فريق نتنياهو عمل على نشر شائعات حول وجود خلاف مع ترامب بشأن ضربة محتملة لإيران إسرائيل تطلق تصريحات توهم من يسمعها أنهم منقسمون حول شن هجوم على طهران فى الأسابيع التى سبقت الهجوم الإسرائيلى على إيران، أغرقت إسرائيل وسائل الإعلام العالمية، والقنوات الدبلوماسية، والخطاب العام بإشارات كاذبة، تهدف إلى تخدير النظام الإيرانى. كان اجتماع مجلس الوزراء الأمنى الإسرائيلى، الذى أعطى الضوء الأخضر للعملية، مٌقنعا فى صورة نقاش روتينى، حول تبادل الأسرى بغزة، ولم يطلع الوزراء على التفاصيل، إلا فى منتدى يتمتع بحماية أمنية بالغة، حيث جرى التوقيع على اتفاقيات سرية، تعرف باسم «شومر سود»، أو «حارس السر»، حتى كبار المسئولين الحكوميين، اعتقدوا أنه لا يوجد أى إجراء كبير وشيك. كما سرب مكتب نتنياهو خبرًا، يفيد بحضوره حفل زفاف ابنه أفنير فى الجليل، مما عزز الوهم بأنه منشغل بأموره الشخصية، ادعى مدير الموساد، ديفيد بارنيا، اعتزامه القيام برحلة إلى واشنطن، فضلا عن المسار التفاوضى الدبلوماسى، الذى حول الانتباه بعيدا عن الاستعدادات العسكرية، أو على الأقل أوحى بأن لحظة الصفر ليست وشيكة.
بحسب تقرير لمركز «هدسون»، الأمريكى المعروف بميوله وتوجهاته المحافظة، فقد سمح فريق نتنياهو، بانتشار شائعات حول وجود خلاف مع الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، بشأن ضربة محتملة لإيران فى وسائل الإعلام، مما عزز تصورات الانقسام السياسى داخل القيادة الإسرائيلية. صممت إسرائيل تلك الحملة المعرفية للتضليل، بهدف تحييد بنية القيادة والسيطرة الإيرانية، ويعد الخداع عاملا أساسيا فى مضاعفة القوة فى التخطيط العملياتى.
اكتسب الخداع أهمية عملياتية متزايدة بالنسبة لإسرائيل، ومن خلال تشكيل بيئة معلومات مخادعة، ضمنت إسرائيل ألا تفعل إيران بروتوكولات الطوارئ، وتفريق كبار كوادرها، وألا تتبنى موقفا دفاعيا قويا، إلا بعد فوات الأوان، أو بوقت متأخر، لكن رد الفعل الإيرانى خالف توقعات خطة الخداع، واعتمدت إسرائيل على الخداع كأسلوب للتشويش الذهنى، والتسلل السرى، والتلاعب النفسى، لخلق بيئة من الارتباك الداخلى على أعلى المستويات، بالداخل الإيرانى، فهى تسعى إلى زعزعة ثقة النظام، مما يسبب الشلل من خلال التشتت.
الخداع ليس تكتيكًا جديدًا فى الحرب، بل كان جزءًا أساسيًا منها منذ فجر التاريخ، ولذلك، له القدرة على تحسين مسار المعركة، أحيانًا يكون هو ما يُمكّنها من تحقيقها أصلًا، وأحيانًا يكون بمثابة العنصر الأكثر حسما فى بدايات الصراع والحملات العسكرية، بدءًا من العصور القديمة، ومرورًا بالحربين العالميتين، ووصولًا إلى التاريخ الحديث فى الشرق الأوسط، وتعرف خطط «الخداع الإستراتيجى»، فى العلوم العسكرية على أنها «مجموعة من الأنشطة والإجراءات المنسقة، والمخطط لها بعناية بالغة، بغية إخفاء التفاصيل الخاصة بالاستعدادات الجارية لشن هجوم مرتقب، والتى قد يؤثر إطلاع العدو عليها، فى مجريات الحرب بصفة عامة».
تشمل هذه الإجراءات طائفة واسعة لا تقتصر على الجانب التعبوى، أو التكتيكى فقط، بل تمتد أيضا وتتسع لتغطى تحت مظلتها الجوانب السياسية والاقتصادية والإعلامية، المرتبطة بعمليات التجهيز لبدء الهجوم المرتقب، وهذا كله بهدف أساسى، هو منع الأجهزة الاستخباراتية والمعلوماتية المعادية، من التقدير الصحيح للموقف الإستراتيجى والتكتيكى، وتوجيه تقديراتها وجهودها نحو اتجاهات زائفة، تؤدى إلى قرارات ميدانية تصب لصالح القوات المتحالفة.
ينظر بعض الخبراء، إلى الهجوم الإسرائيلى ضد إيران فى 13 من يونيو الجارى، كحلقة فى هذه السلسلة الخادعة، فقد سبقه خداع إستراتيجى مكثف بخطوات تراكمية متعددة، على الجانبين الإسرائيلى والأمريكى أيضا. وبرغم أن الضربات الإسرائيلية - الإيرانية لا تزال قيد المعالجة، بينما تتواصل التحركات العسكرية، تنتظرنا أيام معقدة، ليتكشف لنا المزيد من التفاصيل والكواليس التى سبقت لحظة الهجوم، مليئة بالمعلومات والآراء المتضاربة، لكن ثمة أمراً واحداً يمكن قوله بدرجة ما من اليقين النسبى، لقد سبقت الهجوم سلسلة من الأحداث التى لم تكن محض مصادفة.
إعلان نتنياهو عن سفره لقضاء إجازة، ارتباطات شخصية عائلية فى حياته، مثل زفاف ابنه المرتقب، توجهات سياسية مضللة، أو تصريحات مصادر أمريكية، تشترط فشل المفاوضات الأمريكية فقط، لتوجيه ضربة لإيران، كل هذا أوحى بأن ساعة الصفر لم تأت بعد، قد تكون قريبة، لكنها ليست بالضرورة فورية، من المنطقى افتراض أن بعض هذه الظروف حقيقية، لكن بعضها الآخر ربما لا يكون كذلك، وهذا المزيج، تسلسل كل هذه العناصر معًا، هو ما خلق حالة من التخدير للنظام الإيرانى، الذى غفا نائمًا كالنمر الصاخب، واستيقظ فجأةً على وقع أزيز الطائرات ودوى الانفجارات! لم يكن ترامب، على علم مسبق بخطط إسرائيل لمهاجمة إيران فحسب، بل إن المفاوضات النووية التى أجراها مبعوثه، قدمت الستار الدخانى المثالى لضرب إيران، فتوقيت الهجوم الإسرائيلى، زاد من الشكوك فى استخدام الدبلوماسية كغطاء، بينما نأت الولايات المتحدة الأمريكية بنفسها علنا عن العملية، أكد وزير خارجيتها ماركو روبيو، أن واشنطن قد تم إبلاغها مسبقا، وقال روبيو فى بيان له: لسنا مشاركين فى الضربات ضد إيران.
لقد اتخذت إسرائيل إجراء أحاديا ضد إيران، ولسنا منخرطين فى تلك الضربات، لكن أولويتنا القصوى، هى حماية القوات الأمريكية فى المنطقة وقد أبلغتنا إسرائيل»، وقبل ساعات قليلة من الضربات، أبدى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، تردده خلال فاعلية بالبيت الأبيض، لكن ما هى سوى لحظات، حتى شن الجيش الإسرائيلى هجومه ضد إيران. يشير النقاد إلى أن هذه الدبلوماسية ذات المسارين، التى تتيح المفاوضات وفى الوقت ذاته التصعيد العسكرى، قد تقوض مصداقية الولايات المتحدة الأمريكية، ليس فقط بمنطقة الشرق الأوسط، بل عالميا كوسيط. ويشكك الخبراء فى صمود مثل هذا النهج طويلا.
مسئول إسرائيلى صرح لصحيفة «تايمز أوف إسرائيل»، بأن تحذيرات ترامب لنتنياهو بعدم الهجوم، فضلاً عن روايات المسئولين الإسرائيليين الذين سافر بعضهم إلى الولايات المتحدة، ورئيس الوزراء الذى أخذ إجازة قصيرة، تم نشرها على سبيل الخداع للنظام الإيرانى، وأشارت الصحيفة إلى أن إسرائيل، والولايات المتحدة نفذتا حملة تضليل إعلامى متعددة الأوجه فى الأيام الأخيرة، لإقناع إيران بأن ضربة على منشآتها النووية ليست وشيكة.
وأكدت بتقريرها، نقلا عن مصادر خاصة، أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، كان مشاركا فاعلا فى الخدعة، وكان على علم بالعملية العسكرية، منذ أن قرر رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، المضى قدما فى الضربة منذ يوم الاثنين السابق على تنفيذ العملية.
تحدث نتنياهو وترامب، هاتفيًا لمدة 40 دقيقة فى اليوم نفسه، فى ذلك الوقت، سرب مسئولون لم تُكشف هويتهم للقناة 12 الإسرائيلية، أن ترامب طلب من نتنياهو فى محادثة، تم وصفها بـ»الدرامية المطولة «، حذف أى هجوم على المواقع النووية الإيرانية، من جدول الأعمال مع استمرار المفاوضات، ووفقًا للتقرير التليفزيونى، أكد ترامب أنه لن يكون هناك أى نقاش حول ضربة عسكرية، حتى يخلص الرئيس إلى فشل المحادثات النووية مع إيران، ومن ناحية أخرى أوضح ترامب لرئيس الوزراء الإسرائيلى، أن «إنهاء الحرب فى غزة، من شأنه أن يساعد فى المفاوضات النووية الجارية مع إيران». فى اليوم التالى، أعلن نتنياهو فى بيان مصور عن «تقدم ملحوظ»، فى محادثات الأسرى، وقال ما نصه: «هناك تقدم مهم فى مفاوضات صفقة التبادل، لكن من المبكر عقد الآمال الكبيرة للتوصل إلى اتفاق»، وكرر وزير الخارجية، جدعون ساعر، هذه الرسالة فى تصريحات تالية له. المشكلة أن المسئولين الأجانب، لم يتمكنوا من فهم التقدم الذى تتحدث عنه إسرائيل، إذ لم يكن هناك أى تطور يذكر فى الجهود المبذولة، للتوصل إلى اتفاق!
لكن العديد من الخبراء، أشار إلى أن هذا أيضًا كان حلقة ضمن سلسلة التضليل، أرادت إسرائيل أن تُوهم إيران، بأنها تُركز بالأساس على صفقة رهائن، وليس على التحضير لشن هجمات ضدها. فى الوقت نفسه، كان على إسرائيل أن تبيع لإيران قصةً مقنعةً، وألا تتجاهل القضية النووية، بل أرادت إسرائيل أن تُوهم طهران، بأنها لا تزال تُناقش مسألة ضربةٍ محتملة مع البيت الأبيض. وأعلنت أن وزير الشئون الإستراتيجية، رون ديرمر، ورئيس الموساد، ديفيد بارنيا، سيتوجهان لإجراء محادثات مع المبعوث الأمريكى الخاص ستيف ويتكوف، قبل الجولة المقبلة من المحادثات بين طهران وواشنطن، التى كان مقررا لها يوم الأحد، زاعمة بأن الرحلة تهدف إلى «توضيح موقف إسرائيل»، لم يُجب مكتب رئيس الوزراء، حتى على سؤال مباشر من صحيفة تايمز أوف إسرائيل، حول مكان انعقاد الاجتماع المزعوم. لكن من الواضح الآن، أن الاجتماع لم يكن مُدرجًا فى جدول أعماله قط! من الواضح أن إسرائيل كانت تأمل أن يعتقد الإيرانيون، أنه لا سبيل أمامها إلى شن هجوم قبل محادثات الأحد. على جميع الجبهات، سعت إسرائيل إلى إظهار أن الأمور تسير كالمعتاد. أصدر مكتب نتنياهو بيانًا يوم الخميس، مؤكدًا أنه، على الرغم من بعض التقارير الإعلامية التى تُشير إلى عكس ذلك، فى ظل تصاعد التوترات الإقليمية، لن يُلغى عطلته الأسبوعية.
كان من المقرر أن يتزوج أفنير، نجل نتنياهو، الأسبوع الماضى، وهو حدثٌ دفع الكثيرين إلى الاعتقاد بأن الهجوم الوشيك غير مرجح، وقد مضت الاستعدادات للحفل قدمًا، يوم الخميس، نصبت الشرطة حواجز حديدية وأسوارًا شائكة حول محيط قاعة حفلات «مزرعة رونيت»، فى كيبوتس ياكوم، شمال تل أبيب، بطول 100 متر. أسهم ترامب فى هذا الجهد، قال مسئول إسرائيلى: «لقد لعب اللعبة مع إسرائيل، كان الأمر تنسيقًا كاملًا»، قال الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الخميس، إن ضربة إسرائيلية على المواقع النووية الإيرانية «قد تحدث بسهولة»، لكنه نصح بعدم القيام بذلك، قائلا إن احتمالات التوصل إلى اتفاق «قريبة إلى حد ما»، إذا تنازلت طهران عن طموحاتها النووية فى المحادثات الجارية مع الولايات المتحدة، وقال السفير الأمريكى لدى إسرائيل، مايك هاكابى، فى مقابلة الخميس أيضا، إنه من غير المرجح أن تهاجم إسرائيل إيران، دون الحصول على الضوء الأخضر من واشنطن. وقد استخدمت إسرائيل إستراتيجيات الخداع، فى سوابق تاريخية بالماضى، مثل عملية الرصاص المصبوب (2008-2009)، فقد سبقتها حملة تضليل متعددة الأبعاد أيضا، بحسب دراسة للمركز الفلسطينى للدراسات الإسرائيلية، فإن إسرائيل تعمدت خداع حماس، حيث قامت إسرائيل بفتح المعابر قبل يوم واحد من العملية.
وأعلنت إسرائيل يوم الجمعة 26 ديسمبر 2008، عن مهلة 48 ساعة، مهددة حماس بعملية عسكرية واسعة فى حال عدم الاستجابة، وجاءت هذه العملية خلال أقل من 24 ساعة، من منح مهلة الـ48 ساعة، فقد كانت هناك سلسلة من عمليات التضليل والخداع ساعدت إسرائيل على مباغتة حماس، لإيقاع أكبر عدد من الإصابات، منها تنفيذ العملية يوم السبت يوم الراحة عند اليهود، بالإضافة إلى أنه فى يوم الجمعة نفسه، حرص مكتب رئيس الوزراء، على إبلاغ الصحفيين، بأن الحكومة ستجتمع الأحد «لمناقشة»، عملية مكثفة محتملة على غزة، وقد عزز ذلك التكهنات، بعدم الإقدام على أى تحرك قبل الأحد. قبل عملية الرصاص المصبوب فى غزة (2008-2009)، أعلن مكتب رئيس الوزراء آنذاك، إيهود أولمرت، أن اجتماعًا لمجلس الوزراء الأمنى عُقد يوم أربعاء لمناقشة أمور أمنية روتينية، بينما عُقد فى الواقع للتحضير لتلك العملية، بعد الاجتماع، خصص البيان سطرًا واحدًا فقط لموضوع غزة.
إن الفصل الافتتاحى للحملة الجوية الإسرائيلية، ضد مواقع إيران النووية والدفاعات الجوية، والعلماء والقيادات كان صادما، ويبدو أن كبار القادة الإيرانيين الذين تم اغتيالهم فى منازلهم لم يتوقعوا أى خطر، لكن بالطبع عقب الرد الإيرانى تغيرت المعادلة، ومع ذلك، لا بد من تحليل أبعاد ودلالات خطة الخداع الإسرائيلى، ليس فقط فى تمكين الأخيرة من تنفيذ الضربة الأولى، بل أيضًا فى تشكيل السياق الذى وقعت فيه، بما تحمله من تأثير كبير على التصور الأمنى، حيث استهدفت رموز السلطة وكبار المسئولين فى منازلهم، كما لو كانوا يعيشون على أطراف تل أبيب. دُمرت مئات الأهداف، وقُضى على طبقة كاملة من القيادة العسكرية. والنتيجة المباشرة لذلك، هى شعور سكان طهران بالتسلل صادم، لم يشعر الكثيرون منهم، باهتزاز السيادة منذ الثورة الإسلامية عام 1979. وهكذا، فإن الظروف التى مكنت من شن هجوم على إيران، هى نتيجة تحركات مُدبرة، وظروف لم تكن مصادفة، بل هى حملة تضليل وخداع سوف يستمر أثرها، فى تشوش بؤرة الرؤية السياسية بعيون العالم الزائغة على جميع الجبهات.