ثقافة



رحل عن 87 عاما بعد أن خذلته جائزة نوبل.. «نغوغى واثيونغو» كاتب أنصت إلى الأوضاع المضطربة

4-6-2025 | 01:04
عزمى عبد الوهاب

رحل الكاتب الكينى “نغوغى واثيونغو” الأسبوع الماضى، عن 87 سنة، بعد أن خذله الجسد، فسقط فى براثن أمراض القلب والبروستاتا، وخذلته جائزة نوبل التى ظل منتظرا على قوائمها النهائية لسنوات، ومضى دون أن يحصل عليها، بعد أن قدم لنا سيرته ورواياته ودراساته فى أكثر من لغة.
ترجم له الشاعر العراقى الراحل سعدى يوسف أكثر من عمل ومنها “تصفية استعمار العقل” الكتاب الذى يمثل خلاصة لبعض القضايا التى خاضها الكاتب فى الأعوام الأخيرة، من ممارسته لكتابة القصة والمسرح والنقد وتدريس الأدب، مؤكدا أن دراسة الحقائق الإفريقية ظلت لوقت طويل ينظر إليها من خلال شروط القبائل، حتى الأدب نفسه يجرى تقويمه أحيانا بموجب الأصول القبلية للمؤلف.
أشار نغوغى أن هذا التفسير المبتذل للحقائق الإفريقية شجعه الغربى، الذى يريد أن يزيغ الناس عن رؤية  أن الاستعمار لا يزال هو السبب فى العديد من معضلات إفريقيا، وقد وقع لسوء الحظ عدد من المثقفين الأفارقة ضحايا لهذه الخطة، وإلى حد لم يعد بعضهم قادرا على الشفاء، ولا على معرفة الأصول الاستعمارية ذات قاعدة “فرق تسد” فى تفسير الاختلافات الثقافية والصدامات السياسية، تفسيرا يستند إلى الأصول الإثنية للمختلفين.
فى تقديمه لرواية “لا تبك أيها الطفل” لنغوغى يحدد بن أوكرى ثلاثة أنهار، نهل منها الأدب الإفريقي: الغيبى، المنظور، والشفهى، وكذلك الأسطورة والواقع والتراث الشفهى، ويمكن القول إن الغيبى هو المصدر الرئيسى للأدب الإفريقى، يظهر ذلك بوضوح فى وجود الأسطورة، وكيف تلعب دورا مناظرا للواقع الاجتماعى، يشكل هذا المصدر الغامض خلفية أعمال آموس توتشولا، وتشينوا أتشيبى، ووولى سوينكا، وكامارا لاى، وهو موجود بالطبع فى كل الأساطير والحكايات والمعتقدات الشعبية، والأغانى التى تشكل الوعى الإفريقي.
يرى بن أوكرى فى تقديمه لكتاب نغوغى واثيونغو “لا تبك أيها الطفل” (ترجمة أمينة الحسن) أن الكتاب النشطين فى الخمسينيات والستينيات اعتادت آذانهم على نوعين من الموسيقى: العالم الخفى للتقاليد والأساطير، وعالم الاستعمار القاسى، فى الأوقات السعيدة يغنى الإنسان أغانى الروح، ولم يظهر الأدب الإفريقى الحديث كاحتجاج ضد الاستعمار، بل إن الاستعمار جاء بتغيير ما، واهتمام خاص بالتقدم الطبيعى للأدب من وضع إلى آخر.
فى الأوقات الصعبة – كما يوضح – نغنى أغانى أزمان الردى، لكن لا ينبغى أن تؤخذ أزمان الردى كنموذج، لأنه حتى فى الأوقات الصعبة يظل حاضرا فى النفس أفراحها وبهجتها وحريتها وجمالياتها، وكل من أغانى أزمان الردى والأغانى الروحية واضحة فى “لا تبك أيها الطفل” فهي  من الروايات الرمزية التى تنبثق  من فنان، ينصت إلى ينبوع التقاليد والأوضاع المضطربة فى عصره.
المفارقة تكمن فى بدايات نغوغى ككاتب، هناك تصور بأن الرواية الأولى للكاتب تمثل الشكل الأولى، الذى يحتوى على الموضوعات التى تشغل فكر الكاتب، والتى قد تستمر بقية حياته الكتابية، فى رواية “العقل والعاطفة” تزاوج جين أوستن بين موضوعات الانقسام والغراميات والطبقية، التى شغلت معظم رواياتها، وهيمنجواى فى أولى رواياته “الشمس تشرق أيضا” وموضوعاتها عن الرواقية والعنف والطبيعة، تلك الموضوعات لم تفارق أعماله الأدبية التالية، وأتشيبى فى “أشياء تتداعي” طرح أفكارا عن الثقافة والتقاليد والعائلة، وهى أيضا تظهر جلية فى أصل أعماله.
تلك البدايات تشكل الجذور التى تصبح شجرة أو غابة من الموضوعات، لكن فى حالة نغوغى تمكنت الأحداث من صناعة أمر مختلف، لقد بدأ نغوغى الكتابة على نحو غير متوقع، وبطريقة سحرية، حينما كان شابا فى الجامعة، قابل صحفيا، وذكر له أنه كتب قصصا قصيرة، مظهرا اهتمامه بها، ثم كان على نغوغى الذى لم يكتب شيئا فى الواقع أن يقوم بكتابة قصص، إنه نوع من الاحتيال على الذات يؤثر فى قدر المرء.
كتب نغوغى قصة ونشرت، ومن هنا بدأت حياته الكتابية، وكانت قاعدة مثالية للتدريب على كتابة رواية طويلة، وكتب “لا تبك أيها الطفل” ومن النادر أن تنشر رواية أولى بهذه المثالية وكان نغوغى يبلغ الثمانية والعشرين من عمره آنذاك، لكن الرواية أعلنت مولده، ومع نشره “حبة قمح” أصبح متجددا فى الثقة والمكانة.
فى رواياته نرى نغوغى الشاب الذى يواجه حبه معارضة أسرتين، والعالم الذى يغلى بالعنف والظلم، والمتحول الماركسى، الراديكالى، والناشط ضد الفساد السياسى والسجين السياسى، هؤلاء سيجلبون حبكة أمنية للعمل، روايات ذات أهمية كبيرة، أهمية سياسية مثل “حبة قمح” التى يعتبرها كثيرون أروع أعماله، أو “بتلات الدم” التى استلهم فيها زيارته لروسيا محاكاة الرواية الروسية، حيث جلب للرواية الإفريقىة ضرورة جديدة، وغضبا سياسيا.
أنجز الكتاب الأول من سيرته “الأحلام فى زمن الحرب” انتقل إلى المنفى بعد ما خرج من السجن، وعاش فترة فى لندن ثم استقر فى أمريكا كأستاذ للأدب فى جامعة كاليفورنيا، إلا أن “لا تبك أيها الطفل” حملت بذور راديكاليته وشيوعيته التى حملها إلى اللغات الإفريقية.
“لا تبك أيها الطفل” رواية عن صبى نشأ فى زمن تمرد الماو ماو الذى اجتاح كينيا فى الخمسينيات وأوائل الستينيات كحركة سرية  لمقاومة الاستعمار، وعن سعى الصبى للتعلم وحبه لابنة معذب عائلته، إنها رواية عن نقطة تلاقى التقاليد والحداثة، حول الأساطير القديمة فى مواجهة الحقائق المعاصرة، يتخللها عدد من الثنائيات، الجمل موجزة، والكتابة واضحة وبسيطة، إذ تتشكل وفق النمط البدائى للخطاب التقليدي.
فى نهاية رواية “لا تبك أيها الطفل” انطلق الصبى فى جوف الليل وحيدا، مخاطرا بنفسه، تأتى والدته بحثا عنه حاملة مشعلا، هذا هو تأثير الفن، مشعل متوهج فى الأيام الظلماء، يضيء الطريق بحثا عنا، إنها صورة تكشف الطبيعة المزدوجة للرواية، كيف يسكن بين عالمين، عالم الحقيقة وعالم العلن، حقائق كينيا كلها تجتمع فى تلك الرواية، الانقسامات فى المجتمع، الخيانة، إشكالية الأرض.
ظل نغوغى لسنوات عديدة فى مقدمة قائمة المرشحين لنيل جائزة نوبل للآداب، وكان يكتب بالإنجليزية، لكنه أحجم عنها فى مرحلة ما من تطوره الثقافى وانبرى للكتابة بلغته المحلية، وحينما اعتقلته السلطات فى بلاده فى سجن شديد الحراسة، اضطر إلى الكتابة على ورق المرحاض‪.
‬ولد فى قرية من قرى كينيا عام 1938 وعمّد باسم (جيمس نغوغي) جريا على تقاليد الكنيسة التى تخلع أسماء قديسين على أسماء المواليد، تيمنا بهم وطلبا البركة مرجوة، ثم أكمل دراسته وحصل على شهادة البكالوريوس فى اللغة الإنجليزية من كلية محلية فى العاصمة الأوغندية كمبالا، وخلال فترة تعليمه الجامعية عرضت له مسرحية بعنوان “الناسك الأسود”‪ ‬عام 1962.
‬نشر روايته الأولى “لا تبك أيها الطفل” عام 1964 عندما كان يكمل دراسته الجامعية العالية فى جامعة ليدز البريطانية، وكانت الرواية الأولى التى تنشر بالإنجليزية لكاتب من شرق إفريقيا، ثم نشرت روايته الثانية “النهر الذى بينهم” ويحكى فيها عن تمرد قبائل الماو ماو، وقد وصفت الرواية بأنها حكاية رومانسية حزينة للعنف، واعتمدت هذه الرواية ضمن مناهج الدراسة الثانوية فى كينيا‪.
‬يقول بن أوكري: لو لم يكتب نغوغى عملا أدبيا سوى “لا تبك أيها الطفل” لتبوأ مكانة متميزة فى الأدب الإفريقى، إنه ينتمى إلى الروائيين الاحتجاجيين، فى الواقع إن جومو كينياتا الذى هو موسى الأسود فى الرواية، هو الذى أدخل نغوغى السجن عام 1977 لمدة عام من الحبس الانفرادى وبالتالى فإنه يجب قراءة “لا تبك أيها الطفل” جنبا إلى جنب مع الفتى الأسود لريتشارد رايت، وراوية جيمس بالدوين “أعلنوا مولده على الجبل” وعناقيد الغضب لشتاينبك، وطفولة مكسيم جوركي.
‬فى روايته “بتلات الدم” استلهم من زيارته لروسيا محاكاة للرواية الروسية، وفى “الغراب الجذاب” وسع مجاله ودمج الواقعية السحرية مع اهتماماته الفنية والاجتماعية المميزة.
 وكتب أيضا المسرحيات داعيا إلى راديكالية جديدة فى الأدب الإفريقى، والعودة إلى اللغات الإفريقية كأساس فى التعبير الإبداعى، وأنجز الكتاب الأول من سيرته “الأحلام فى زمن الحرب” بعدها انتقل إلى المنفى، بعد أن خرج من السجن، وعاش فترة فى لندن ثم استقر فى أمريكا كأستاذ للأدب فى جامعة كاليفورنيا.
كانت اللغة معضلة فى الأدب الإفريقى: هل يجب على الإفريقى أن يكتب باللغة الأوروبية للتعبير عن واقعه؟ واقع يعكس وعيا مشبعا باللغات الإفريقية التقليدية،  كان حل أتشيبى هو استعمال أمثال الأيبو والأغانى والحكايات الرمزية.
 وإلى حد ما بشكل متعمد أم غير متعمد، تبنى نغوغى هذا النهج وعرف لاحقا أنه ذهب إلى أبعد من ذلك حيث صرح بضرورة كتابة الأدب الإفريقى باللغات الإفريقية، فمن الأفضل ليس إبقاء اللغات الإفريقية حية، فحسب، بل أيضا تطويرها لتصبح لغات قادرة على التعبير عن الفكر العميق والرفيع.

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام