ثقافة



الشاعر العراقى فضل خلف جبر: الزحف العشوائى لغير المؤهلين.. خطر على الشعر

21-6-2025 | 22:31
حوار أجراه – السيد حسين

وجدت فى قصيدة النثر صوتى الخاص
 
لم أبق «عراقياً» خالصاً ولم أصبح «أمريكياً»
 
الشعر عملية انسلاخ عن الواقع وإعادة خلق واقع مواز
 
لا أتخذ موقفاً مسبقاً من أى نص سواء كان عمودياً أم تفعيلياً أم نثرياً
 
السرد نقيض الشعر ولكل منهما خصائصه الفنية
 
قال الشاعر العراقى فضل خلف جبر، إننا نحتاج الشعر فى كل الأحوال، سواء كانت الحياة جميلة أم بشعة، شريطة ألا يعطينا الشعر جرعات من الزيف لتجميل القبح ومهادنة البشاعة، وشريطة ألا يكون الشاعر الذى نقرؤه قد باع نفسه للشيطان.
«خلف»، المقيم حاليا فى الولايات المتحدة، من مواليد العراق - ذى قار 1960، حاصل على شهادة البكالوريوس فى الآداب / الترجمة من الجامعة المستنصرية / بغداد 1987، وقد بدأ كتابة الشعر مع بداية السبعينيات، ونشر نتاجاته فى الصحف والمجلات المحلية والإقليمية، وعمل فى الصحافة الأدبية محررًا ومترجمًا، حتى مغادرته العراق عام 1992.
أصدر ديوانه الثانى «آثاريون» عام 1997، كما أصدر دوواين أخرى منها «من أجل سطوع الذهب»، «طق إصبع»، و«رسول الناس»، وأخيرا صدر له ديوانه الأخير «أوديسا شرقية»، كما لديه العديد من المخطوطات فى الشعر والترجمة والمسرح والدراسات بانتظار النشر، وإلى تفاصيل الحوار.
 
< فى مستهل هذا الحوار أود أن أعيدك للتفكير فى منابع الرؤية الشعرية للعالم وتجلياتها، أقصد ما الكيمياء التى تجعل الإنسان شاعرًا؟
سأبدأ الإجابة من آخر السؤال، الكيمياء التى تجعل الواحد شاعراً، هى كل ما تقدم فى متن السؤال، بالإضافة إلى الكثير من “نثارة” الشعر التى تكّون المادة الخام لإنتاج قصيدة متوهجة، لا قصيدة أصيلة تولد من فراغ أبداً، والشاعر المبدع لا يتوقف مخياله الشعرى عن صهر الأعلاق لتخرج على شكل سبيكة متجانسة ندعوها “قصيدة”، مصادر هذه “الأعلاق” متعددة، فقد تمتد يد الشاعر إلى منابع الطفولة، البيئة التى نشأ وترعرع فيها الشاعر، تفاعل وانعكاس ذوات الآخرين فى ذات الشاعر، تجاربه الشخصية اليومية، ولا يكتفى الشاعر المبدع بحدود الذات وما حولها؛ بل تمتد إلى ما هو خارج الزمان والمكان: الغوص هبوطاً فى مدارج الماضى والتوغل صعوداً نحو المستقبل، وفق هذا المنطق، تصبح مقولة “ما الأسد سوى خراف مهضومة”، منطقية بالنسبة لآلية عمل الشاعر وإنتاج قصيدة جيدة. 
 
< ماذا عن ديوانك الأخير “أوديسا شرقية”، والتجربة التى يطرحها الديوان؟
بعد التجارب السابقة التى شكلت حجر الزاوية أو “الثيمة”، فى كل ديوان من دواوينى الستة المنشورة، يأتى ديوان “أوديسا شرقية” ميّالاً، بمتنه الأوسع، نحو التجربة الشخصية. قصيدة مثل “أغنية الصيّاد” لا يمكن أن يكتبها سوى شخص تمرّس فى الصيد، السمك تحديداً، وتعمّق فى تفاصيله المدهشة، كنت أذهب إلى الصيد يومياً، تقريباً، بعد نهاية عملى، للاسترخاء من يوم عمل شاق، ولجنى ما يجود به النهر من ثماره الطيبة، قاعدتى الذهبية فى الصيد كانت تتمثل، فى أننى لا أحمل معى إلى البيت سوى ما أحتاج إليه فى يومي، لا أكثر، كنت أعيد إلى النهر، سعيداً، ما يزيد على حاجة وجبة ذلك اليوم، لكن القصيدة شرّقت وغّربت فى تأويل هذه الممارسة الروتينية. القصيدة حولت ممارسة الصيد إلى حلبة تتدافع فيها الأفكار والرؤى انعكاساً للذات، والسمكة تحولت إلى دلالة رمزية ترتدى إهاب الواقع. 
 
< هل يمكن اعتبار هذا الديوان محاولة لإنتاج فضاءات أو صيغ جديدة لمشروع استثمار هذا الكنز؟
تشكل ذاكرة الشعر، عندى، أحد أهم ركائز عملية إنتاج الشعر، فى كتابى النقدى “المُستدعى مركزاً”، الذى أرجو أن يرى النور قريباً، كتبت مقدمة مستفيضة، تناولت عمل الذاكرة فى توجيه حركة القصيدة وكون الذكريات، على تعدد مصادرها، تشكل المادة “الحيوية” المخصّبة التى تبنى عليها القصيدة ذاتها، وكما قلت فى إجابتى السابقة، حاولت فى هذا الديوان تجسيد تصوراتى ورؤاى الشخصية للعالم فى نصوص تبدو ذاتية، مستفيداً من الخزين الهائل لذكريات رحلة طويلة فى الزمان والمكان تمتد من أقاصى جنوب العراق، حتى تخوم الشمال الأمريكى، يبدو هذا واضحاً فى قصيدة “لم أخطر فى بالى”، على سبيل المثال. 
 
< نصوص مجموعتك الشعرية الأخيرة مفتوحة على التأمل، تأمل ينتصر للأماكن والأشخاص كيف ذهبت إلى الأشياء والتفاصيل من زاوية غير مباشرة؟
فلسفتى الخاصة فى الحياة والشعر، تتلخص فى منظور ألزمت نفسى به هو “النظر إلى الأشياء من نقطة خارجة عنها”، وفق هذا المنظور يمكننا فهم الديناميكية التى تبلور الحدوثات اليومية فى حياتنا، والشعر ليس ممارسة مترفة، بل هو طرق عنيف على جدران الواقع لجعلها نوافذ مشرعة يطل منها الشاعر، والقارئ من خلال عدسة الشاعر المكبرة، على عوالم أكثر استجابة لحاجات الروح. هكذا، على سبيل المثال، ولدت قصيدة “حمّى كورونا”.
 
< ألا تجد نفسك وقد اتسعت المسافة الزمنية بينك وبين هذه الذكريات بينك وبين تلك الطفولة، أسير الذاكرة التى قد تحجب علاقتك بالعراق؟
فى حياتى الشخصية، واجهت سلسلة طويلة من الاقتلاعات الاضطرارية، ورحلة الاقتلاع هذه ابتدأت منذ سن مبكرة، حيث اضطرت العائلة إلى النزوح من منطقة “عبادة”، فى محافظة ذى قار فى جنوب العراق إلى بغداد العاصمة، ثم العودة إلى مدينة الناصرية، مركز محافظة ذى قار، وبعد عقود وجدت نفسى مضطراً لمغادرة العراق إلى اليمن، حيث أمضيت فيها نحو سبع سنوات، ثم هجرتى الأخيرة إلى الولايات المتحدة، حيث أعيش حالياً، فى كل مكان عشت فيه، نمت لى أشجار باسقة من العلاقات المتشعبة، والتى أثمرت ذكريات راسخة فى الوجدان، بحلوها ومرّها.  
 
