وجوه عبر الزمن



سعد الدين وهبة.. من خيمة القذافى إلى صمت الرحيل (2)

26-7-2025 | 15:17
إلهامى المليجى

فى وداع الكبار،
لا تكفى الكلمات،
ولا تُجدى الكتابات مهما تنوعت بلاغتها أو صدق مشاعرها، لكننا نحاول هنا أن نرسم بالقلم صورة أخرى، مكمّلة للحلقة الأولى، حيث نواصل سرد المشاهد الأخيرة التى جمعتنا بهذا الرجل الكبير، سعد الدين وهبة، المثقف العضوى الذى لم يتردد يومًا فى أن يكون فى الصفوف الأولى حين يستدعى الوطن والموقف.

لم يكن سعد الدين وهبة مجرد اسم يتردد فى أروقة الثقافة والسياسة، بل كان روحًا نابضة بالعروبة، وصوتًا صافيًا يعلو كلما خفتت الأصوات، وموقفًا لا يتزعزع فى زمن تلاعبت فيه المواقف. فى هذه الحلقة، ننتقل إلى واحدة من أبرز المحطات فى تلك المسيرة العربية التضامنية إلى ليبيا، حيث جمعنا لقاء نادر بالزعيم الليبى معمر القذافى فى خيمته الشهيرة.
من هناك، من قلب الصحراء التى تنضح بالتاريخ والرمز، نُكمل فصول المشهد الإنسانى والسياسى الذى خطّه وهبة بقلمه وصوته، حتى الوداع الأخير، حين خبا الضوء وسكن الحرف.
لقد كان هذا الوداع صادمًا، كمن يُنتزع من مشهد لم يكتمل. فوهبة لم يكن عابرًا فى الزمن، بل كان زارعًا للأمل، ومهندسًا لأحلام لم تكتمل. سنستعرض هنا تلك اللحظات التى سبقت الرحيل، المشاهد التى لم تُعرض على المسرح، لكنها بقيت فى الذاكرة محفورة، مثل صدى لمشهد أخير لم يُسدل عليه الستار.

المشهد الثالث: لقاء فى الخيمة... حوار بين مثقف وزعيم
المشهد الثالث: فى خيمة القذافى.. وهبة يضبط الإيقاع

فى خيمة منصوبة فى قلب الصحراء الليبية، حيث يلتقى الرمل بالعزلة والسياسة، كان اللقاء الذى طال انتظاره بين الوفد العربى – وكان يضم عشرات الشخصيات من مثقفين ونقابيين وفنانين – يتقدمه سعد الدين وهبة، وبين الزعيم الليبى معمر القذافى. خيّم على الأجواء شعور بالتاريخ يُصاغ فى لحظة، وكان الحضور كثيفًا من النخب، ما أضفى على الجلسة مزيجًا من الجدية والتمثيل الرمزى.

بدأ اللقاء بكلمة قوية ومعبّرة من سعد الدين وهبة، ألقاها بصوته الجهورى ونبرته المسرحية الرفيعة، تحدث عن الحصار بوصفه فعلًا إجراميًّا ضد شعبٍ بأكمله، وعن أن التضامن مع ليبيا ليس مجرد موقف، بل مسئولية قومية وأخلاقية، قال: “لم نأتِ من أجل التصفيق، بل لنعلن أننا ضد الظلم، مع الشعوب فى مواجهتها للحصار والعدوان، بالكلمة والموقف، بالثقافة والفن، وبما تبقى لنا من كرامة عربية”.

لكن اللقاء لم يكن خاليًا من المشاهد الطريفة والمحرجة أحيانًا، فقد حاول كثير من أعضاء الوفد إثبات حضورهم عبر مداخلات متكررة، بعضها خرج عن السياق، وبعضها أربك الإيقاع العام للقاء، وهنا، تجلّى وجه آخر لسعد الدين وهبة، وجه القائد المنضبط، حين تدخل بحزم أكثر من مرة لإعادة الأمور إلى نصابها.

أتوقف هنا عند مشهدين لا يُنسَيان: الأول، حين حضر الفنان محيى إسماعيل اللقاء متشبهًا بالقذافى فى مظهره، من حيث الملبس وتسريحة الشعر وحتى نبرة الكلام، كأنه نسخة فنية مستنسخة عن الزعيم الليبى، كان واضحًا أنه يسعى لخطف الكاميرا ولعب دور يتجاوز حدود المناسبة، فأطال الحديث واسترسل فى الحوار مع القذافى بطريقة أثارت استغراب الحضور، وحين بدا أن المشهد ينزلق عن مساره، كانت إشارة مقتضبة من سعد الدين وهبة كافية – بإيماءة هادئة لكنها حاسمة – لإعادة الأمور إلى نصابها، فعاد محيى إلى مقعده بهدوء، وكأنما أنهى دورًا مرتجلًا لم يرق للمخرج.

أما المشهد الثانى، فكان حين خرج زميل صحفى من جريدة «الأهرام»، وزميلة أخرى صحفية من «الأخبار»، أثناء اللقاء، وتبادلا الحديث فى ركن جانبى على مقربة من الخيمة المنصوبة وسط صحراء سرت، التقطتهما عيون الأمن الليبى بعدسة الشك، فتم تصويرهما وأبلغونى بقلق أنهم يشكون فى احتمال تدبيرهما لأمر ما ضد القائد، كانت نبرة الأمن مشوبة بالارتياب، لكننى أوضحت لهم أننى أعرف الشخصين جيدًا، وراجح أن خروجهما كان بدافع التدخين أو استنشاق بعض الهواء بعيدًا عن ازدحام الخيمة، خصوصا أن الصحفية مقربة من وهبة وتعد بمثابة مستشارته الإعلامية. وفى صباح اليوم التالى، أطلعت سعد الدين وهبة على تفاصيل الحادثة، فتعامل معها بحكمة بالغة وحسمٍ لم يخلُ من حدة، ما دفع رجال الأمن الليبى لإغلاق الملف.

بعد انتهاء اللقاء الموسّع، جرى لقاء خاص بين سعد الدين وهبة والقذافى، كان أكثر هدوءًا وعمقًا، اتفقا خلاله على إنشاء آلية دائمة تضمن استمرارية هذا التجمع النقابى العربى، وتكون إحدى مهامها الأساسية مقاومة التطبيع مع العدو الصهيونى، والتفاعل مع القضايا العربية الكبرى، كما اتفقا على تأسيس مجلة عربية قومية تُعنى بالشأن الثقافى والنقابى العربى، يكون مقرها القاهرة، ويديرها وهبة، على أن تمولها ليبيا، كان اللقاء كأنما يؤسس لمرحلة جديدة، فيها شىء من الحلم، وكثير من التصميم.

المشهد الرابع: حين باغته المرض... الحلم المؤجل

عدنا فى اليوم التالى إلى القاهرة، وكان الحماس لا يزال مشتعلًا فى صدورنا، يمدنا بالحيوية رغم وعثاء السفر، لم تمضِ أيام قليلة حتى بادر سعد الدين وهبة بالتحضير لإصدار المجلة التى اتفق عليها مع القذافى. استأجر مكتبًا فى حى الزمالك، على مقربة من محل سكنه، وجهّزه بأجهزة الحاسوب والمكاتب الخاصة بطاقم التحرير والإدارة.

وخلال استكمال الإجراءات، اكتشف وهبة أن عضويته فى نقابة الصحفيين كانت قد سقطت منذ سنوات بسبب عدم سداد الاشتراكات، فتواصل مباشرة مع النقيب آنذاك، الكاتب الكبير إبراهيم نافع، الذى أبدى تفهمًا، واتفقا على الخطوات اللازمة التى تسمح بإعادة العضوية وفقًا للإجراءات المتبعة.

لكن، ما إن بدأت الأمور تتخذ شكلًا ملموسًا، حتى بدأت أعراض المرض اللعين – السرطان – تظهر على سعد الدين وهبة، سافر للعلاج إلى المانيا، وحينها أعرب العقيد القذافى عن استعداده التام للتكفل بكامل نفقات العلاج فى أرقى المستشفيات، إلا أن وهبة، كعادته، أبى أن يحمل عبء مرضه لغير وطنه، شاكرًا مبادرة القذافى ومؤكدًا أن الدولة المصرية ستتكفل بكامل العلاج.

استمر تواصلنا خلال تلك الفترة، وكان آخر اتصال بيننا يحمل نبرة أمل لا تنكسر، فقد ظلّ حماسه لإصدار المجلة كما هو، وحدد موعدًا مبدئيًا لصدور العدد الأول، بعدما كانت بعض الأعداد التجريبية قد أُنجزت. لكن القدر قال كلمته، وغادر عالمنا قبل أن يتحقق الحلم.

كان رحيله صدمة لم نفق منها سريعًا، توقفت كل المشاريع، وذبلت الأحلام التى نبتت فى خيمته الأخيرة، نعاه الأحرار فى كل أرجاء أمتنا العربية، وأُرسلت وفود من ليبيا وفلسطين وغيرها للمشاركة فى العزاء، وفى مقدمتهم وفد رسمى من العقيد معمر القذافى وآخر من الرئيس ياسر عرفات.

لقد رحل سعد الدين وهبة، لكنه ترك لنا أثرًا لا يُمحى، ودروسًا لا تُنسى فى الإخلاص والالتزام والقدرة على تحويل الكلمة إلى موقف، والموقف إلى فعل، كانت المجلة حلمًا لم يكتمل، لكنها ستبقى فى الذاكرة صفحة من صفحات الوفاء، ومرآة تعكس وجهًا من وجوه هذا الرجل الذى عاش ومات وهو يحلم بعالم عربى أكثر عدلًا وكرامة.

حين يرحل من يشبه الوطن
فى وداع سعد الدين وهبة، لم يكن الحزن وحده سيد اللحظة، بل شعور عارم بأن ثغرةً فُتحت فى جدار الحلم، وبأن يدًا خفية سحبت الستار قبل أن تُعرض المسرحية كاملة، لم يكن الرجل مجرد فنان أو نقابى، بل مشروعً كامل من الحضور، من الالتزام، من الوهج الوطنى والعربى، الذى جمع بين صرامة الموقف ورهافة الروح.

لقد أردنا فى هذه الحلقة أن نرسم – قدر ما استطعنا – ملامح المشهد الأخير، لا بوصفه نهاية، بل بوصفه علامة ترشد السائرين فى الدرب. حاولنا أن نلتقط خيوطًا من الحلم الذى نسجه وهبة بخيوط من ضوء: مجلة عربية تنبض بقضايا الأمة، منصة مقاومة لكل أشكال التطبيع والخنوع، بيتًا للنقابات والفنانين والمثقفين الذين آمنوا أن الثقافة مقاومة، وأن الفن سلاح لا يقل فتكًا عن المدفع.

لكن الموت – كما الحروب – لا ينتظر أن يكتمل البناء. خطف سعد الدين وهبة، وهو فى ذروة انشغاله بتلك المشاريع، وكأنما اختار الرحيل واقفًا، كما يليق بالرجال الكبار، الذين لا يعرفون الانسحاب التدريجى من الحياة، بل يغادرون دفعة واحدة، ليظل فراغهم أعمق من أن يُملأ.

فى وداعه، تهادت الخيام، وصمتت الكلمات، وتوقفت المشاريع، لكن بقيت الذكرى حيّة، تنبض فى ذاكرة من عرفوه، وعملوا معه، وآمنوا برسالته. بقى من سعد الدين وهبة ما لا يموت: الكلمة، والموقف، والوهج.

الخاتمة لأن الحكايات لا تنتهى برحيل أبطالها، بل ربما تبدأ من هناك، فقد أردنا عبر هاتين الحلقتين أن نمنح ذاكرة القارئ بعضًا مما تبقى من نور ذلك الرجل الذى مرّ بيننا كجسر، مشى عليه الحلم، وعلق عليه الوطن آماله ذات مساء.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام