القومى يرفع لافتة كامل العدد والجمهور يرى ما يحدث على المسرح معجزة بطل العرض يؤكد سهولة دوره هذه المرة «بلغت سن الملك وظهرى انحنى» عودة الفنان الكبير يحيى الفخرانى، لتقديم شخصية “الملك لير”، للمرة الثالثة ليست مجرد قرار فنى، بل لحظة كاشفة عن العلاقة العميقة بين الفنان والدور، وبين النص والحياة. هذه العودة جعلت الكثيرين يتساءلون: لماذا يعود فنان فى الثمانين من عمره إلى خشبة المسرح ليؤدى دورا يعرفه الجمهور، كما يعرف ملامحه؟ ما الذى يدفعه لأن ينهض كل ليلة، ويحنى ظهره، ويذوب فى شخصية مليئة بالخيانة والانكسار؟ هل لأنها تشبهه؟ أم لأنها المرآة التى يرى فيها كل مرة جانبا مختلفًا من نفسه، ومن حوله؟ بين عامى 2001 و2025، لم تتغير شخصية الملك، لكن تغير الزمن، والجمهور، وتغير الفخرانى نفسه، فهل هذا هو ما دفعه لتكرار نفس الدور ثلاث مرات خلال أكثر من عقدين ، أم أن التغير الذى أصابه وأصاب الزمن والجمهور دفعه لإعادة اكتشاف نفسه فيه؟
أسئلة كثيرة تتقافز فى أذهان الكثيرين حول عرض “الملك لير”، الذى يشهد إقبالا كبيرا منذ ليلة افتتاحه على خشبة المسرح القومى، بل فى أول نصف ساعة من فتح باب الحجز الإلكترونى، الذى تشهده مسارح الدولة لأول مرة فى تاريخها، تم نفاذ تذاكر الأسبوع الأول، مما يدل على حالة الشوق الكبير التى يحملها الجمهور، لرؤية القدير يحيى الفخرانى، فى المسرح، برغم أن هناك نسخة مصورة منها، وببطولته أيضا يمكن لأى شخص أن يشاهدها على اليوتيوب، الأغرب من ذلك ما صرح به الفنان أيمن الشيوى، مدير المسرح القومى، بأنه أثناء تجربة الحجز الإلكترونى ودون الإعلان عنه، فوجئوا بأن هناك 50 تذكرة، تم حجزها فى الدقائق الأولى.
الملك لير، ليس فقط أحد أعظم نصوص شكسبير، بل هو امتحان نضج لأى ممثل، فمن يجرؤ على أدائه، عليه أن يجيد الصمت كما يجيد الصراخ، وأن يحبس الدموع فى العين دون أن تسقط، وأن ينحنى، لا تمثيلا، بل وجع. ولهذا لا يدهشنا أن يختاره الفخرانى مرة بعد أخرى. ففى عام 2001، كان فى قمة عنفوانه المسرحي.وفى عام 2019، كان أكثر حكمة، وأكثر قدرة على احتواء النص. واليوم فى 2025، يعود إليه، وهو فى عمر الشخصية نفسها تقريبا، كما قال فى المؤتمر الصحفى: عانيت كثيرا فى هذا الدور عندما قدمته منذ 24 عاما، لأننى كنت فى كامل صحتى، لكن الدور كان يتطلب منى أن أظل منحنى الظهر مما أصابنى بالتعب الشديد فى ظهرى، أما اليوم فأنا طبيعى، ظهرى انحنى، لذلك أصبح الدور أسهل!”، لكن ما يبدو سهلا للفخرانى، هو فى الحقيقة ذروة التعبير المسرحى.
قد يظن البعض، أن العودة إلى “نفس” الدور ثلاث مرات، نوع من التكرار المسرحى، لكن الحقيقة مختلفة تماما، الفخرانى فى كل مرة يبدأ من الصفر، حسبما أكد مخرج العرض فى نسخته الجديدة شادى سرور، عندما قال “فاجأنى الفنان يحيى الفخرانى عندما بدأ العمل فى هذا العرض، بأنه حذف من ذهنه ما سبق أن قدمه فى النسختين السابقتين، وبدأ معى من أول جملة “، إذن فالفخرانى لا يبحث عن إعادة العرض، بل عن إعادة خلق الدور، وهو فى كل الحالات لا يقلد “الملك لير” القديم، بل يعيد فهمه.
ما يميز شكسبير، وفقا لما صرح به الفخرانى أنه “نص لا ينتهى”، وأنه كلما قرأه، اكتشف فيه شيئا جديدا، وكأن النص يحتفظ بأسراره لمن يقترب منه بصدق، كما كشف أيضا أن اختياره لترجمة الدكتورة فاطمة موسى جاء بعد 6 أشهر، من البحث بين العديد من الترجمات، لذلك لم يكن اختيارا اعتباطيا، لأن موسى ترجمت النص بروح التمثيل لا بروح اللغة فقط، فكانت الأنسب للمسرح، فى حين كانت هناك ترجمة للدكتور محمد عنانى لكنها كانت الأقرب إلى الشعر، هذا التقدير الكبير للنص دفعه لرفض أى تعديل فيه، مبررا ذلك بأن المسرحية يتم تدريسها فى المدارس والجامعات، فكيف يأتى الطلاب لمشاهدة العرض فيجدونه مختلفا عما يدرسونه.
الغريب أن الفخرانى وقع فى غرام الملك لير، ويأبى أن يخرج من عالمه، ويؤكد ذلك أنه لم يكتف بتقديمه على المسرح ثلاث مرات، بل قدمه أيضا فى الدراما التليفزيونية من خلال مسلسل “دهشة”، عندما اقترح على الكاتب، عبد الرحيم كمال، أن يقرأ النص ويخرج منه بعمل مستوحى منه وقد كان ، لكن برغم النجاح الكبير الذى حققه العمل الدرامى، لكنه يظل عملا مستوحى وليس أصيلا للملك لير، بينما فى المسرح يبدو الفخرانى أكثر التصاقا بالشخصية الأصلية، وأكثر قوة وصدقًا.
سر آخر كشفه المخرج شادى سرور، عن سر تمسك الفخرانى بالملك لير وأيضا لكون هذه المسرحية هى الأكثر خلودا، أنها إنسانية فى المقام الأول تصلح لكل زمان ومكان، كما أن موضوعها هو الأقرب إلى وجدان المصريين، فالملك لير يقوم بتقسيم مملكته، معتقدا بأنه سيجد الوفاء والراحة، فإذا به لا يجد سوى الخيانة من أقرب المقربين منه، ويكتشف أنه وثق فيمن حوله أكثر مما يجب، وهو ما يحدث يوميا فى مجتمعاتنا ويعيشه الكثيرون ممن يسلمون قلبهم، لأقرب الناس لهم، ثم يفيقون على الخيانة.
ربما أجمل ما فى عرض “الملك لير” هذا العام، لم يكن داخل النص فقط والرؤية الجديدة لمخرجه، واستغلال التكنولوجيا فى خلق جو من الإبهار، لكن فى الحالة التى كان عليها الفخرانى، وجعلت الجميع يتوقفون عندها باستغراب ودهشة شديدين، ويشبهون الأمر بالمعجزة، فعلى الرغم من أن هذا الفنان الذى كسر حاجز الثمانين عاما، يسير فى حياته اليومية بعكاز يساعده على الحركة، بل وكان بحاجة إلى من يعاونه للنزول على سلم خشبة المسرح القومى، أثناء المؤتمر الصحفى، الذى سبق العرض بأيام، فإن هذا المشهد يتبدد تماما بمجرد أن تطفأ الأنوار وتبدأ المسرحية، ليفاجأ الناس به يصول ويجول على خشبة المسرح، وكأن شيئا لم يكن، يسير ويعود، يتحرك وحده، يتكئ على الشخصية لا على العكاز، وكأن المسرح هو عصاه السحرية. بل إن الجمهور، فى نهاية العرض، لا يرى فنانا يتوكأ على أحد، بل ملكا يندفع نحو جمهوره ليحييهم، واقفًا، بشغف، وبصوت مملوء بالحياة.
إنها بحق اللحظة التى ينهار فيها منطق الجسد، أمام قوة الفن، لحظة تقول إن الممثل الكبير لا يقاس بعمره، بل بقدرته على إشعال الخشبة، حتى وهو يتكئ عليها، بصورة جعلت الناس لا ترى فيه فقط الممثل، بل ترى الرجل، بتاريخه، بذكرياته، بمكانته فى قلوب محبيه، كما استطاع أن يثبت لهم أن المسرح ليس مجرد عرض، وأنه قد تتغير الأزياء والديكورات والمخرجون، لكن جوهر المسرح لا يتغير.