كل إنسان خلق وفطر على نزعة المعرفة، وهى سلاح خطير لمن يمتلكه، فإذا كانت تلك المعرفة خيرة، قد تنقذه وتمتد آثارها لإنقاذ آخرين من أسرته إلى مجتمعه، وهكذا وصولا بشكل أكثر مثالية لوطنه، ومن لا يستخدمها، أو حتى لا يسعى لتلك الخيرية فقد وقع بفخ الجهل الذى قد يقتله مهما بلغ من علم.
نحن كبشر أكبر من مجرد مادة، فلنا جوهر وروح تحب وتكره تخاف وتتأمل وتسعى دائمًا بشكل لا إرادى للمعرفة، والفكرة هنا فى كيفية استخدام تلك المعارف والفصل بين الخير والشر فيها، ومقاومة شرورها لتتحقق معانى الإرادة الإنسانية التى وهبها الله تعالى لنا، الفكرة فى الاختيار.
لذا قد يبدو الحديث عن عالم محدد، قدم الكثير من التفسيرات لمحددات السلوك الإنسانى، وخصوصيات كانت غير مألوفة من قبله، تفرض نفسها بلحظتنا الآنية، وهو “ستانلى ملغرام”، عالم النفس الاجتماعى والذى كان واحدًا من أهم علماء النفس السياسى، وممن لهم مطويات سياسية أسهمت بشكل كبير فى فهم وتحليل هذا العالم الغامض، ومع المشهد الحالى لكل تلك النيران المشتعلة هنا وهناك، على خريطة عالمنا، نجد بعض التفسيرات والفهم لممارسات القتل والإبادات والعنصرية، وما يهمنا تحديدا بنظرياته الجانب الخاص، بتأثير الإيهام أو الخداع فى الجماعات البشرية، وكيف تؤثر الضغوط الاقتصادية والاجتماعية على أحكام البشر ومعرفتهم، وتظهر فى شكل سلوك قد يبدو لنا من أول وهلة عنيفا أو أنانيا وغير إنسانى، لذلك ابتكر تجربة علمية وضع فيها مجموعة من الباحثين، واختار عشوائيا مجموعة أخرى من الأفراد من مهن مختلفة، ولم يشرح للباحثين، أو من خضعوا لتلك التجربة نياته الحقيقية من التجربه، وأخبرهم أنها بغرض وسائل التعليم لينحى هنا تحديدا نزعة المعرفة ويمنحهم الإرادة، ومن خلال طرح عدة أسئلة أتاح للباحثين توجيه العقاب عن طريق صدمات كهربائية، تحدد مؤشرات مدى الصدمة وشدتها كلما أخطأوا أو تكرر الخطأ، ووضع الباحثين بغرفة منفصلة عن الأفراد الخاضعين للتجربة لا يراه، ولكن يسمعه.
فى الحقيقة لم يكن أى من هؤلاء الأفراد، يتلقى أى صدمات كهربائية على الإطلاق، وهذا بالاتفاق معهم، وكان مولد الصدمات الذى كان بيد الباحثين زائفا أيضا، ورصد ملغرام أن الباحثين وجهوا صدمات وصلت ببعض الأحيان لأقصى من 450 فولتا، وهى نسبة غاية فى الخطورة على الرغم من سماعهم صرخات استغاثة من الأفراد متفق عليها أيضا، وهنا ظهرت علامات سلوكية أخرى على الباحثين من توتر شديد وقلق وارتعاشة بالأيدى، وآخرين دخلوا فى ضحك هستيرى أظهرت بعض من نوازع سادية، ومنهم من بكى، وبنهاية التجربة أجمعوا على أنهم لا يشعرون بتحمل المسئولية عن أفعالهم، لأنهم تلقوا أوامر بخطواتها.
سنلاحظ التشابه الكبير بين تلك التجربة، المراد بها أساسا قياس مستوى الطاعة، لدى الأفراد أمام المسئولين، وقدرتهم على استخدام معرفتهم المسبقة لكل ما هو خير أو شر من أفعال، وتمييزهم وتفعيل إرادتهم الذاتية فى هذا الاختيار الإنسانى، وبين الجيوش المعتدية على بلدان أو شعوب بدون أى وجه حق وإباحة، القتل والعنف والدم فقط لإطاعة الأوامر، هنا أيضا يتضح لنا أن بعض البشر قد يخالف مبادئه وقيمه الإنسانية، ويطرح أى تعاطف جانبا أمام موقف ما يحثه على إطاعة السلطة أو مسئول بغرض المصالح.
وإذا ما انخرط أى إنسان فى فعل يحمل الشر وواصل فعله، كثيرا ما يكون نتيجة لسلسلة من الأفعال، يتحمل مسئوليتها أشخاص قد يبدون عاديين بنظرنا، لكن إذا ما دققنا تحليل وترتيب أفكارهم وسلوكياتهم سنصدم حتما بمدى ظلامهم الداخلى، الخطر هنا ليس فى هؤلاء الأشخاص الظلاميين بل فى الشر الناتج الذى تحول لشر منظم، وإذا ما أسقطنا تلك التجربة على من يحكمون عالمنا الآن، سنذهل بلا أى شك لتلك المعرفة، وسنلاحظ مدى التشابه بين الأحداث الواقعية التى تجرى فى معظم بلاد العالم وبينها.
سندرك أيضا أن جيوش تلك الدول الاستعمارية القديمة، ما زالت تمثل لذات المنهج والعقيدة المستمرة، والمنتظمة التى جردتهم من إنسانيتهم وأزالت أى ضوابط أخلاقية، لذلك لا تتعجب من مشاهد العنف والعدوان الوحشى الذى يمارسونه على بشر مثلهم، لأن الأوامر أفسحت لهم المجال لتبرير العدوان الوحشى، وثبتوا صورا ذهنية لكل المختلفين عنهم بأنهم يستحقون ذلك لأنهم أغبياء أو إرهابيون، إلخ، أيا كان المسمى، لخلق كراهية تعزز تلك الأفعال والسلوكيات، لذلك فهم يشعرون بانتفاء مسئوليتهم.