رئيس مجلس الإدارة:
د.محمد فايز فرحات
رئيس التحرير:
جمال الكشكي
السبت 19 يوليو 2025
نحن والعالم
حياة الناس
سوق ومال
فنون وفضائيات
مقالات
ثقافة
فجر الضمير
المزيد
دائرة الحوار
رياضة
الملفات
أرشيف المجلة
أول الأسبوع
منوعات
Business Leaders
ثقافة
إبراهيم صموئيل.. بين أزقة الفرح وظلال الخيبة (2)
1-7-2025
|
18:56
إلهامى المليجى
لم تكن علاقتى بأبى أنس مجرد رفقة عمل، بل كانت رحلة متعرجة، تمضى بين أزقة دمشق القديمة وممرات القلب الخفي.
كل لقاء كان نافذة أخرى على عالمه: باب توما بحجارته الحية، البيت البسيط المغمور برائحة الخبز وقصص الطفولة، ثم ذلك الحزن الذى بدأ يتسرب إلى حكاياته كما يتسرب الماء إلى الشقوق القديمة.
فى هذه الحلقة، أحكى لكم عن اللحظات التى جمعتنا على ضفاف الفرح البسيط، وعن كيف غيّرت رائحة الخبز الطازج مسار الحكاية، وكيف كتب الغياب كلمته الصامتة فى دفتر الأيام.
المشهد الثالث: فى صحبة من يعرف سر الأزقة والقلوب
مع أبى أنس، لم تكن الحكايات تُروى بالكلمات فقط، بل تُروى بالخطى فوق حجارة دمشق القديمة، وبالضحكة الخجلى فى أزقة باب توما، وبالعطر الخفى لرغيف خبز طازج.
كان كل لقاء به، وكل مشوار، وكل جلسة تحت سقف بيته المتواضع، درسًا صامتًا فى كيف يكون الإنسان أكبر من محنته، وأصدق من جراحه.
فى هذه الحلقة، أمضى معكم فى تلك المسارات الصغيرة التى قادتنى إلى أسرار قلبه، وإلى حزنٍ ظلّ يخفيه خلف ابتسامته، حتى فاجأنا الغياب، ومضى كل منا فى دربه... يحمل الآخر فى قلبه.
المشهد الرابع: باب توما... حيث تمشى الحكايات على حجارة الأزقة
مع مرور الأيام، تعمقت صداقتى بأبى أنس، حتى صارت دمشق القديمة، بأزقتها ودروبها ومقاهيها، مرآة لما يدور فى روحى وروحه معًا.
كان باب توما أول الأسرار التى كشفها لي: حى تتنفس فيه الحجارة عبق التاريخ، وتمشى الحكايات على حجارة الأزقة كما يمشى العطر على الهواء.
كان أبو أنس يقف أمام أبنية الحى القديمة كما يقف عاشق أمام معشوقته، يتأمل، يشرح، يمرر يده على الجدران العتيقة كأنما يصغى إلى صدى أزمنة غابرة.
وذات مساء دافئ، كنا على أبواب عيد الميلاد، حدثنى عن احتفالات الأطفال بالكنائس، وكيف تملأ براءتهم المكان.
اقترح أن نذهب معًا، أنا وابنى رامى، وهو وابنه أنس، لنشهد هذه البهجة الصغيرة.
وفى الكنيسة، تولى أبو أنس رعاية رامى بعين أبٍ ثانٍ، بينما كان القس يحمل الأطفال عاليًا وسط تهليل وفرح، حتى بدا المشهد وكأن الأرواح نفسها قد شرعت فى التحليق.
بعدها، همس لى باعتراف حميم: «كان والدى قسًا».
تلك الجملة القصيرة أضاءت ملامحه بنور آخر، وأضافت إلى صمته طبقة أعمق من الفهم.
كنت أتردد عليه كثيرًا فى منزله الريفى البسيط على تخوم دمشق.
بيت واطئ المدخل، تضطر أن تحنى رأسك احترامًا قبل أن تدخله، وكأنك تدخل محرابًا من البساطة والوداعة.
وكان البيت كله يحتفظ بتفاصيله الريفية البسيطة، ومدخله الوطيء الذى يجبر الداخلين على الانحناء كأنهم ينحنون أمام سر قديم.
ربما من هذا البيت، استوحى إبراهيم صموئيل قصته القصيرة «البيت ذو المدخل الواطيء»، حيث يصبح الانحناء للمرور رمزًا للتواضع الإنسانى والانكسار أمام قسوة الحياة.
كانت زوجته مارى حداد، سيدة الدفء الحقيقى، تستقبلنا كما تستقبل الأرض المطر الأول.
كان يتغزل بها أمامى بعفوية، ويحدثنى عن صبرها الذى يشبه صبر القديسات.
ومن محبته لها، جمع بين اسم ابنه أنس ولقبها حداد، ليصوغ اسمه الصحفى «أنس حداد»، بينما ظل بيننا، نحن الدائرة الضيقة، معروفًا باسمه الحقيقي: إبراهيم صموئيل.
هناك، فى ريف دمشق الهادئ، كنت أراه أكثر صفاء، أقرب إلى حقيقته الصامتة.
وذات يوم، زارنى فى دمشق الصديق القاص محمد المخزنجى، عرّفته إلى أبى أنس، وكان اللقاء كما لقاء نهرين يعرفان بعضهما منذ الأزل، التقت روحهما على محبة القصة القصيرة، وعلى عشق مشترك بيوسف إدريس، وإعجاب خاص بتشيخوف، ذاك الذى علمنا أن أكبر الحكايات تُروى بأبسط الحروف، وأن الوجع العميق لا يحتاج إلى صخبٍ كى يُسمع.
وفى تلك اللحظة، أدركت ما لم يُبح به أبو أنس يومًا: أنه لا يحيا بالكلمات فقط، بل ينحتها من صمت روحه، ويجعل منها خبزه اليومى، ومقاومته الصامتة فى وجه عالم لا يرحم الحالمين.
المشهد الخامس: الخبز والاعتقال... حين ينكسر السارد الصامت
ثم جاءت اللحظة التى كسرت إيقاع الأيام.
ذات صباح غاب أبو أنس عن المجلة، هو الذى لم يغب يومًا من قبل.
غاب جسده عن مقعده، لكن ظل حضوره الثقيل يملأ المكان بالقلق والأسئلة.
انتظرنا ساعات، ثم أيامًا، حتى جاءنا الخبر الذى انتزع الأمل من صدورنا انتزاعًا: اعتُقل أبو أنس.
وكانت أخبار اعتقال جمال — ذاك الزميل الذى ضاع اسمه فى الزحام — قد ألقت بسحب إضافية فوق سمائنا الملبدة بالقلق.
عشنا شهرًا من الانتظار المضنى، نحاول أن نكتب ونحرر ونعمل، بينما كانت أرواحنا مشدودة إلى مكان آخر.
ثم، كمن يعود من غياهب لا اسم لها، عاد أبو أنس.
لم يكن كما عرفناه.
جلس أمامنا بهدوء، حمل ربطة خبز دافئة، كأنما يحاول أن يستعيد الحياة برائحتها الأولى.
قال لنا إنه اعتُقل أثناء عودته إلى بيته، حاملاً هذه الربطة.
قالها ببساطة، لكنه حين تحدث عن الخبز، انكسر صوته، كمن يتحدث عن وطنٍ صغير خُطف منه.
كان يعشق رائحة الخبز كما يعشق المؤمن صلاته الأولى؛ كثيرًا ما أسرّ لى أن لا “رائحة تضاهى لحظة ولادة الخبز من جوف الفرن.”
هذا الاعتقال، وإن كان قصيرًا، ترك ندبة لا ترى إلا بعين القلب.
صار صمته أثقل، وضحكته أخف، ونظرته أكثر انكسارًا.
بعد فترة قصيرة، وضع بين يديّ مسودة مجموعته القصصية الأولى: “رائحة الخطو الثقيل”.
قرأتها فى ليلة واحدة، ووجدت نفسى أسير بين جدران المعتقلات، أتنفس القهر، وأتحسس الحكايات الخفيّة خلف القضبان.
لبضعة أيام بعدها، كان صدر دمشق يضيق بى، كأن المدينة نفسها أصبحت زنزانة.
حتى سهراتنا فى باب توما، وزياراتى إلى بيته، باتت تحمل فى طياتها صمتًا لم نعرفه من قبل.
ظل الحزن يحوم حوله، خفيًا، كطائر جريح يبحث عن مأوى.
تضاعف هذا الشعور مع تأخر خروج جمال من المعتقل، وحين عاد، كان يحمل على جسده وذاكرته آثار التعذيب.
تغير كل شيء.
غادرت دمشق بعد ذلك بفترة قصيرة، وانفرط عقد الأيام.
لم ألتقِ إبراهيم صموئيل بعدها.
لكنه لم يغب عن القلب.
ما زلت كلما شممت رائحة خبز طازج، أرسل له باقة ورد خفية، وتحية صامتة لرجل يقيم الآن بعيدًا، فى أحد منافى العالم، حارسًا صامدًا لحكاياته ووجعه.
أولئك الذين يعلّموننا أن الحياة، مهما خانتنا، تستحق أن تُروى.
حين ينحنى القلب أمام عبء الحكاية
كان اللقاء بأبى أنس رحلةً تمشى فوق خيوط الضوء، وتتعثر بين ظلال الخيبة.
لم يكن مجرد زميل أو صديق عابر، بل كان مرآة خفية لوجع المدينة، ودفء الحكايات الصغيرة.
فى كل خطوة إلى جواره، كنت أتعلم أن الصمت أبلغ من الخطابة، وأن الحنان المنكسر أكثر فصاحةً من كل الصيحات.
لم يودعنا أبو أنس بكلمات، بل ودعنا بنظرة مشبعة بالحب والصبر والخذلان النبيل.
الخاتمة رغم المسافات والمنافى، بقى اسمه همسًا دافئًا فى القلب، ورائحته - رائحة الخبز والقصص - معلقة فى هواء الذاكرة.
مع إبراهيم صموئيل، أدركت أن الحكاية ليست ما نرويه وما نكتبه، بل ما نعيشه وما نتركه ينبض فى قلوب الآخرين بعد أن نمضي.
كلمات بحث
إبراهيم صموئيل
أزقة الفرح
ظلال الخيبة
ثقافة
رابط دائم
اضف تعليقك
الاسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
الاكثر قراءة
أبو القاسم... ظلال الفن وومضات الروح (2)
الأمين العام لمجمع الملك سلمان للغة العربية: جائزة البابطين اعتراف عربى بمكانة المشروع
نجيب الحصادى.. رحيل عقل يرفض الغياب
اعلى
< li>
نحن والعالم
< li>
حياة الناس
< li>
سوق ومال
< li>
فنون وفضائيات
< li>
مقالات
< li>
ثقافة
< li>
فجر الضمير
< li>
دائرة الحوار
< li>
رياضة
< li>
الملفات
< li>
أرشيف المجلة
< li>
أول الأسبوع
< li>
منوعات
< li>
Business Leaders
جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام