت تدرسه فى الماجستير، وملأت رأس ابنها حول عالمه، كما يتداخل النص عبر أنماط الاحالة والتناص مع نصوص متعددة أبرزها الفيلم الإسبانى "تحدث إليها" للمخرج بيدرو ألمودوفار، الذى تستدعيه الأم، وهى تتحدث إلى ابنها يونس عن حياتها خلال فترات غيابه.
 أبدى الجمهور تحفظات كثيرة على الطابع الذهنى للنص، وهى مسألة تزايدت بفضل شعور المتلقى بالتشظى برغم جودة التوليف فى النص الذى فاض بالشعرية والرؤى الفلسفية التى زادته غموضا نتيجة الإفراط فى السرد، وهو أمر فسره المخرج بأنه خيار منهج وشخصى، لأنه ممن يؤمنون بقوة السرد ويستثمرون فيه.
وبالمثل، عانى العرض الكويتى (لتحضير بيضة مسلوقة) من نمط الثرثرة الانفعالية والصخب الانفعالى غير المنضبط فى أداء الممثل، إلى جانب استسلامه لنمط من التداعى الحر والتكرار اللا منطقى، وهى سمة مميزة لمسرح اللا معقول.
 
ندوات خصبة
من جهة أخرى، شهدت ندوات محور المسرح والحياة نقاشات مهمة، حول واقع الحركة المسرحية فى بعض البلدان العربية، وقدمت الممثلة الأردنية الشابة ميس الزعبى ورقة تحت عنوان "أبو الفنون والحياة: دراسة فى المظاهر والمتغيرات الجديدة"، استعرضت عبر رؤية بانورامية مسيرة المسرح لنقل تعقيدات الحياة الإنسانية والاجتماعية والثقافية عبر العصور، وانحازت للرؤى التى تؤكد أن المسرح ليس نشاطاً ترفيهياً فحسب، بل أداة فاعلة لنقل الواقع ومحاكاته ونقده ،كما أكدت قدرة المسرح على بناء الوعى الجماعى، وتعزيز التماسك والحفاظ على الهوية.
استعرضت نتيجة دراسة أجريت فى الأردن، أثبتت تأثيره الإيجابى فى تعزيز الفهم والتحصيل الدراسى، كما لفتت إلى الأدوار التى يؤديها المسرح العلاجى، واستعرضت الزعبى ما يواجهه المسرح اليوم من تحديات فى علاقته بالجمهور، ناشئة من انتشار المنصات الرقمية، وتعدد وسائل الترفيه.
 تحدث الباحث التونسى عمر علوى تحت عنوان «المسرح والحياة السالبة» وركز على  فكرة "الحياة العارية" التى قدمها الفيلسوف الإيطالى جورجيو أغامبين، مشيراً إلى أنها تعنى أن الإنسان قد يفقد معنى حياته بسبب القواعد والمعايير القياسية، مبيناً أن المسرح لديه القدرة على إيقاف هذا الوضع، وجعلنا نرى جوهر إنسانيتنا الحقيقي.
 اتخذ علوى مسرحية "بارتلبي" لهيرمان ملفيل، التى أخرجها دافيد جيراى، مثالاً على ما يقول، حيث يرفض بطلها القيام بأى شيء، وهذا الرفض البسيط يصبح قوة مقاومة كبيرة. تقوم على "اللا- فعل" لكى لا يصبح الإنسان مجرد آلة تعمل بلا إرادة أو رغبة.
ركز الباحث المصرى بلال الجمل فى ورقته التى جاءت بعنوان "المسرح بصفته مرآة للوجود.. من البدايات إلى الامتدادات" على ثلاث ركائز أساسية: "الوجود"، ممثلاً فى المسرح البدائى ومحاولات الإنسان الأولى لمسرحة تساؤلات الوجود وفهم العالم؛ ثم "الواقع"، بدءاً من مفهوم المحاكاة الأرسطية وصولاً إلى الانعكاس فى الواقعية، حيث تحول المسرح إلى أداة لتدعيم النظم الاجتماعية أو نقدها؛ وأخيراً "الإنسان"، الذى تجلى فى الاتجاهات الطليعية الحديثة، التى ركزت على استكشاف النفس البشرية وجذورها عبر الأسطورة والطقس، من ثم تطرق الجمل إلى أزمة الإنسان المعاصر، المتمثلة بالاغتراب وفقدان الهوية، والشعور باللا جدوى، موضحاً أن المسرح يلعب دوراً علاجياً وتطهيرياً فى مواجهة هذه الأزمات.
 
سر لبنان
فى اليوم الثانى والختامى سلسلة ندوات "المسرح والحياة"، تحدثت الناقدة كاتيا الطويل والممثل زياد عيتانى من لبنان، والناقد المغربى محمد العناز فى جلسة أدارها الدكتور خالد البناى من الإمارات.
 ركز العناز فى ورقته التى كانت بعنوان "تأويل الحياة فى المسرح المغربي"،  على العلاقة الجدلية بين الفن والحياة، فى تجربة الكاتب محمد أنقار وتناول مسرحيته "الببوش أو أكلة الحلزون" فى حين قدمت الباحثة اللبنانية كاتيا الطويل، رؤية بانورامية حول اتجاهات المسرح اللبنانى فى مسار تاريخى، يعود لما يقرب من 50 عاما مضت، تناولت فيه علاقة  المسرح فى بلادها بالواقع، مؤكدة على دور المسرح اللبنانى الفاعل فى عكس التحولات الاجتماعية والسياسية.
ورصدت الطويل توجهات وأعلام صناع المسرح اللبنانى، وطبيعة الجمهور، والفضاءات التى تُقدم فيها العروض، وأبرزت استقلالية صناع المسرح برغم أزمات التمويل، وكشفت تنوع الجمهور حيث لا يزال لبنان يمتلك نخبة مثقفة تحافظ على ارتياد المسارح برغم غلبة عروض الكوميديا.
وأوضحت أن المسرح اللبنانى لا يزال فى استطاعته طرح أسئلة جوهرية، ويسهم فى مقاومة التحديات وتعزيز الأمل، بسبب تمتع لبنان بأعلى سقف للحرية فى العالم العربى ما أتاح لمبدعيه مقاربة أشد القضايا الاجتماعية حساسية وبجرأة كبيرة.
قدم الفنان اللبنانى زياد عيتانى شهادة بعنوان كيف تحيا المدن بحياة خشباتها.. بيروت نموذجاً"، ركز فيها على تجربته الشخصية فى الانتقال من العمل الصحفى إلى التمثيل موضحا أن التحقيقات التى كتبها لفتت نظر المخرج اللبنانى والشاعر يحيى جابر، إلى لفت نظره إلى إمكانية تحويلها إلى نص مسرحى، وهو ما حدث بالفعل لكن جابر نصحه بتقديم العرض، لأن باستطاعته وحده فعل ذلك فالمسرح أصبح "خشبة الخلاص".
التى تجمع الناس لإحياء الذاكرة، كما أن المسرح هو "صلة الرحم الوحيدة بين الفنان والجمهور"، وأن المدن تحيا وتنتعش بحياة مسارحها، وأخيرا شهد المهرجان برنامجا تدريبيا استضاف ورشة  للفنان اللبنانى كريم دكروب، حول "توظيف الدمى فى المسرح المدرسى" بمشاركة 30 متدرباً.

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام