فجر الضمير



بورتريه خاص لسميحة خريس

14-6-2025 | 20:33
هالة البدرى - كاتبة وروائية

كثرة الترحال والدخول كل فترة إلى عالم جديد.. دفعها لاكتشاف وإعادة غزل روابط بينها وبينه 
دفعتها بيئتها الاجتماعية أن تهفو إلى الحرية.. مع إدراك كامل أنها تحيا فى مناخ محافظ لا تريد أن تقضى عليه
 
حين فكرت فى الكتابة عن صديقتى الكاتبة المميزة جدا سميحة خريس إحدى نجوم الكتابة العربية الآن، خطر لى على الفور أن أرسم لها «بورتريه»، يعكس معرفتى الطويلة بها وبأعمالها، سميحة؛ إنسانة هادئة عقلانية حكيمة إلى أبعد حد، مع مسحة تجدد تبدو فى لمحات من سلوكها المنضبط الصارم، وحبها لكل ما هو كلاسيكى من الموسيقى العالمية والعربية الأصيلة، وغناء أم كلثوم وعبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ وفيروز، وإن كان هذا لا يمنع أن تمسك بها تدندن وهى تقود سيارتها طقاطيق الشباب الخفيفة كما تسميها، إلا ما كان زاعقا ويصيبها بالصداع مثل موسيقى الميتالك، وغيرها من الصراعات الأوروبية الحديثة.
كما تنتهج نفس النهج فى لوحات الفن التشكيلى،  وفى حبها لألوان معينة وقد تصدمها ألوان أخرى حتى وإن كانت وقورة، وأتذكر  ارتباكها أمام اختيار ابنتها وخطيبها لكريستال أسود اللون لنجف بيتهما الجديد، لم تعلق حتى تعطى للعروسين فرصة تأسيس عشهما، كما يشاء وتبادلت النظر معى، لأنها تعرف أنى سأفهم المعنى الذى تريد أن تقوله، فهى لم تستهوها أبدًا الأعمال السريالية، ولا تلك الموجة المتخبطة التى يشهدها الفن التشكيلى اليوم، كما وصفتها وأخبرتنى بميلها إلى الكلاسيكيات التى تركها عصر النهضة، واللوحات التى قدمها كبار الفنانين فى المراحل الأولى من حياتهم، فإذا اتجه الفنان للتجريد الشديد قابلته بالصمت، لكنى لم أتعجب مطلقًا من حبها لسلفادور دالى، برغم هذا فهذا يتوافق مع رغبتها فى التجديد، لكن بمقدار حذر، وهى تمارس نفس الذوق فى التعامل مع أفلام السينما والمسرح والرقص الشرقى بجوار الباليه، وتهتم بالفنون الشعبية بكل صورها، ويبدو انعكاس هذا على ملابسها فى أحيان كثيرة فى شال فلسطينى مطرز باليد وحقيبة قماش، وعينها فى ذات الوقت، على ما تحبه ابنتيها حينما كانتا صبيتين من متابعة خطوط الموضة، مفتاح آخر للتعرف على شخصية سميحة خريس، هو حبها لرياضتى الإسكواش والسباحة، وفى تركها نفسها للارتماء فى الماء نهاراً كاملاً، وعدم استمتاعها بالجلوس على الشط، صورة صادقة لرغبتها فى الحرية والحلم بالبحر المفتوح على الأفق، على الرغم من أنه مأثور فى ذات الوقت بالبر ويعانى مثلها تمامًا، ويكون لعب الإسكواش هو حالة الواقع الذى تلعب فيه وحيدة أحيانا مع حائط يرد الكرة، لتعيد ضربها من جديد مثل سيزيف الذى ينقل الصخر إلى القمة، ويجده فى القاع مرة أخرى ليعيد المعاناة، هو إذن صراع الحلم والواقع الذى يمور فى داخل كل كاتبة عربية منا، فى أى موقع على خريطة الوطن العربى كله، اندثرت هواياتها الحبيبة الآن فيما عدا السفر تحت ضغط ثقل الواقع المر، لكنها مازالت تناوش الروح مع الخوف من المجهول القادم. 
سميحة خريس التى تمرست منذ الطفولة، على الانتقال من عالم لآخر وعلى احترام خصوصية كل عالم، باعتبارها ابنة دبلوماسى يعمل سفيرا لبلاده فى مناطق متعددة، منها السودان والقاهرة والدوحة، والإمارات ومصاحبا لها إلى رحلات ترفيهية لإسبانيا وتركيا، وغيرها من البلاد جعلها تنتبه لتفاصيل هذه العوالم، وترصدها وتودعها فى شرنقة عميقة داخل ذاكرتها التى ساعدت هذا النوع من الحياة على زيادة قوتها، وقدرتها فى الاحتفاظ بكل ما يمر بها طازجا دفاعا عن الحياة، والوجود لطفلة تتنقل كفراشة بين زهور مختلفة الألوان، لهذا كان من الطبيعى أن تحاول هذه الطفلة أن تتميز وسط هذا التنوع، وأن يكون لها كيان خاص استخدمت فيه الدأب الذى اتضح فى كل أعمالها، وبصفة خاصة الأعمال التى كانت تستلزم بحثا عن معلومات اجتماعية وسياسية، تتعامل معها بعقل ناقد فى مناطق مثل الجزائر، ومناطق لم تزرها من قبل كما رأينا البرتغال فى روايتها فستق عبيد على سبيل المثال، وإن كانت قد استخدمت معرفتها العميقة بالشعب السودانى، فى روايتها «بابنوس»، خصوصا أنها تزوجت بعد قصة حب عظيمة تليق بها، من زميل لها من أب سودانى، وأم مصرية، وأصبح بيتها «أردنى - فلسطينى - سودانى - مصرى»، حتى إن لهجتها التى تتحدث بها تفلت منها تعبيرات مصرية وسودانية، بالإضافة بالطبع إلى خليط اللهجات التى تخص سميحة نفسها مع معرفتها العربية معرفة دقيقة للغاية، انعكست هذه الصفات على تكوين بيتها الذى يبث فيك الراحة بمجرد الدخول إليه، ليس بسبب أنه ينم عن ذوق رفيع، إنما لمراعاة العنصر الذهبى الذى ينسق التوازن بين الكتلة والفراغ، وهو ما ينم عن خبرة تشكيلية واضحة، ربما يعود سببها إلى عملها كمدير، أو رئيس لتحرير جريدة، أو مجلة تشرف بشكل مباشر على أن يكون الماكيت مريحا، ليتمكن القارئ من القراءة والانتباه لما هو مهم.
أعتقد أن كثرة الترحال والدخول كل فترة إلى عالم جديد، دفعها لاكتشاف وإعادة غزل روابط بينها وبينه، جعلها تتمسك بالقراءة كعالم ليس جذابا فحسب، لكنه قادر على استعادة ما تفقده من أماكن، وقادر أيضا على أن يهبها أصدقاء دائمين، يمكنها الارتحال معهم فى أى مكان تصحبهم فيه إلى عزلتها الجديدة، فراحت تعمق من معرفتها بالكُتاب وأعمالهم المدهشة التى تنقل إليها العالم الخارجى على اتساعه، وبمرور الزمن تعلمت أن تستحضرهم فى أى لحظة، بشراء كتاب جديد وأن تصادق أورهان باموق وكازانتزاكس وإيزابيل الليندى، و جابرييل جارسيا ماركيز، وآخرين عربا وأجانب، وقد تكون هذه حال كل الكتاب على الإطلاق، فهم يستمتعون بصداقة الكُتاب أكثر من صداقة البشر العاديين، لأنهم يدركون مساحة القرب الإنسانى المشترك بينهم، حتى وإن كان عن بعد من طرف واحد، وفى تجربتى الشخصية مع القراءة توطدت الصداقة لتضم أبطال الأعمال الأدبية نفسها، وكونت حافزا لى لإقامة علاقة أوسع بالكتابة، ومد الخيوط مع أبطال الآخرين، لهذا أتفهم تماما الدور الذى لعبته القراءة مع سميحة خريس فى حياتها المتنقلة دومًا.
كل هذه العوامل، أتاحت لها أن تمر بك بنعومة، تجعلك لا تدرك أن عالمها الذى يبدو ساكنا من الخارج، يمور فى الداخل بصخب التساؤلات والمتابعة والألم الناتج عن إدراك ما يحيط بها فى بلادها، بل ويتجاوزه إلى معركة الإنسان مع البقاء والحياة، وصراعه مع القوى الكبرى التى تريد استعباده وانتهاك إنسانيته والسؤال الأهم عن الحرية، هدوءها العام أعطاها الفرصة للتأمل بعمق، وقدمت لها مهنتها الصحفية كمحررة أولا فى الرأى والدستور الأردنيتين، والاتحاد الظبيانية، ثم رئيسة لتحرير عدد من المجلات، منها صحيفة عمان، ومجلة ماجد القدرة على البحث والاستقصاء، ومتابعة الأخبار فى كل أنحاء العالم، وتحليلها وهو ما يمثل ضغطًا هائلاً على الروائى الذى تعمل مخيلته بشكل استثنائى، لجلب هذه الوقائع إلى نسيج حياته ويومه وأفكاره، ولا يستطيع أن يفصلها بسهولة عن مشاعره فى أدق خصوصيتها، وهذا ما يعانيه كل روائى عمل بالصحافة، لأنه دخل إلى المصيدة الشائكة العالمية، فى حين أنه يحتاج كروائى لكهف ينفرد فيه بنفسه، ليجمع مشاعره وأفكاره فى خدمة أبطاله وعالمهم، الذى لا يتفق بالضرورة مع العالم الصاخب للصحفى. 
 وسط هذه البيئة المتنوعة التى عاشتها الكاتبة الكبيرة، لا تكون الشخصيات السودانية، أو البرتغالية، أو المصرية، أو الفلسطينية التى قدمتها فى عدد من روايتها، هى شخصيات خيالية تماما، بل ممتلئة بالحياة تجعلنا نحس أنها من لحم ودم، وأذكر أنها وصفت لى نفسها ذات يوم، وأنا أحاورها من أجل كتابى «غواية الحكى»، قائلة إنها تنصرف إلى الخاص بها دون أن تهجر العالم المحيط، وهو كلام دقيق للغاية، أراه فى مجمل تجربتها وفى قصصها القصيرة على وجه الخصوص، ومنها مجموعة «دومنو»، ومجموعة «الأرض».
دفعتها بيئتها الاجتماعية أيضا، أن تهفو إلى الحرية، مع إدراك كامل أنها تحيا فى مناخ محافظ لا تريد أن تقضى عليه، أو تسفح خبرات الناس المحيطين بها، لكن الزمن بتجاربه الثقيلة أعطاها القدرة على التعامل مع الكتابة بحرية أكبر، لم تنشغل فيها بالانتباه المتعصب لقضايا المرأة، على العكس انتبهت أكثر لما يعانيه المجتمع كله، من رجال ونساء على الرغم من أن بعض الكاتبات قدمن أنفسهن من منطلق الأنوثة متبنين، وجهة النظر الذكورية إلى العالم التى يحاولن «الفلفصة» منه ورحن يصرخن من التعامل مع كتاباتهن، على أساس التمييز العنصرى، وسمح البعض من النقاد وأحيانا القراء لأنفسهم بمحاكماتهن على هذا الأساس، وترى فى نظرية النسوية موضة ستخفت عما قريب.
من الطبيعى لشخصية مثل سميحة خريس، أن يتنوع أداؤها سواء بالتنقل بين العمل الصحفى والأدبى، والتنوع فى كتابة الأنواع الأدبية نفسها بين الرواية والقصة القصيرة، والمسرح والتمثيلية الإذاعية، وأن تلاقى هذه الأعمال قبولاً من فنون أخرى، فتحول بعضها إلى سيناريوهات لأعمال إذاعية أو تليفزيونية أو مسرحية، لهذا فى تقديرى كان لابد أن تنتبه لتراثها الاجتماعى والسياسى، وأيضًا لوقائع التاريخ، وأن تستمد منها موضوعات لرواياتها، وقد بدأت برواية «القرمية»، ثم «دفاتر الطوفان» التى حازت بسببها على جائزة أبو القاسم الشابى، وقدمت صورة لمدينة عمان فى الثلاثينيات، و»شجرة الفهود» وبها حصلت على جائزة الدولة التقديرية، ورواية يحيى الذى تعاملت فيها مباشرة مع سؤال الحرية فى علاقة الدين والسلطة، ومع تبدل الأوضاع فى المنطقة العربية واختلاف شكل الصراع الدولى، كان عليها إعادة طرح الأسئلة الكبرى، وفى روايتها « نارة «، وصفت بكوميديا سوداء الحال العربى والمحلى، مستخدمة الأسماء الصريحة للقادة العرب والمثقفين الأكثر شهرة.
فى أعمال سميحة، ملمح آخر هو فلسطين، ومن الطبيعى وهى تسكن عمان، أن تكون فلسطين فى واقعها الجغرافى، وفى ضميرها الحى، وأن تكون حاضرة فى كل أعمالها التى تتناول الأردن، بسبب الامتزاج التاريخى بينهما ترصد العدوان الإسرائيلى على المنطقة، خصوصا رواية «شجرة الفهود»، لأنها كتبت عن تاريخ عمان من عشرينيات القرن الماضى وحتى السبعينيات ورواية «دفاتر الطوفان»، أيضًا لأنها تدور فى عام 1937، وحتى عام قيام الثورة وقبل ظهور الكيان الصهيونى ورواية «القرمية» وهكذا، وقد حرصت سميحة، حين زرت عمان ذات يوم، أن تصحبنى إلى بيت خالها المقام فوق ربوة فى ضيعة تطل على مدينة القدس، على بعد ستين كيلومترا من عمان، وحين هبط الليل كشفت الأنوار البعيدة عن المدينة السراب، التى نركض خلفها منذ ولدنا، ونحن على بعد ثمانمائة كيلومتر، فما بالنا بمن تناوشه على بعد أمتار قليلة.
عادت سميحة خريس إلى مدينة عمان مرة أخرى، لتكون مسرحًا لروايتين مختلفتين الأولى هى «النقطة العمياء»، الغائمة بعيدا عن العقل فلا يدركها الإنسان، وحين يكتشفها يجلد ذاته متسائلا عما جلبه لنفسه بعدم انتباهه، رواية واقعية عما آلت إليه الأمور من دمار وحروب، أدت إلى خراب باستخدام أيدى الأبناء الذين استقطبتهم داعش وغيرها، ممن يسمون أنفسهم المجاهدين، كتابة مختلفة بأسلوب وبنية مختلفة لها رائحة الا حتراق، ورواية ثانية هى «كاميرا 19»، تعاملت فيها مع مرحلة ما بعد الاستعمار وما خلفه ورسخه، من قيم وتبعية من خلال بطلها العائد بعد انتهاء دراسته فى لندن، بخبرة جديدة فى التعامل مع سوق السلاح والمخدرات، التى تعلمها من زميله الأفغانى، ليستفيد منها فى غسيل الأموال فى بلاده، رؤية جديدة لما يحدث لأبنائنا، فى زمن الاغتراب فى بلاد المحتل القديم.
عادت سميحة خريس إلى أرض الواقع المفاجئ فى تجلياته، لتنهل منه وتفككه، بحثا عن قيم ضائعة ومستقبل غامض، وحياة يغلفها دخان أسود، عادت لأن الكاتب لا يستطيع أن يهرب من قدره، ويعيش فى خيال بعيد عن الواقع، حتى وإن لجأ إلى الفانتازيا أحيانا، لا بد أن يعود آجلا أو عاجلا إلى الأرض المغروس فيها بقدميه، وإن طالت رأسه السماء تحية للكاتبة الكبيرة، والصديقة الأعز فى مسيرتها الوضاءة وألمها الإنسانى.
 

الاكثر قراءة

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام