بين ذرات الحلم التى تسكن المختبر، وسيناريو الروح الذى يضيء الشاشة، تتشكّل ملامح أبو القاسم عمر صميدة: رجل عاش الحياة كمشهد مفتوح، يكتبها مرة بالعقل، ومرة بالقلب، وكثيرًا بالاثنين معًا.
بعض الوجوه لا تمرّ فى حياتنا كالعابرين فى محطة قطار، بل تترك فينا ندبة حلوة، أو تفتح لنا شرفة نطلّ منها على ضوء غامض، وجوه لا نكتب عنها ببرود المؤرخين، بل نكتبها كرسالة دافئة إلى صديق، أو كحكاية نهمس بها فى مساء طويل. هكذا كان أبو القاسم عمر صميدة. لم يكن مجرد عالم، ولا مجرد منتج سينمائى، بل كان روحًا تمشى بين الناس بخفة شاعر، وحلم عاشق، ووقار حكيم. عاش ازدواجًا نادرًا: بين دفاتر الكيمياء النووية وساحات الفن، بين مختبر العلم ودهاليز السينما، بين دقة المعادلات وارتباك القلب فى حضرة الجمال. أنا لا أكتب هنا سيرته، ولا أرسم لوحة مكتملة الملامح، بل أحكى مشاهد جمعتنا معا، أو رواها لى، مشاهد تختصر عمرًا من الحلم والمقاومة، يختلط فيها العلم بالإنسان، والفنّ بالجرح، والابتسامة بحزن شفيف لا تلتقطه الكاميرات.
وحين تكسّر جسده أمام قسوة الخذلان، ظل صوته الداخلى صافيًا، يردد كأنه يواسى قلبه: «لا تزال فى هذه الأرض شجرة للكرامة، ولا يزال فى الحلم متّسع لجمال خجول.» فى هذه السطور، أفتح نوافذ على إنسان آمن بأن الثقافة ليست ترفًا، بل مقاومة صامتة، وأن الفنّ ليس زينةً للزمن، بل خلاص عميق للروح. المشهد الأول: جنيه الماء... وفلسفة التواضع منذ أن تعرّفت إلى أبو القاسم، لم يكن يمرّ عرض سينمائى لشركة «شعاع» دون أن يوجّه لى دعوة خاصة، لم تكن دعوة مجاملة، بل أشبه بعناق صامت، كأنها مشاركة فى حلم جماعى كان يراه امتدادًا لمعركة وعى لا تنتهى. أذكر تلك الليلة التى حضرت فيها عرض فيلم خلّى الدماغ صاحى، بقاعة سينما كريم، حيث اجتمعنا فى «البلكون» — ذلك الملاذ الذى يشبه منصة سرية للنبلاء، جلسنا قبل العرض فى مقهى جانبى داخل السينما، بعيدًا عن الزحام، برفقة خالد يوسف، سامى العدل، فتحى العشرى، ومحمود سعد. طلب محمود سعد زجاجة ماء، فنهض أبو القاسم، رفع حاجز البوفيه، وأحضرها. ولأن محمود لم يكن يعرفه، ناوله جنيهًا فضيًا ظنًّا منه أنه أحد العاملين. أمسك أبو القاسم الجنيه وابتسم، ثم قال ضاحكًا: “بصّوا... الأستاذ محمود إدّانى جنيه علشان جبت له يشرب!”، وتابع بخفة ظل لا تشبه سوى قلبه: “واللى عايز يشرب... يدفع جنيه”. كانت ضحكة سامى العدل تملأ المكان، فيما أبو القاسم يوزّع ابتسامته كمن ينثر وردًا على درب عابرين، لم يغضب، بل ضحك من أعماق روحه، لأنه كان يرى فى البساطة فضيلة، وفى التواضع شرفًا لا يضاهى.
المشهد الثاني: المقهى... وكشف الأقنعة فى مهرجان الإسكندرية، أثناء عرض فيلم كلام الليل، اندلع خلاف حادّ بين المخرجة إيناس الدغيدى والفنانة جالا فهمى، كاد أن ينسف العرض بأكمله، فاقترح أبو القاسم الحلّ بهدوء: أن يجلس كل فريق فى مكان مختلف، لتبقى الليلة للسينما لا للنزاعات، وقبل العرض بساعات، جلس فى مقهى بسيط بمحطة الرمل، يحتسى قهوته فى هدوء، حين ظهر أحمد منصور، مذيع قناة الجزيرة ببرنامجه الشهير “شاهد على العصر”. اقترب أبو القاسم بتحيته الدافئة المعتادة، فقوبل ببرود قاسٍ، كأنما يقول: «دعنى وشأني»، انسحب أبو القاسم بأدبه، كمن ينسحب من عاصفة كى لا يجرح ريش روحه، ثم جاء أحمد منصور إلى قاعة العرض، حاول الدخول، فأشار إليه المنظّمون بالدخول إلى القاعة الرئيسية، لكنه لاحظ آخرين يصعدون للأعلى، وهنا، توجّه إلى الدكتور أبو القاسم وقال بوجه متودّد متكلف هذه المرة: “أهلًا”. فردّ عليه أبو القاسم التحية بهدوء، ثم أومأ للموظف أن يُجلسه إلى جواره فى الشرفة، خلال دقائق، بدأ الناس يتوافدون على الدكتور بالتحية، من إعلاميين وصحفيين وفنانين، وأعضاء لجنة التحكيم، يحيونه بحرارة صادقة. أما أحمد منصور، فظلّ يراقب المشهد بدهشة، حتى مال على أبو القاسم وهمس مستفسرًا: “من حضرتك؟” ابتسم أبو القاسم، وأجاب بصفاء لا يخلو من سخرية راقية: “أنا الراجل اللى كنت فى المقهى وحبيت أسلم عليك، فصدّيتنى. والآن، أنا رئيس شركة شعاع، منتجة الفيلم، ومديرة هذه القاعة”. ارتبك أحمد منصور، وظلّ طوال العرض يحاول تدارك الموقف، معتذرًا، ومتعهدًا بأنه سيسجل معه حلقة مطوّلة فى برنامجه الشهير، ليتحدث فيها عن تجربته فى السينما والعلم والثقافة. لكن - كما توقّعت - لم يَفِ بوعده، وظل ذلك الوعد معلقًا فى هواء لا يهبط أبدًا، أبو القاسم لم يعاتبه، بل اكتفى بابتسامته الهادئة، كأنما يضع حاجزًا شفافًا بين الكبرياء الحقيقى، وبين الزيف المتغطرس، هكذا يعلّمنا الكبار درسًا عميقًا: الهيبة الحقيقية لا تحتاج إلى ميكروفونات ولا كاميرات، بل تولد من الصدق، وتُروى بالصمت.
المشهد الثالث: مرثية الحلم الموءود بعد غزو العراق، حين زُرع الخوف فى قلب المنطقة بذريعة “أسلحة الدمار الشامل”، بدأت لعبة الابتزاز النووى تُكتب بحبر لا تراه العيون، ولكن تحسّه الأرواح، تحت وقع الضغوط الأمريكية الثقيلة، لم تكن ليبيا فقط تختار، بل كانت تُدفع دفعًا، لتطوى صفحة مشروعها النووى — ذلك الحلم العلمى الذى خيّم طويلًا فى خيال علمائها، وكاد يطلّ على الأفق كإعلان وجود جديد، يهدد بخروجه عن نص السيناريو المرسوم لهم. وقتها، كتبتُ تحقيقًا مطوّلًا فى الأهرام العربى، كان أبو القاسم أحد أعمدته، بل قلبه النابض، كنت أرى فى عينيه حزنًا صامتًا، كندبة فى ذاكرة وطن، لم يكن تحسّره على سلاح أو صاروخ، بل على حلم علمى لو اكتمل، لأسّس قاعدة صلبة، تثمر صناعة، وتغذّى المعرفة، وتعيد للعقل العربى ما خسره فى زحام الانكسارات.
وبعد سقوط النظام، عاد أبو القاسم يفتح الجرح بجرأة العالم، وشفافية العاشق، فاستعان بزملائه العلماء، وكتب كتابه الجريء «المشروع النووى الليبى والخروج بالبطاقة الحمراء»، الذى أصدرته عن دار النديم، كتاب لم يكن تقريرًا علميًّا فقط، بل كان أشبه بمرثية لحلم ذُبح فى صمت، كى يُفتح باب الدبلوماسية، وتُغلق أبواب المستقبل. فى هذا الكتاب، فتح الصندوق الأسود بكل شجاعة، كشف بالأدلة والصور، كيف وصلت ليبيا إلى مرحلة متقدمة فى تخصيب وتنقية اليورانيوم، حتى صارت قاب قوسين أو أدنى من إعلان: “نحن هنا”. لكن تصريح الإسرائيلى أرييل شارون بأن ليبيا ستكون أول دولة عربية تمتلك سلاح دمار شامل، غيّر النص فى اللحظة الأخيرة، ومع تهديد الرئيس الأمريكى جورج بوش، الذى نقله بوتفليقة إلى القذافى، انتهى كل شيء: إمّا تفكيك المشروع، أو مواجهة الغزو. هكذا، مقابل التخلّى، مُسحت ليبيا من قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، فُتحت السفارات، جرى تمكينها من مقعد فى مجلس الأمن، ودخل القذافى بخيمته إلى الأمم المتحدة، بينما الحلم العلمى يتحلّل فى مخازن مُعتمة، ويُنفى كقصيدة حُذفت أبياتها الأخيرة.
يومها، قال لى أبو القاسم، بعينين تشبهان جرحا تاريخيا عميق: «كان المشروع الليبى ناجحًا علميًّا، لكنه فشل سياسيًّا، الخسارة هنا أكبر من كل مكسب دبلوماسى، لأن الأوطان لا تُبنى بالمصافحات، بل بما تتركه فى العقول والقلوب من جذور راسخة». فى تلك اللحظة، أدركت أن أبا القاسم لم يكن يتحدث عن اليورانيوم، ولا عن أجهزة الطرد المركزى، بل كان يحكى عن الحلم نفسه، كائن حيّ تم خنقه فى صمت، كى تنجو ليبيا مؤقتًا من سيناريو الغزو، الذى عاد لاحقًا بأشكال أكثر قسوة عام 2011. هكذا، فى كل مشهد شاركنى به، أو فى كل حكاية سرّبها بصوته العميق الواهن، اكتشفت أن أبا القاسم عمر صميدة لم يكن مجرد إنسان، بل كان فكرة تتجوّل فى هيئة جسد، وحلمًا يمشى بين الناس بهدوء العارفين.
علّمنى أن الهزيمة الحقيقية ليست سقوط الجسد، بل انطفاء الروح، وأن الأجساد مهما مالت، تظل سامقة حين تسكنها نار الحلم. فى ضحكته على جنيه محمود سعد، وفى هدوئه أمام نظرات الإعلامى المرتبكة، وفى مرثيته الحزينة لمشروع الذرّة، رأيت فيض الفلسفة وهى تتجلّى فى بساطة الحكيم، كأن كل موقف كان بيت شعر مكتوما، يقال بصمت أبلغ من القصائد. كان يعلّمنى دون خطب، أن الطريق إلى الخلود لا يمرّ عبر الألقاب ولا عبر القاعات المكتظة، بل عبر لحظة صدق نادرة، يواجه فيها الإنسان ظلاله، ويكتشف فيها سر نجاته وسر انكساره معًا. فى الحلقة المقبلة، سنعبر أبوابًا أعمق: المنفى، الخذلان، ووجع الجسد، حيث يصبح الألم لغة جديدة، وتصير كل خطوة قصيدة ناقصة، يتركها صاحبها للريح كى تكملها كما تشاء. الخاتمة إلى اللقاء، فى مشاهد أخرى من قصيدة أبو القاسم، ذلك الرجل الذى لا يزال يواصل التوهّج كنجمة تعرف جيدًا أن نورها لا ينطفئ، بل يمدّ الليل بألف حكاية، وألف شظية حلم، فى فضاء لا ينتهى.