< أنت تقف بين هويتين العربية (أى العراقية) والأمريكية كيف استطاع نصك الشعرى أن يمزج التنشئة الاجتماعية، وأحوال البلاد، والأصدقاء، والمعرفة، والتاريخ وكل الحياة العراقية فى نص يقدم للقارئ العربى؟
ابتعادى التدريجى عن محلّية “الجذور” العراقية، متنقلاً من بيئة إلى أخرى مختلفة، سهل على عملية التوازن مع الاحتفاظ بالمتن العراقى برغم ضغوطات ومتطلبات العيش فى المُغترب،  نعم، تمكنت من مزج أو المزاوجة بين الثقافتين العربية، بعناوينها الفرعية؛ والأمريكية، لذلك يبدو التداخل فى المنظور الشعرى واضحاً فى دواوينى الأخيرة ما بعد “آثاريون”، فأنا لم أبق “عراقياً” خالصاً، ولم أصبح “أمريكياً” بمعنى الكلمة. هذا يدخلنا فى جدل “الهوية”، ومحدداتها وما المقصود منها. هناك الكثير من المبدعين من جميع أنحاء العالم، وفى كل المجالات الإبداعية، يتمتعون بالمواطَنة الأمريكية، يُشار لهم بتسمية “.../الأمريكي”، وفى اعتقادى الشخصى أن التسمية جزافية وخادعة، إلا إذا كان استخدامها ضمن سياق المواطنة حصراً. 
 
< لا شك أن الشعر العربى يجتاز أزمة عميقة ومتشعبة.. هل توافق أولا على أن الشعر العربى فى أزمة؟ وكيف ترى تجلياتها وكيف الخروج منها؟
المشهد الشعرى العربى الحالى، الذى كان يخضع لمرجعية واحدة هى مرجعية الشعر العربى التقليدى، بات يحلق فى فضاءات التجريب دون أن يتبنى أو يخضع لمرجعية معينة بالضرورة. هذا التشعب، فى الأنساق الكتابية، والشتات، نظراً لكثرة عدد الشعراء العرب المهمين الذين يعيشون فى المغتربات، ويضخّون دماء جديدة فى جسد القصيدة الحديثة؛ يمكن أن ينظر إليه كحالة صحّية، من وجهة نظر عولمية، والعكس صحيح، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار، فقدان الشعر العربى خصوصيته التراثية، باعتباره “ديوان العرب”.
 
< هل يقول السرد ما لا يستطيع الشعر قوله؟
السرد نقيض الشعر، كون لكل منهما خصائصه الفنية. فالشعر يعتمد التكثيف والإيجاز، مع ذلك يستطيع أن يريك العالم من ثقب إبرة، ذلك أن الشعر “كائن”، برى لا يخضع لقوانين المنطق اللغوى، لذلك يوّلد الدهشة، نحن نندهش حين نسمع أو نقرأ قصيدة استثنائية، والسبب أن تلك القصيدة كتبت خارج المعايير المتعارف عليها لغويا. 
بينما السرد هو عكس ما تقدم، السرد مادة باردة لا تتوافر فيه طاقة التوهج التى تتوافر فى الشعر، لكن السرد زحف على الشعر، لأن الناس صارت تحبّ “التفاصيل”، لذلك صار هناك إقبال كبير على الرواية أكثر من الشعر، بل إن الشعر نفسه اضطر إلى استعارة ميزة “الفضفضة”، التى يتمتع بها السرد لخلق جسور التواصل مع القارئ.
 
< ماذا يعنى لك الشعر؟ 
الشعر، بالنسبة لى، ليس شأناً أو ممارسة كتابية مجردة، إنه عملية انسلاخ عن الواقع، وإعادة خلق واقع مواز، ليس من منطلق الهروب من الواقع، لكن لتفكيكه والعمل على وضع الأجزاء المفقودة أو ملأ الفجوات للاتصال بأوقيانوس اللانهائى الروحى، الشعر عملية خلق سحرية مدهشة، وقد كان السومريون يستخدمونه، الشعر، بالإضافة إلى طقوس التعبّد المعتادة؛ فى مآرب أسطورية شبيهة بالخيال العلمى. 
قراءة الشعر الجيد مفيدة صحيّاً، والآن تعمد مراكز صحية عالمية مرموقة إلى إدخال قراءة الشعر، بالإضافة إلى الموسيقى، فى برامجها لدعم المصابين بأمراض مستعصية نفسياً. وكم من قصيدة جيدة غيرت مسار حياة إنسان نحو الأفضل، وكم من قصيدة جيدة ألهمت أجيالاً للتحليق فى آفاق حياتية لم يخططوا لها إطلاقا. 
 
< متى يصبح الشعر حقيقياً؟
تعبير “الشعر الحقيقى” مجازى، والمقصود به أن قصيدة ما ميزت نفسها عما دون الشعر الحقيقى، وبعبارة أخرى، هناك الذهب الخالص وهناك الذهب الذى تشوبه الشوائب أو شبيه الذهب، كأن يبدو لامعا كالذهب وما هو بذهب، ومن هذا الفهم، نقول إن للشعر الحقيقى مواصفات جمالية لا تخطئها الذائقة المتمرسة لقارئ، يستطيع التمييز ما بين جودة الذهب الخالص ورصانته عما سواه.
 
< صدرت لك مجموعة من الدواوين كيف ترى تلك الرحلة الأدبية؟
رحلة حياتى طويلة وشاقة، ابتدأت من مجاهل أهوار جنوب العراق وصولاً إلى غابات وجبال وسهول الشمال الأمريكى، على مدى هذه الرحلة الطويلة، رافقنى الشعر، من سنوات مبكرة، وحتى يومنا هذا الشعر كان رفيقى الأمين الذى لم يخذلنى أبداً، تخاصمنا كثيراً كصديقين، وفارق أحدنا الآخر، فى أوقات متقطعة، لكننا كنا نعود دائماً كالطائر إلى عشه. أشعر بالامتنان لوجود الشعر فى حياتى، لأنه الوحيد الذى أستطيع ائتمانه على أسرارى وتفاصيلى الأكثر خصوصية دون الشعور بالخذلان.  لذلك، حين تقلب صفحات دواويني، تجد صوراً، على هيئة قصائد، توثق سيرتى الشخصية المتشعبة والمشبّعة بتفاصيل الحياة، ولكن ليس بالمفهوم النرجسى، هناك الكثير من الأقنعة وتقنيات التمويه والتغريب، ليس من أجل الغموض لذاته، وإنما لحماية القصيدة أولاً من السطحية والانكشاف، ولحماية روح الشاعر من التلوث برثاثة الواقع، ثانياً. 
 
< كيف ترى الفروق الجوهرية بين قصيدة النثر العربية فى الخارج وقصيدة النثر العربية فى الداخل؟
تكمن الفروق فى ظروف إنتاج كل من القصيدتين، مع وجود تمايز لكل منهما على الأخرى، فالقصيدة المحلية هى ابنة بيئتها تفكر وتحلم وتتألم وتفرح وتحزن كأى كائن، حين يستمد نسغه الحياتى من تربة الأرض وضوء شمس الواقع، وفى الغالب، محكومة بالتقاليد الثقافية السائدة، الأمر يختلف مع القصيدة المغتربة، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار عامل التحرر من الرقيب السياسى والثقافى والاجتماعى والدينى خلال عملية إنتاج النص ومع حقيقة انشداد الشاعر المغترب لموطنه الأول، لكن الذاكرة التى يكتب بها هى ذاكرة الماضى، أى نسخة قديمة من واقع يتغير كل يوم.  بالإضافة إلى اختلاف المألوف البصرى بالنسبة للشاعر المغترب: تصوّر، على سبيل المثال، إننى أرى، يومياً تقريباً، قطعاناً من الغزلان تمر خلال منطقة سكناى، حين تجد مثل هذه الالتقاطان طريقها الى القصيدة لا يمكن أن يفهما القارئ العربى كمعطى حيوى معاصر، بل يستلمها كموروث، وفق ما ورد فى المتون الشعرية التى وصلتنا من الفترات المتقدمة التى عاش ظروفها الشعراء العرب، والعكس صحيح، بالنسبة للقصيدة المحلية التى يقرؤها القارئ المغترب، وهى تتحدث عن معطيات خارج إحداثيات الواقع الذى يعيشه.
 
< هل تعتقد أن الشعر  قادر على أن يقول كل ما تريده؟
هناك حدود لقول ما يمكن قوله، حتى إذا أوغلنا فى المجاز والغموض. العوالم التى يحلق فيها الشاعر، يمكن قياسها بـ”السنوات الشعرية”، مقارنة بـ”السنوات الضوئية”، وهذا من أسباب انبهارنا ببعض القصائد المكتوبة فى أوقات سابقة، ذلك أن الشاعر يسبق عصره فى كثير من الأحيان، كونه رائياً كتبت العديد من القصائد التى لم ينفذ إليها النقد بعد، ذلك أننى أودعت فيها الكثير من الأسرار. 
 
< هل يمكن للشعر أن يرمم كل تلك الخرائب التى سببتها السياسة؟
هذه واحدة من الإشكاليات التى يواجهها الشعر الملتزم، ما دور الشعر، حقا؟ هل ينحصر دوره فى “تجميل” بشاعة الواقع التى تنتجها مطبات السياسة؟ أم يتخذ دوراً ريادياً للتغيير؟ بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، كان للفنون، والشعر فى مقدمتها، دوراً مهماً فى التثوير والتنوير. أذكر هنا الدور الذى قام به الشاعر “السوفياتى”، مايكوفيسكى، حين انخرط فى البداية فى الثورة البلشفية، ثم تمرد عليها حين توصل إلى قناعة، أن الثورة تحولت إلى ماكينة تسحق إنسانية الإنسان، فكتب مطوّلته الرائدة “غيمة فى بنطال”، وفى تقديرنا الخاص، إن أفضل دور يمكن أن يؤديه الشعر هو أن يصطف إلى جانب الشعوب، بسوادها الأعظم، لا أن يكون “برغيّاً” فى ماكينة السلطة والأنظمة السياسية. 
 
< هل أنت متعصب للشعر عمودياً كان أو شعر تفعيلة أو قصيدة نثر، وهل تتخذ موقفاً مسبقاً ضد أى مقطوعة شعرية؟
فى بداية حياتى الأدبية، كنت متعصّباً للشعر العمودى، فقد بدأت شاعراً عمودياً فى سنّ مبكرة، لكن شّدة التعصب بدأت تنحسر شيئاً فشيئاً مع توسّع مداركى وانفتاحى، على الأنساق الكتابية التى كانت سائدة حولى، فكان لابد من مسايرة حركة الحياة، عن قناعة وتقبل.
كتبت قصيدة التفعيلة، وأنجزت فيها ما يزيد على أربعة دواوين، لم ينشر منها أى ديوان، لأننى اعتقدت أنها أقل تمثيلاً لمستواى الشعرى، ثم انتقلت إلى كتابة قصيدة النثر التى وجدت فيها صوتى الخاص. 
لا أتخذ موقفاً مسبقاً من أى نص، سواء كتب عمودياً أم تفعيلياً أم نثرياً. جودة وفرادة النص، هو معيارى الحقيقى لتقبل النص أو عدم تقبله. ولدى أصدقاء مقرّبون من كل عوالم الشعر، بما فيها الشعر الشعبي، أو العامّي.
 
< هل يمكن للقصيدة أن تنقذ العالم: عن جدوى القصيدة حيال كل هذا الدمار الروحى والخراب الذى أصاب القيم والخواء الذى يلف الإنسان الآن؟
الشعر، استثناءً من أيّ مسمى آخر، له القابلية على إثراء الحياة وتغيير الواقع، على مستوى الأفراد والجماعات، إن لم نقل المجتمعات، لكن الشعر، هو الآخر، بحاجة إلى ظروف مناسبة، لكى تنمو أشجاره وتؤتى ثمراً جنياً، فى فترة التهيئة الغربية للعدوان على العراق، احتشد مئات الشعراء من جميع أنحاء العالم ضد الحرب، وأصدروا أنطولوجيات مناهضة للحرب، صحيح أن هؤلاء الشعراء وهذه الأنطلولوجيات لم توقف الحرب، لكنها خلقت رأياً عاماً استمر بالتزايد والاتساع، هذا فى وقت كان بإمكان الشعراء التظاهر وإعلان أصواتهم المعارضة، فى الوقت الراهن بدأت مساحة الحرية بالتآكل والاضمحلال، نتيجة وصول مركزيات متطرفة إلى السلطة فى الغرب، مع ذلك، لا يعنى هذا أننا يجب أن نتوقف عن الكتابة والنشر، ما أمكن، لأن هناك الكثير من الأرواح المتعطشة للكلمة النقية الخارجة من القلب، والتى تنير لها الطريق فى هذه العتمة المطبقة.
 
< كيف ترى ظاهرة تحول بعض الشعراء إلى كتابة الرواية؟
الظاهرة المشار إليها ظاهرة عالمية، حيث تحول الكثير من الشعراء إلى كتابة الرواية أو زاوج بين الجنسين الأدبيين، السرد هو سيد المشهد الأدبى حالياً، ويمكن أن يكون من بين أسباب ذلك النجاح منقطع النظير الذى حققته مؤلفة هارى بوتر، صار الجميع يحلم أن يصيبه نصيب من الشهرة والثروة إما عن طريق الجوائز الأدبية، أو أن يتحول عملك الروائى إلى فيلم سينمائى، يحملك على بساط الشهرة فى الآفاق العالمية. 
بالنسبة لى، لم أفكر فى هذا الأمر حقاً، فلدى العديد من المشاريع فى المسرح، وسيرتى الذاتى المنجزة باللغة الإنجليزية، بالإضافة إلى أنطولوجيا شعرية مهمة باللغة الإنجليزية، وهى ثمرة رسالتى للماجستير، وهذه كلها مطروحة على طاولة الانتظار للنشر فى المستقبل، ومع أننى أمتلك خزيناً كافياً لكتابة عدة روايات، فإننى لا أريد اقتحام هذا الحقل، حالياً، على الأقل، كى لا يفسد عليّ انتشائى بكتابة قصيدة جديدة، لست من الباحثين عن ذهب الشهرة ولا فضة الانتشار. 
 
< كيف ترى واقع الشعر فى العراق والوطن العربى اليوم؟
واقع الحال أن ما هو أخطر على الشعر هو “الزحف العشوائى”، من قبل أشخاص غير مؤهلين بما فيه الكفاية لكتابة شعر ناضج، ليتصدروا المشهد بينما تنزوى فى الركن مواهب كبيرة ليست لديها إمكانيات “الزحف” العشوائى، بالإضافة إلى ذلك، حالياً هناك غياب شبه كامل لتقاليد النشر إذ بإمكان أى كان أن يكتب ما يشاء، ليجد دور نشر جاهزة لاستقبال ونشر كتابه بثمن. النشر، فى أمريكا، على سبيل المثال، له تقاليد صارمة، فدور النشر لا تنشر أى كتاب على نفقتها بسهولة، إنما تمرّ مسودة الكتاب بمحررين مختصّين، ولهم القرار فى قبول الكتاب أو رفضه، وحتى الكتب التى ينشرها البعض على الحساب الخاص، تخضع لقيود كثيرة، من بينها عدم إمكانية المشاركة فى العديد من الجوائز المرموقة، لأن الكتاب لم يمر بعملية الغربلة والتمحيص المطلوب للنشر. وفق ما تقدم أعلاه، نقول، نعم، هناك فوضى فى النشر والتمثيل فى المهرجانات والجوائز، وتقديم الأصوات الركيكة على الرصينة، وغبط استحقاق الموهوبين من قبل غير الموهوبين، فى العالم العربى برمته. 
 
< تعيش خارج البلاد فى الولايات المتحدة الأمريكية، منذ عقود.. ما الأثر الذى تركه الاغتراب فى تجربتك الشعرية؟ 
نحن نتحدث هنا عن مأزق حقيقى، فحالى مع الحنين الذى أحمله بداخلى لبغداد خاصة والعراق، بشكل عام، كحال من يربى ابناً غير شرعى! فهذا الطفل الذى يكبر مع مرور الأيام والسنين والعقود، لا يجد من “يعترف” به، لأن الواقع فى العراق يتغير بسرعة استثنائية، بسبب الظروف التى مرّ بها العراقيون، أنا أحتفظ بثوابتى العراقية فى مغتربى بينما الجسور فى العراق تمر من تحتها مياه كثيرة، كما يقول المثل، كل يوم، هذه القطيعة تسبب آلاماً مضاعفة، لأن ما أكتبه لا يجد من يتفهمه بالدرجة التى أتوخاها، بالضرورة، وكأن هناك حالة فصام بين الشاعر والمتلقى، فلا المتلقى، من الأجيال الأخيرة، يمكن أن يفهم القاعدة الشعرية التى تنطلق منها القصائد، ولا الشاعر يمكن أن يتفاعل، وجدانياً، مع الحدوثات والتحولات المتسارعة فى الواقع العراقى، لذلك تجد فى شعرى هذا التداخل فى منقطة اللا وعى الشعرى، بين ذكريات الأمس، وذكريات اليوم، أعتقد أننى عبّرت عن ذلك فى واحدة من قصائدى التى تحمل عنوان “مرور الغريب”، وهى مواجهة كشف حساب بينى وبين بغداد، التى أحب. 
 
< ما جدوى الشعر؟
يتّخذ الشعر لنفسه فى حياة الإنسان موقعاً لا يسدّه إبداع آخر، هو المزاوجة المدهشة، لإرضاء حاجات الانسان العاطفية والروحية، فى نفس الوقت، لحاجاتنا الروحية نلجأ للكتب الدينية، كلّ حسب عقيدته الدينية، ولحاجاتنا الفكرية نقرأ كتب الفلسفة، ولحاجتنا للاطلاع، من باب الثقافة العامة، نقرأ كتباً فى تخصصات وحقول مختلفة، لكننا نقرأ الشعر لكى يساعدنا على الهدوء والتوازن، من خلال بيت واحد أو قصيدة واحدة أو ديوان واحد. 
وجود وأهمية الشعر لا علاقة له بالوضع والظروف التى نعيشها، نخن نحتاج الشعر فى كل الأحوال، سواء كانت الحياة جميلة أم بشعة. شريطة ألا يعطينا الشعر جرعات من الزيف لتجميل القبح ومهادنة البشاعة، وشريطة ألا يكون الشاعر الذى نقرؤه قد باع نفسه للشيطان.     
 
< ما الذى لم تقدمه إلى الآن وتسعى لتقديمه؟
لدى الكثير من المشاريع المنجزة أو قيد الإنجاز، فى الشعر والترجمة والنقد والمسرح لكن، وأقولها بأمانة وصراحة، إن إحدى أهم أولوياتى فى الحياة هو التركيز على عملى، الذى يؤمن مورد العيش لى ولعائلتى. فالحياة فى الولايات المتحدة، تحتاج إلى كفاح حقيقى، وإلا سيكون مصيرك ومصير عائلتك التشرد، ولذلك فإننى أمنح الاهتمامات الأخرى الفائض من الوقت، وهو يسير، على كل حال، قياساً بطموحاتى الكبيرة.
من المشاريع التى بدأتها وأتمنى أن تنجز وترى النور، هى سلسلة أنطولوجيات شعرية عربية باللغة الإنجليزية، لنقل صورة واقعية للمشهد الشعرى العربى للقارئ الغربي، بالإضافة إلى عمل ريادى يدخل ضمن مفهوم الميثولوجيا التاريخية، ويركز على تتبع وقائع وردت فى إحدى الملاحم السومرية، فيما يعرف ببلاد ما بين النهرين، هذا جزء من الضريبة التى يدفعها المبدع المغترب: أن يعيش خارج زمانه وخارج مكانه وخارج خياراته الشخصية.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام