مقالات



العدمية السياسية.. مرض خطير

11-6-2025 | 01:00
مهدى مصطفى

من ديوجين «الإغريقى» إلى أبى العلاء «العباسي» إلى نيتشه «الألمانى»، لا عزاء للعدميين.
أكره العدمية، بكل تصنيفاتها، سياسية كانت أم اجتماعية أم ثقافية، ولا أطيق البكاء على الأطلال، أو الخوف من الأعداء، فقط أعرف تدبيرهم بعناية، وأستعد، ولا أبالغ فى سطوتهم، فأهزم نفسى قبل المواجهة المحتومة.
كان امرؤ القيس، أعظم شاعر أنجبته العربية، قد بدأ معلقته الشهيرة بالوقوف على الأطلال، حين قال: «قفا نبك»، لكنه ما لبث أن هجر الدمع والمناحة، حين بلغه مقتل أبيه حُجر، لم يَنُحْ، لم ينهزم، ارتدى عباءة الملك المخلوع، ونزع عن نفسه ثياب اللهو والخمر والنساء.
تحول إلى حامل الثأر، وسردية كاملة اسمها «امرؤ القيس»، إخوته بكوا، فاختفوا من كتب التاريخ والجغرافيا، أما هو فظل وحيدا على ظهر الجسارة: أمير الشعر، وريث المأساة النبيلة. 
فعلت الخنساء مثله، أو أكثر، ودعت بنيها الأربعة إلى سيوف الحرب، ثم قالت: «الحمد لله الذى شرفنى بقتلهم»، كأنها امرأة من حجر، تشد من عزيمته العواصف. 
الخوف طبيعي، كره الحرب غريزة، لكن الجزع مرض، وإذا تفشى هذا المرض، واستكان له الناس، غدا وباء يجهز على الحضارات، ويشرع الأبواب أمام الغزاة، فالثقافة التى تكتفى بتوصيف الداء دون دواء لمقاومته، ليست ثقافة، بل لطم ونواح. 
أستطيع أن أفهم العدمية كنزعة فلسفية لدى مفكر متشائم، ولدى غرب صنع الحروب والعبودية والمحارق، ثم قال إنه أرقى البشر، وتوهم أنه حامل الحضارة الأوحد.
الآن ينفجر رأسه بيمينية متطرفة، تبتلع إنجازه من عصر التنوير حتى الذكاء الاصطناعي، تحيله إلى رماد، تستبدل بالدولة الشركة، وتستبدل بالأمة العلامة التجارية، وتحول المواطن إلى كائن فردانى لا يرى فى العالم سوى مرآة ذاته. 
العدمية السياسية مشروع ذري، بلغ ذروته حين قصفوا مدينتى هيروشيما وناجازاكى اليابانيتين، وتبلغ العدمية ذروتها اليوم فى غزة، حين تهدم المدن فوق رؤوس أهلها، وتقتل النساء والأطفال بلا ندم.
كلما دفعونا إلى الجحيم، رفضنا الاصطفاف فى طوابير الهزيمة، لم نجزع، من غزاة البحر فى عصور ما قبل التدوين، إلى حملات الفرنجة، إلى نابليون وفريزر، إلى جماعة «المسألة اليهودية» التى زرعت قسرا فى قلب فلسطين، كنا هناك، فى وجه كل غزو، نكتب بالمواجهة لا بالبكاء. 
شخص مصرى واحد، خرج من أقصى التاريخ، بعد 2500 عام من الاحتلالات، أسهم فى كنس الاستعمار من أرض العرب، وآسيا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية، اسمه جمال عبد الناصر، عاقبونا على هذا التمرد فى نكسة يونيو 67، وانتظروا أن يرفع الهاتف ليعلن الاستسلام، لكنه لم يفعل، كأن شعبه أوقف الزمن عند توقيته الخاص. 
قارنوا: حين اجتاح نابليون أوروبا، لم يوقفه أحد، بسمارك لم يتلعثم، وهتلر اجتاح فرنسا الاستعمارية خلال ساعات، ونصب لها حكومة فيشي” العميلة”.
لا أحب “هوامش على دفتر النكسة” لنزار قباني، رغم عظمة الرجل شعرا، بل أصدق بدر شاكر السياب فى قصيدته “فى المغرب العربي”: “قرأت اسمى على صخرة / هنا فى وحشة الصحراء/ على آجُرّة حمراء”، وأحب أمل دنقل حين يكتب “البكاء بين يدى زرقاء اليمامة” شامخا، عنيدا، يصرخ فى وجه المدججين بالتبرير، فالتاريخ لا يكتب بالأسى، بل بالرفض. 
اسألوا سقنن رع، وسلالته من كامس إلى أحمس، كيف كسروا الهكسوس.
اسألوا رمسيس الثانى فى معركة قادش، كيف انتصر.
اسألوا رمسيس الثالث عن غزاة البحر، ومرنبتاح، الذى دون على جدران معبده عن الجماعة التى واجهها فى أرض كنعان: “دُمرت، وليس لها زرع”. 
اسألوا قطز وبيبرس، حين هزما المغول، وكسرا وهم التتار، أولئك لم يكونوا عدميين، لم يلتفتوا للخراب، بل طاردوه حتى آخر سهم. 
فى أكتوبر 1973، كانت الحرب مع منظومة عالمية تقودها أمريكا، لكننا أرسلنا رسالة واحدة: نكسة يونيو كانت غفوة، لا قدرا أبديا.
رغم الطوق المشتعل حولنا من الجهات الأربع، فإن النواة الصلبة لا تكل، ولا تفتح باب الخوف، ولا تدعو إلى اللطم وشق الجيوب، حتى لو ظهرت بيننا نخبة متعبة، تهرول لفتح الجسور للعدو من عصر إلى عصر.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام