فجر الضمير



سميحة خريس.. خرابيش الحرف

14-6-2025 | 20:27
جعفر العقيلى - كاتب أردنى

لم تتردد فى ولوج مناطق محظورة فى النفس البشـريّة 
 
هاجسُ الكتابة مؤرقٌ إلى حدّ أنه لا يغادرنا، هذا ما تكشف عنه الأديبة الأردنية سميحة خريس، فى سياق معاينة السؤال الملحّ والخفى، الذى يلازمها كلما دشّنت مشروعاً إبداعياً: «لماذا نكتب؟»، أما الإجابة فتلخّصها بقولها: »لعلَّنا نشعر بالخوف دائماً مِن تبدُّد الحياة التى نعرفها، نخاف مِن تلاشى شهادتنا على الحياة، ونسعى لطرائق مختلفة فى تثبيتها وترك بصماتنا حيَّةً تدلُّ علينا»، مؤكدةً أن الكتابة بهذا المعنى «محاوَلَة للبقاء، حيلة لإبعاد المَلَل، صوتٌ يكسـر الصّمت، معنى يملأ الفراغ».
 
خريس، التى صدر لها نحو عشرين كتاباً فى فنون السرد، ترى الكتابة بوصفها «لا تخلو مِن رغبة دفينة فى صـياغة العالم على ما نحبّ ونشتهى ونتوقّع»، وهى «بحثٌ عميقٌ فى دواخلنا، وتحايُلٌ للبوح بالأفكار والمشاعر» بحسب تعبيرها. 
وفى كتابها الشهادة الذى اختارت له عنوان «خرابيش الحرف على الروح» (الآن ناشرون وموزعون، عمّان، 2016)، تعاين صاحبة «فستق عبيد»، التى نالت جائزة كتارا للرواية العربية (2017)، حال المبدع بعد نضوج التجربة، فتقول فى ذلك: «أقتربُ حثيثاً مِن الستين، وأتركُ طواعيةً نَزَقى وجنونى، وأميلُ إلى حالةٍ مِن الدّعة والتأمُّل أقرب إلى السُّكون، أقرأ، ولا أستمتع بسهولة، باتت ذائقتى مستعصـيةً على البسـيطِ والسطحى والعادى»، وتستذكر مرحلة الطفولة، بعد أن تقرّ بوطأة السنين على التجربة: «فى طفولتى حلمتُ أنى أطير وأجترح المعجزات، وخجلتُ مِن البوح بالآفاق التى أسافر إليها كلّ مساء، ثمّ فى كهولتى، رحتُ أتشبّث بالحلم وأراهن عليه، وأحوِّلهُ وقوداً للكلمات».
وتُعدّدُ صاحبة رواية «شجرة الفهود» التى كرّستها منذ مطلع التسعينيات كاتبةً متمرّسة، الحُجَجَ التى يتذرّع بها المبدعون عند إشاحة الكتابة وجهها عنهم، ومنها: «العمل المرهق، والالتزامات الاجتماعية، وعدم توافر الوقت للقراءة، والحالة المفجعة التى تعيشها المنطقة العربية»، لكنها ترى أن كل تلك الحجج واهية، فـ«المحارب لا يحتاج إلى استراحة» لأنّ سـيفه «سيصدأ فى الهدنة السَّمجة»، وتضيف فى هذا السياق: «لقد خبرتُ كيف أعيش الحياة بصخبها، وثقلها وانشغالاتها، من دون أن تحول بينى وبين الكتابة يوماً، ربما أنا الآن فى أفضل مراحل الحياة من التخفُّف مِن مسئولياتى، والقراءة مُتاحة، ما زالت الدنيا تكتظّ بمليارات الكُتُب البديعة التى لم تصافح عَينى، التى تنتظر دهشتى، وتملك أسـراراً لم تخطر فى البال».
وتشير خريس التى فازت بجائزة الدولة الأردنية التقديرية عن مجمل أعمالها، إلى أنها كانت تلجأ إلى الانزياح عن السـرد، إذا ما استعصت الكتابة عليها، فتكتب سـيناريوهات لعملٍ إذاعى أو تليفزيونى أو مسـرحى، وغيرها مما تصفه بـ»مُتفرِّقات»، ريثما تستعيد توازنها وتعود لكتابة الرواية.
وفى محاولتها التقرب من الكتابة واستعادة حروفها، تمارس خريس جملةً مما تسميه «البهلوانيّات»، مشيرة إلى أن هذا الاسم «غير مصنَّف نقديّاً»، وأنها اجترحته فى محاولة لوصف «طرائق مناكفة الكتابة»، التى غالباً ما تأتى بما يحلو للنُقّاد تسميته «التجديد والتجريب»، فالمسألة بحسب ما ترى ليست سوى «لعب»، «كرّ وفرّ بيننا ككُتّاب، وبيْن الكتابة كعالم حى يتنفّس حولنا وفى أوراقِنا».
وتؤكد خريس أنها اعتادت على سباقها المحموم مع الكلمات، وأنها تمكّنت من إيقاع الكتابة فى  «ورطات»، كثيرة وهى تجرِّب وتلعب، ومن ذلك أنها دفعتها كما أحجار الدومينو فى قصّتها «دومينو»، عندما حوَّلت الحروف والكلمات والجُمَل والفقرات، إلى أحجار تتساقط تِباعاً أو تنهض تِباعاً، ومن ذلك أيضاً أنها تركت ثلاث صفحات بيضاء تماماً فى روايتها «خشخاش»، وأنها خلطت الحابل بالنابل فى روايتها «نارة».
وتقول حول هذه التجارب التى تقارب بين الجدّ واللعب: «أى مُتعة وبهجة عارمة سكنتنى، حين لعبتُ الدومينو بالحروف! الحجارة البيضاء المنقَّطة بالسواد تحوّلَت إلى كلمات، رأيتُ فى اصطفافها شكلاً رمزيّاً لاصطفاف الحياة، حيث يمكنكَ أن تلمس بإصبعكَ الحجر الأول، فيميل ويدفع أمامه الحجارة تِباعاً حتى آخر حجر، ويسقط البناء كلّه.. هكذا بَدَت الحياة، أسبابا تؤدّى إلى أسباب، وأبواب تفتح أبواباً، ولعبة مدوّرة منذ البداية وحتى النهاية، أو مِن لحظة الميلاد إلى لحظة الموت».
وتتحدث خريس التى تناولت فى أعمالها الأدبية المفاصل الاجتماعية والتاريخية للشعب الأردنى والأمة العربية، ولم تتردد فى ولوج مناطق محظورة فى النفس البشـريّة، عن روافد الإبداع التى أمدّت كتابتها بالحياة والاستمرار، وأولها رافد الطفولة الذى تقول عنه:»أتمتّع بذاكرة تفصـيليّة حول مرحلة الطفولة، أستطيع أن أعايِن دقّتى حين نتبادل وإخوتى أو أقاربى بعض الذكريات، وهذا الرافد غنيّ بالأحداث والمشاعر».
أما الرافد الثانى فهو القراءة، وتقول فيه: «كل الكُتّاب والمُدرِّسـين يقولون لمن يجرّب الكتابة: إذا أردتَ أنْ تكتب، عليكَ أن تقرأ». ويمثّل السفر رافداً ذا دلالة، خصوصا فى تجربة خريس بحكم ظروف عائلتها، والعمل الدبلوماسى الذى تولّاه والدها، فأتاح لها الإقامة فى غير بلدٍ عربى، وهى التجربة التى تقول عنها: «مثَّلَت تجربة ركوب الطائرة تخيلاً مُدهشاً لديّ، عدا التجربة المُعاشة التى جعلتنى أتعرَّف على خريطة الإنسان العربى، وأتمكّن من التمييز بيْن الفروق الطفيفة فى اللغة أو اللهجة، فى الهيئة والملبس والمعتقد والثقافة عامّة».
وتؤكد خريس التى صدر لها فى أدب الرحلات، كتاب بعنوان «على جناح الطير»، أنّ سفرها لم يكن سفرَ السائح بقدر ما اعتراه فضولُ الباحث، وتقصّـى مَن أراد أن يعرف، وتخيل الكاتب، وتضيف: «لقد شكَّلَت لى تلك التجربة زاداً دسماً مِن الشخصـيات الإنسانيّة التى تحفل بها أعمالى، وشكَّلَت قدرتى على التحليل والرَّصد وفهْم الآخر».
وتكشف أن الرواية بدت لها فى البداية عالماً مُوازيا، تحاكى به العالم الواقعى تحدّياً وزهواً، وتضيف: «لكنّ الكتابة وهى تمنحنى تواضعها النبيل، كانت تعلّمنى حرفاً حرفاً أنها ليست معنيّة بصورة عن الواقع، لكنّها مدفوعة لاستجلاء المعنى الذى تنطوى عليه الصور، هكذا يولَد العالم الجديد على سنّ القلم، أو فى بُقعة الحبْر، كما تنبت زهرة بريّة، يولَد محمّلاً بدلالاته ومعانيه».
وبعد كل هذه الروايات والمجاميع القصصية، التى تشهد على تحولاتها منذ ما يزيد على أربعة عقود، لا تزال رهبة الكتابة تتملك خريس فى كل مرة تدشّن فيها مشروعاً كتابياً جديداً، وتقول فى ذلك: «كتابة الرواية تعنى التصدّى لصنف إبداعى متطلِّب، إنها تدفعُ بصاحبها إلى المقدِّمة، وتطالبُهُ بتجاوُز مَن سبقوه ومَن جايَلوه، كما تفرض عليه تجاوُز نفسه فى كلّ نصّ يكتبه، وتحاسبه حساباً عسـيراً إذا ارتخى أو تهاوَن أو استسهل».
وبرغم أن تجربتها راسخة فى الكتابة، فإن خريس تعبّر دائماً عن تطلّعها إلى «حدودٍ لا نهائية»، موضحةً: «تعلَّمْتُ خلال حياتى، ألّا أنظر للخلف لأعد إنجازاتى أو أستجدى زهواً زائفا، أو أحمل النفس ندماً موجعاً». مضيفة بثقة محببة: «لعلى فراشة النار والنور الحمقاء، التى يعنى انتصارها احتراقها».
وتذهب خريس بعيداً فى البوح، ملخصةً تجربتها فى كتابها «خرابيش الحرف على الروح»، بقولها: «اخترتُ أنْ تظلّ عيناى مفتوحتين على المَعنى والتأويل، وأنْ تحملَ نصوصـى ثِقَل الحياة المحيطة بنا، وخفّة الكائن».
 

الاكثر قراءة

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام