رئيس مجلس الإدارة:
د.محمد فايز فرحات
رئيس التحرير:
جمال الكشكي
السبت 19 يوليو 2025
نحن والعالم
حياة الناس
سوق ومال
فنون وفضائيات
مقالات
ثقافة
فجر الضمير
المزيد
دائرة الحوار
رياضة
الملفات
أرشيف المجلة
أول الأسبوع
منوعات
Business Leaders
ثقافة
يحيى يخلف.. وجه لا يتخلى حين يختفى الآخرون (2)
14-6-2025
|
18:48
إلهامى المليجى
بعض الوجوه لا تُعرف فى المهرجانات، ولا تُختبر فى الصور التذكارية. بل فى تلك اللحظات التى ينسحب فيها الجميع، ويظلّ صاحب المروءة حاضرًا، دون أن يُدعى… ولا أن يُنتظر منه شيء.
لم يكن يحيى يخلف، بالنسبة لي، مجرد كاتب مرموق أو مثقف يتقن اختيار كلماته. كان وجهًا حين تراه فى لحظة عسيرة، تدرك تمامًا من يكون.
فى براغ عام 1983، لم أكن بحاجة إلى من يُلقى عليّ قصيدة أو يحدّثنى عن النكبة… كنت بحاجة إلى من يتصرف. إلى من يقف دون تردد. إلى من يفعل الخير فى صمت، ثم يمضي.
ولم يكن من ظننته الأقرب هو من فعلها. بل كان يحيى يخلف.
فى هذه السطور، لن أتحدث عن رواية كتبها، ولا عن كلمة ألقاها. بل عن موقف إنسانى خالص، كشف معدنًا نادرًا، وترك فى روحى أثرًا لا تمحوه السنون… وعن لقاءات أخرى فى القاهرة، توّجت العلاقة بصلابة من نوع آخر: صلابة الوفاء الهادئ.
المشهد الأول: دمشق... حين حفظ يحيى يخلف للثقافة وحدتها فى زمن الانقسام
بعد الخروج الدرامى من بيروت فى أعقاب الحصار الصهيونى عام 1982، كانت دمشق هى الملاذ المؤقت، والمختبر الحقيقى للنيات والمواقف. التقيته هناك أكثر من مرة، فى ممرات المؤسسات، وفى أروقة الندوات، وفى مجالس كانت تحاول لملمة شتات ما بعد الاجتياح.
لكن علاقتنا آنذاك لم تتعمق. ربما لأن كل واحد منا كان منشغلًا بلملمة ذاته، وربما لأن الزمن كان ملغومًا، لا يسمح بالثقة الكاملة.
كنت أتابع عن كثب تفهمه العميق – وإن صامتًا – لحالة الغضب التى عبّر عنها عدد من قادة حركة فتح، وفى مقدمتهم عضو اللجنة المركزية نمر صالح (أبو صالح) والعقيد أبو موسى وآخرون، الذين رأوا فى بعض تصرفات ياسر عرفات بعد الخروج من بيروت إشارات أولى على استعداد مؤلم للتخلى عن الكفاح المسلح.
لم يكن يحيى يخلف منحازًا لحركة “الانتفاضة” التى أطلقوها، ولا مشاركًا فى تمردها، لكنه فهم دوافعها بوعى المثقف الذى لا يُسارع إلى الإدانة، بل يسعى إلى الفهم، ويزن المواقف بميزان الوطن لا الأفراد.
ذلك الانقسام – الذى لم يكن مجرد خلاف تنظيمى – انسحب على مؤسسات العمل الوطنى كافة، ومنها اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين، الذى كان يُفترض أن يبقى فوق التجاذبات، لكنه لم يسلم.
فى خضم هذا الصراع، لعب يحيى يخلف دورًا فريدًا. لم يكن محايدًا – فالحياد فى لحظات الانقسام العاصف هو تواطؤ – لكنه كان رجل توازن وإنقاذ.
بقى فى دمشق، لم يغادر إلى تونس مع مؤسسات منظمة التحرير، لكنه لم يستثمر بقاءه لصالح طرف، ولم يسمح بأن يُستغل موقعه فى تكريس اصطفاف.
بفضل حكمته، وحنكته، ووجاهته الأدبية، وثقة الجميع به، استطاع أن يحافظ على وحدة الاتحاد الثقافي، وأن يصون الكلمة من أن تتحول إلى أداة صراع سياسي.
وقف، كما وقف الكبار عبر التاريخ، إلى جانب الحق لا الهوى، والفكرة لا الفصيل، والثقافة لا السلطة.
ذلك الموقف النبيل أكسبه احترامًا واسعًا من مختلف ألوان الطيف الفلسطيني، لأنه اختار أن يكون فى صف المصلحة الوطنية العليا، لا فى صف الاصطفافات المؤقتة.
ولعلها كانت اللحظة التى بدأ فيها يحيى يخلف يتحول – فى نظري، وفى نظر كثيرين – من كاتب لامع إلى مرجعية أخلاقية وثقافية.
المشهد الثاني: براغ 1983... حين صمت الجميع وتكلمت المروءة
كانت براغ آنذاك مدينة تشبه المتحف الزجاجي: جميلة، مرتبة، لكنها باردة، جافة، لا تعرف التورط العاطفي، ولا تمنحك أكثر مما هو ضرورى بالكاد.
وكنتُ فيها، لا كزائر عابر، بل كمن يحمل بعضًا من أثقال المنافي، ويبحث عن متنفس صغير وسط صقيع لا يرحم، ومهام معقدة، وعلاقات كنت أظنها أخوّة... حتى فاجأتنى لحظة اختبار لم تترك لأحدٍ مجالًا للاختباء.
كنت فى ورطة حقيقية. مأزق معقد، لم يكن ماليًا فقط، ولا سياسيًا خالصًا. بل خليط من الاثنين، فى توقيت دقيق، كان يفترض أن يجمعنا لا أن يفضح هشاشتنا.
بطبيعتي، لا أحب أن أطلب، ولا أن أشرح كثيرًا. كنت أظن – وبعض الظنّ سذاجة – أن من حسبتهم “الأقرب” سيبادرون. لكن أحدًا لم يلتفت. بعضهم انسحب بصمت، وبعضهم تذرّع بالمشاغل، وبعضهم اكتفى بنظرات مرتبكة تشبه الإدانة أكثر مما تشبه العجز.
وحده يحيى يخلف فعل ما لم أطلبه.
جاء إليّ ببساطة، جلس بهدوئه المعروف، وقال بنبرة لا تفضح شيئًا سوى الاهتمام:
“أنت مش مرتاح... فى حاجة؟”
لم أتهرب. لم أشرح كثيرًا. لكنه فهم.
تحرك فورًا. اتخذ خطوات عملية، فتح أبوابًا مغلقة، وسوى ما استعصى عليّ، دون أن يرفع صوته، دون أن ينتظر شكرًا، دون أن يشعرنى لحظة أننى مدين له بشيء.
وبعد أن انتهى كل شيء، لم يلمح. لم يذكر. لم يسجل شيئًا فى دفتر الحساب.
كان ذلك الموقف كافيًا لإعادة رسم صورته فى وجداني.
لم يعد فقط الكاتب الذى قرأت له رواية بديعة، ولا المثقف الذى يربت على كتف الشباب فى الملتقيات، بل بات الصديق الذى لا يخذل، والنبيل الذى لا يعلن نبله، لأنه ببساطة لا يرى فى النبل استعراضا، بل سلوكًا طبيعيًا.
كانت براغ باردة… لكن قلب يحيى يخلف فى تلك اللحظة كان أدفأ من كل ما حولي.
حين يُختبر الرجال فى صمت اللحظة
ما بين دمشق وبراغ، رسم يحيى يخلف لنفسه موقعًا لا تمنحه المناصب، ولا تصنعه الجوائز.
فى دمشق، حافظ على وحدة الثقافة عندما انفجرت السياسة.
وفى براغ، تدخل دون دعوة، وحسم أزمة كنت فيها أقرب إلى الغريب، فكان أقرب لى من كثيرين.
وحين التقيته بعدها فى القاهرة فى تسعينيات القرن الماضي، أعربت له عن امتنانى لما فعل.
ابتسم، وقال ببساطة تشبه روحه:
“قمت بواجبي... لا أكثر.”
الخاتمة فى القاهرة
توالت لقاءاتنا. وفيها من الذكريات ما يستحق أن يروى... لكننا نؤجلها الآن، لا لأننى نسيت، بل لأن المساحة لا تتسع لكل ما فى القلب من ودٍّ لرجل بقى كبيرًا لأنه لم يحاول يومًا أن يبدو كذلك.
كلمات بحث
يحيى يخلف
الحصار الصهيونى
ثقافة
رابط دائم
اضف تعليقك
الاسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
الاكثر قراءة
أبو القاسم... ظلال الفن وومضات الروح (2)
الأمين العام لمجمع الملك سلمان للغة العربية: جائزة البابطين اعتراف عربى بمكانة المشروع
نجيب الحصادى.. رحيل عقل يرفض الغياب
اعلى
< li>
نحن والعالم
< li>
حياة الناس
< li>
سوق ومال
< li>
فنون وفضائيات
< li>
مقالات
< li>
ثقافة
< li>
فجر الضمير
< li>
دائرة الحوار
< li>
رياضة
< li>
الملفات
< li>
أرشيف المجلة
< li>
أول الأسبوع
< li>
منوعات
< li>
Business Leaders
جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام