مقالات



خرافة الخرافة

2-7-2025 | 02:14
مهدى مصطفى

بينما يقف العالم على عتبة الذكاء الاصطناعى، ويغزو البشر أعماق الذرة والفضاء، تطفو على سطح المجتمعات العربية «أوشاب» خبيثة وأعشاب ضارة، تعكر مياه الفكر، تخنق الجذور، تمتص رحيق الوعى، وتشوه الإدراك الجمعي. 
إنها لحظة خطيرة، تُصاغ فيها الخرافة على هيئة «نبوءة إعلامية»، ويتقمص فيها أصحاب الرسائل المسمومة دور «كهنة العصر»، يطلون عبر الشاشات والمنصات، يرددون سيناريوهات محددة، بعبارات مكررة، وكأنها أوامر قدرية كتبت فى لوح محفوظ. 
والحق أن هؤلاء ليسوا مبشرين بالغيب، لكنهم أدوات بشرية لوثائق مكتوبة سلفا، يتلقونها من مراكز التفكير والتوجيه، يخططون بها لإحداث الفوضى، ثم يخرجون ليقولوا: «لقد قلنا لكم من قبل...». وهنا تكمن الخطورة. 
منذ مطلع القرن الحادى والعشرين، تحولت وسائل الإعلام إلى أذرع تنبؤية زائفة، تمهّد نفسيا لتمرير الأحداث الكبرى قبل وقوعها، بدءًا من «الربيع العربي»، وصولا إلى تقسيم الخرائط، وتمزيق الجغرافيا، وتسويق الفوضى باعتبارها «تحولا تاريخيا». 
ولا غرابة أن نجد هذا الخطاب موازيا لما طرحه البريطانى الأمريكى، برنارد لويس، فى وثيقته الشهيرة (1983)، حين اقترح إعادة تفكيك الشرق الأوسط على أسس طائفية وعرقية، أو ما طرحه الأمريكى الآخر صامويل هنتنجتون فى “صدام الحضارات”، حيث تتحول الخرافة إلى أداة استعمارية ناعمة، تتلاعب بالقلوب والعقول. 
تمرير السيناريوهات على ألسنة من يرتدون ثوب المحايدين أو “المتصوفة الإعلاميين”، ليس إلا تمهيدا نفسيا للشعوب، بحيث تستقبل الصدمة دون مقاومة.
بعض “المحايدين” المصطنعين يبثون تنبؤات تتحدث عن “حرب كبرى قادمة”، أو “خطر داهم”، أو “تغييرات حتمية فى الإقليم”، ويكررون “النبوءات” من وقت لآخر.
وهو تكرار منهجى لا علاقة له بالإعلام الحر، لكنه نموذج للتلاعب النفسى الجماعى، يعيدنا إلى أدوات النازية، التى استخدم فيها جوزيف جوبلز “الكذبة الكبيرة” التى تتكرر حتى تصبح حقيقة فى وعى الجمهور. 
والغريب أننا نعيش عصر الذكاء الاصطناعى، ننتج الأسلحة فوق الصوتية، ونجرب الحوسبة الرقمية، وفى الوقت ذاته يتم اختراق عقول الملايين بخرافات من نوع “الجن السياسي”، أو “الأرقام الكونية”، أو “الرموز السرية”، التى تبث عبر قنوات مشبوهة، تتبع غالبا أجندات غير وطنية. 
هذه ليست مصادفة، لكنه برنامج ناعم لتفكيك الإرادة الجمعية، عبر استبدال الفكرة الواضحة بالخرافة المبهمة، وتحويل المواطن إلى كائن ينتظر “ما سيحدث”، لا من يشارك فى تشكيل الحدث. 
مصر، كما تؤكد تجربتها التاريخية، ليست قابلة للاختراق بهذه السهولة. فمن روض النيل، وبنى الأهرام، وتحدى الاستعمار، قادر على كشف تلك الألعاب الصبيانية، وعلى إزالة تلك الأعشاب الضارة التى تريد أن تزرع الوهم مكان الحقيقة. 
نستحضر موقف الفيلسوف الفرنسى “ديكارت” حين قال: “أنا أشك، إذن أنا أفكر، إذن أنا موجود”. ونحن بدورنا، نشك فى كل ما يطرح عبر هذه المنابر الخرافية، لأنها ليست محايدة، بل موجهة بدقة، وممولة غالبا من الخارج، بهدف خنق وعى الشعوب، خصوصا فى لحظات التحول المصيري. 
الخرافة الجارية على خرائط فلسطين والمنطقة ليست نتيجة إيمان دينى، لكنها ثمرة عقود من التخطيط الذى وضعته شخصيات مثل “هرتزل” و”بن جوريون”، مرورا برؤساء مراكز دراسات الأمن القومى الإسرائيلى، الذين دعوا مرارا إلى إحداث “فوضى بناءة” فى الدول المحيطة. 
ولعلنا لا ننسى مقولات مثل: “لن يكون هناك سلام دون إعادة تشكيل الشرق الأوسط أولا”، التى قالتها كوندوليزا رايس خلال حرب لبنان 2006، تزامنا مع انتشار نظرية “الفوضى الخلاقة”. 
نقول للذين يظنون أن الخرافة ستنتصر: افعلوا ما شئتم، وانشروا خرائطكم ما استطعتم، فإن حجرا واحدا من أحجار الأهرامات، أطول عمرا من كل مخططيكم، وأكثر صلابة من كل أوراقكم. 
سترحلون، وتتمزق خرائطكم قبل أن ترسم، وتخفت نبوءاتكم فى الظلام، فالشعوب، حين تستيقظ، لا يمكن تخديرها بخرافة، ولا السيطرة عليها بتنجيم إعلامي.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام