نحن والعالم



تقليص الوجود الأمريكى فى سوريا.. مشهد جديد وقوى على مفترق طرق

21-6-2025 | 22:06
إلهامى المليجي

الانسحاب الأمريكى لا يقاس بعدد القواعد التى تغلق بل بما يحدثه من اهتزاز فى منظومة التوازنات على مدى سنوات
 
سوريا تحوّلت فى نظر واشنطن إلى عبء إستراتيجى لا مردود له خصوصا بعد انهيار النظام المركزى وفشل مشاريع «التغيير المنضبط»
 
منذ أن وطأت أقدام الجنود الأمريكيين أرض سوريا قبل نحو عقد، لم يكن وجودهم مجرد مسألة أمنية، تتعلق بمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية فى سوريا والعراق «داعش»، بل كان تعبيرًا عن مشروع أوسع للهيمنة وإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية فى قلب الشرق الأوسط المتصدع. لكن الزمن تغيّر، والأولويات الأمريكية تحوّلت، ومعها بدأ الانسحاب الصامت من مشهد لطالما اعتبرته واشنطن مسرحًا لرهاناتها المفتوحة. تصريح المبعوث الأمريكى الخاص إلى سوريا، مؤخرًا، حول إمكانية تقليص الوجود العسكرى الأمريكى إلى قاعدة واحدة فقط، ليس مجرد إعلان عابر، بل هو بمثابة صافرة نهاية لمرحلة من التدخل الأمريكى المباشر فى الأزمة السورية، وبداية لفصل جديد عنوانه: الفراغ، والتنافس، وإعادة الاصطفاف.
 
هذا التحول لا يحدث فى فراغ، بل فى ظل سقوط النظام السوري، وانسحاب اللاعبين الدوليين التقليديين – روسيا وإيران – من ساحة الصراع، تاركين وراءهم فسيفساء من القوى المحلية المتأهبة، وعلى رأسها قوات سوريا الديمقراطية، والمشهد الكردى الذى يقف مجددًا أمام اختبار التاريخ والجغرافيا.
فى هذا المقال، نحاول تفكيك دلالات الانسحاب الأمريكي، واستشراف مآلاته على موازين القوى فى الشمال والشرق السوري، لنفهم ليس فقط ما يجري، بل ما يُراد له أن يكون.
أولًا: إعادة تموضع أم انسحاب من الشرق الأوسط؟
ليس جديدًا على واشنطن أن تعيد حساباتها العسكرية تبعًا لأولوياتها العالمية. ومع الانشغال المتصاعد بآسيا والتهديد الصيني، والتحديات المتنامية فى أوكرانيا وأمن أوروبا، بات الشرق الأوسط ساحة مؤجلة بالنسبة لصنّاع القرار الأمريكي. سوريا تحديدًا، تحوّلت فى نظر واشنطن إلى عبء إستراتيجى لا مردود له، خاصة بعد انهيار النظام المركزى وفشل مشاريع «التغيير المنضبط».
الحديث عن الاكتفاء بقاعدة واحدة – على الأرجح فى منطقة الشدادى – لا يُشير فقط إلى تقليص عدد الجنود، بل إلى تحوّل نوعى فى مهام الولايات المتحدة من التدخل المباشر إلى الدعم الانتقائى عبر الحلفاء المحليين. وهو ما يفرض سؤالًا جوهريًا: من سيملأ هذا الفراغ؟
 ثانيًا: «قسد» فى قلب العاصفة
مع انسحاب الأمريكيين، تجد قوات سوريا الديمقراطية «قسد» نفسها على مفترق طرق وجودي. فبغياب النظام المركزي، وتلاشى أى دور روسى محتمل بعد خروج موسكو من المشهد، تتبدد جميع خطوط التوازن التقليدية. واعتمادها السابق على واشنطن بات اليوم ورقة خاسرة على طاولة لم تعد قائمة.
لقد أثبتت «قسد» – سياسيًا وعسكريًا – قدرتها على إدارة رقعة جغرافية واسعة تضم مكونات قومية ودينية متعددة، ضمن مشروع «الإدارة الذاتية». لكن هذا المشروع، دون مظلة حماية دولية، سيكون مهددًا فى أى لحظة من الجماعات المسلحة، والتى تتربص بشرق الفرات منذ سنوات.
 لذا، فإن قسد مدعوة اليوم إلى:
- إعادة هيكلة تحالفاتها الداخلية، وتوسيع إطار القرار ليشمل المكونات العربية والسريانية والكردية بتوازن حقيقي.
- التحول من مشروع كردى الصبغة إلى عقد اجتماعى سورى تعددي، قادر على استقطاب الشرائح الرافضة للتدخل الخارجي.
- الانفتاح على الفضاء العربى والدولى من بوابات جديدة، أطراف أوروبية – لخلق مظلة توازن جديدة تحفظ ما تبقى من مكتسبات.
وليس خافيًا أن هذا الانسحاب، من حيث الشكل والتوقيت، لا يأتى بمعزل عن التصوّرات الأمريكية الأوسع بشأن سوريا. ففى ديسمبر 2024، وفى واحدة من أكثر اللحظات تعبيرًا عن التحولات الجارية. 
المنطقة التى تنسحب منها القوات الأمريكية ليست مجرد فراغ أمني، بل هى فرصة توسّع إستراتيجية للقوى الإقليمية التى لا تخفى طموحها بربط خطوط السيطرة من أعزاز إلى رأس العين، وربما أبعد من ذلك، فى مشروع إقليمى يعيد تشكيل شمال سوريا سياسيًا وديموجرافيًا.
لكن هناك من يدرك أيضًا أن المغامرة فى عمق الشمال والشرق قد تُشعل مواجهة واسعة مع قوى محلية مستعدة للمقاومة، وقد تُدخل أطرافا إقليمية فى مستنقع استنزاف جديد، لا سيما إذا تبنّى المجتمع الكردى السورى خيار الدفاع الوجودى بدلًا من المراهنة على الغطاء الخارجي.
رابعًا: المشهد الكردى بين التهديد والفرصة
فى ظل انهيار النظام المركزى السوري، وانكفاء القوى الدولية التقليدية، يعيش المشهد الكردى السورى لحظة دقيقة. فمن جهة، هناك تهديد وجودي، ومن جهة أخرى هناك فرصة لإعادة بناء المشروع الكردى على أسس أكثر شمولًا وعمقًا.
يتوقف الكثير على:
- إمكانات توحيد الصفوف بين القوى الكردية (قسد، المجلس الوطنى الكردي، الحراك المستقل).
- تفعيل الحوار مع المكونات غير الكردية كمدخل لبناء جبهة مقاومة شاملة لأى تدخل خارجي.
 
مستقبل غير محسوم فى فراغٍ مفتوح
الانسحاب الأمريكى من سوريا لا يُقاس بعدد القواعد التى تُغلق، بل بما يُحدثه من اهتزاز فى منظومة التوازنات التى استقرت – أو توهّمت الاستقرار – على مدى سنوات. نحن أمام تحوّل إستراتيجى، يفتح الباب لحقبة مختلفة، قد لا تكون أقل دموية من سابقاتها، لكنها بلا شك أكثر تعقيدًا.
قوات سوريا الديمقراطية، التى كانت ذات يوم ورقة واشنطن الرابحة، باتت فى مهبّ الريح، تبحث عن مظلة فى سماء خالية، أما المشهد الكردى الأوسع، فيخوض امتحان البقاء والتمثيل والتماسك، دون أوهام الإنقاذ الخارجى أو وعود التحالفات المؤقتة. 
فى هذا الفراغ، لا تنفع الشعارات ولا تجدى المواقف الرمادية. المطلوب اليوم إعادة تعريف المشروع الكردى السورى بوصفه مشروعًا ديمقراطيًا جامعًا، لا كرديًا صرفًا ولا أمريكيًا الهوى، بل سوريّ الجذر والتطلّع. مشروع يقف على أكتاف أبنائه، ويتّسع لحلفاء حقيقيين من كل المكونات، ويواجه بعقل مفتوح ووعى تاريخى تحديات اللحظة
إنّ مستقبل سوريا لن يُصاغ فى واشنطن، بل فى حقول سوريا، وفى أزقة الرقة والحسكة والقامشلي. هناك فقط، سيتقرر ما إذا كانت تجربة الإدارة الذاتية ستصبح نواة لحل سورى شامل، أم مجرّد صفحة أخرى فى كتاب الهزائم المؤجلة.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام