مقالات



شهداء البطون الخاوية

14-6-2025 | 18:49
د. عمرو بسطويسى

فرض الواقع المأساوى نفسه، على الأوضاع الإنسانية منذ أحداث السابع من أكتوبر، واندلاع العملية العسكرية الإسرائيلية فى قطاع غزة. هذه الأحداث، أدت إلى ندرة فى الغذاء والماء والدواء وجميع مستلزمات الحياة الأساسية، ناهيك عن القتل والتهجير المنظم. 
ومنذ بداية الأحداث كانت هناك أوقات قصيرة، سَمح فيها الجانب الإسرائيلى بدخول مساعدات من الحدود المصرية فى رفح، وكذلك من معبر كرم أبو سالم.  لكن الآونة الأخيرة شهدت تصعيداً حاداً فى الأزمة الإنسانية نتيجة العملية العسكرية الإسرائيلية وتشديد الحصار على القطاع كله وغلق كل المعابر.
وإذا ما أضفنا الحظر الذى فرضه جيش الاحتلال على كل مكاتب وهيئات منظمة الأونروا، التى كانت المصدر الأساسى لكل أنواع المساعدات لأهل غزة المنكوبين، فإننا هنا نتحدث عن أكبر سجن مجاعى، ولعله الأسوأ فى التاريخ الحديث، وربما حتى فى التاريخ بأسره. 
وتذرعت إسرائيل باعتبارات أمنية وتنظيمية، وأعلنت عن خطة جديدة للسيطرة على جميع المساعدات الإنسانية التى تدخل قطاع غزة. ومن هنا، أصبحت ذات اليد التى تقتل بلا رحمة وبشكل يومى هى نفسها التى تُطعم ! حيث حدد جيش الاحتلال معبر كرم أبو سالم دون غيره لدخول المساعدات، وحيث تخضع جميع الشحنات، وكذلك العاملين لفحص أمنى دقيق ومبالغ فيه. 
هذه القيود المفروضة على دخول المساعدات منعت أكثر من 83 % من المساعدات من دخول غزة، وأدت إلى معاناة سكان القطاع من مستويات مرتفعة من انعدام الأمن الغذائى، وسببت مجاعة حقيقية وانتشار سوء التغذية بين أطفال القطاع وتهدد اليوم أكثر من 70 ألف طفل بالموت جوعاً.
وفى طيات هذا الفشل الذريع فى توزيع المساعدات للجموع الجائعة، يتوجب أن نلقى نظرة على الجهات المكلفة بتوزيع المساعدات، لكى نتبين ما خفى من حقائق وراء هذا الوضع اللا إنسانى. ومن بين هذه الشركات نجد (مؤسسة غزة الإنسانية) (Gaza humanitarian foundation) وهى الجهة الرئيسية المسئولة عن توزيع المساعدات منذ مايو 2025، وقد تأسست فى ولاية ديلاوير الأمريكية بدعم من الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية، وتدير حالياً أربعة مراكز توزيع فى جنوب غزة وخاصةً فى رفح. وشركة Global Development Corporation (GDC) وهى مقاول مكلف بتوزيع المساعدات بعقد مباشر مع وزارة الدفاع الإسرائيلية، وتضم فريقاً من المقاتلين السابقين فى القوات الخاصة الإسرائيلية والأمريكية !وبالتعاون مع (GDC) نجد شركة Constellis شركة أمنية أمريكية خاصة، وما هى إلا امتداد لشركة (Black Water)  المثيرة للجدل، مكلفة بمهمة تأمين قوافل المساعدات وحمايتها ويعمل بها مقاتلون سابقون. وشركة Orbis الأمنية الأمريكية والمرشحة للمشاركة فى تأمين المساعدات. ومثلها توجد شركة Safe reach solutions. وقد تم تقدير تكلفة تأمين المساعدات فقط بحوالى 60 مليون دولار أمريكى !
وهنا يطرح السؤال نفسه وبقوة؛ أين نتيجة عمل هذه الشركات الأمريكية العملاقة، والملايين التى تنفق فقط على تأمين المساعدات وليس على المساعدات نفسها؟ الإجابة تحمل مأساة إنسانية أكثر ألماً من المجاعة الجماعية التى يعانى منها القطاع، حيث واجهت الشركات المذكورة انتقادات من قبل منظمات حقوقية وإنسانية دولية، بسبب ما يُعتبر “عسكرة” لعملية توزيع المساعدات، التى شهدت حوادث مأساوية، أسفرت عن سقوط العديد من الضحايا. ففى عام 2024 سقط المئات من الفلسطينيين قتلى فى حوادث متفرقة أثناء توزيع المساعدات، برصاص جيش الإحتلال بمدينة غزة . 
ولم تخل صفحات مواقع التواصل الاجتماعى من الفيديوهات التى تظهر أفراد تلك الشركات وهم يسخرون من الجموع الجائعة وبعضهم يطلق النار لتفريقهم. وشهد عام 2025 -حسب تقارير من مراسلين صحفيين على أرض غزة- تحول مناطق صرف المساعدات والمحددة من جيش الاحتلال إلى مصائد لقتل المدنيين الجائعين الذين حاولوا دخول هذه المناطق، ففى يوم الأحد 1 يونيو 2025، على سبيل المثال، قُتل ما لا يقل عن 31 فلسطينياً وأُصيب أكثر من 170 آخرين أثناء توجههم لاستلام مساعدات غذائية فى منطقة المواصى قرب رفح جنوب قطاع غزة. وأفادت وزارة الصحة فى غزة بأن القوات الإسرائيلية فتحت النار على الحشود على بعد حوالى كيلومتر من مركز توزيع المساعدات الذى تديره “مؤسسة غزة الإنسانية” المدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة، و جاء إطلاق النار من عدة اتجاهات، بما فى ذلك السفن الحربية الإسرائيلية والدبابات والطائرات المُسيّرة. 
اليوم، أصبحت المساعدات تُوزع تحت فوهات البنادق، وأصبحت البطون الخاوية تُقابل بالرصاص لا بالخبز، ومع الفشل الذريع فى توزيع المساعدات، ومع أعداد القتلى من الجوعى، فإننا يجب أن نطرح تساؤلات مؤلمة عن دور الشركات الأمريكية والإسرائيلية المكلفة بمهمة توزيع المساعدات. 
إن الوضع الإنسانى فى غزة تدهور إلى حد يندى له الجبين، وتتوارى منه الإنسانية خجلاً وحياءً، وقد أصبحنا نرى كل يوم شهداءً يموتون وبطونهم خاوية، كل ذلك فى ظل صمت دولى مقيت، تقطعه فى بعض الأحيان تظاهرات وصيحات أبناء العالم الحر ممن تبقى لديهم بعض الإحساس البشرى والكرامة الإنسانية.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام