وجوه عبر الزمن



جمعة المهدى الفزانى القذافى والكتب.. هل كانت القاهرة سرّ الصلة الأعمق (2)

6-10-2025 | 19:36
إلهامى المليجى

لم تكن الحلقة الأولى عن السفير جمعة الفزانى، سوى مدخلٍ إلى عوالم شخصية استثنائية، جمعت بين الدبلوماسى والمثقف والعروبي. توقفنا عند البدايات الأولى للعلاقة، عند لحظة التعارف والحوارات الأولى التى انفتحت على السياسة والتاريخ، وعلى إيمان عميق بمكانة مصر ودورها القومي.

غير أنّ الحكاية لم تنتهِ هناك، فما تبقى من المشاهد أكثر ثراءً واتساعًا، إذ تكشف عن انتقال الفزانى من فضاء الحديث العام إلى ميادين العمل المباشر، حيث تجلت شخصيته كدبلوماسى يزاوج بين الحلم العروبى والرؤية العملية، وكصديق لا تنقطع جذوة التواصل معه، مهما تباعدت الأمكنة والمهام.

المشهد الثانى: جسور القاهرة.. من مكتب السفارة إلى موائد الحوار
ما إن وصل السفير جمعة الفزانى إلى القاهرة لتسلّم مهامه رسميًا كأمين لمكتب متابعة العلاقات العربى الليبى (سفير ليبيا فى القاهرة)، حتى بادر بالاتصال بى ودعانى إلى مكتبه فى مبنى السفارة. هناك، بدأ حديثًا مطولًا عن ضرورة تطوير العلاقات المصرية – الليبية بما يخدم مصالح البلدين. 
وفى سياق الحديث، كشف عن اهتمامه الكبير بالتعاون مع الصحفيين والإعلاميين المصريين فى الصحف الرسمية والحزبية، وأطلعنى على قائمة استلمها من القسم الإعلامى بالسفارة، طالبًا رأيى فى كيفية تفعيلها.
 أبديت له ملاحظة بضرورة تحديثها وتوسيعها، فاستجاب على الفور، وشاركته الرأى بترشيح أسماء أخرى، يمكن أن تدعم برنامجه وتفتح آفاقًا أوسع للتواصل الإعلامي.
من هنا تكثفت لقاءاتنا، إذ اتفقنا على تنظيم لقاء غداء مع مجموعة من أبرز الصحفيين الذين يمكن اعتبارهم رأس الحربة فى مشروعه لتطوير العلاقات الإعلامية بين البلدين. انعقد اللقاء فى أحد مطاعم حى المهندسين، واتسم بأجواء صريحة وشفافة. 
خرج الفزانى بانطباع إيجابى عن النقاش، كما شعر الحاضرون من الصحفيين بجدّية الرجل وحرصه على بناء علاقة تقوم على الوضوح والمصارحة، بعيدًا عن أى لبس أو مواربة. 
وقد اتفق الجميع على أن مصر وليبيا فى حاجة ماسّة لتطوير العلاقات على أسس سليمة، وعلى ضرورة مواجهة محاولات بعض الأقلام لشيطنة الزعيم الليبي.
توالت بعد ذلك لقاءات أخرى مع مجموعات مختلفة من الصحفيين، شاركت فى بعضها، وكانت فرصة لاكتشاف أبعاد جديدة فى شخصية جمعة الفزاني. فقد بدا لى كم هو عروبى حتى النخاع، مؤمن إيمانًا عميقًا بدور مصر كالإقليم، القاعدة للمشروع العربي. 
وأدركت أن هذا الوعى لم يأتِ عرضًا، بل تَشكّل منذ أن كان طالبًا فى المرحلة الثانوية، وتعمّق مع التحاقه بالجامعة وانخراطه فى صفوف القوميين والناصريين. لم يتردد فى المشاركة فى التظاهرات الداعمة لجمال عبد الناصر عقب نكسة 1967، وهو ما أدى إلى اعتقاله قبل أن يفرج عنه قادة ثورة الفاتح من سبتمبر 1969.
كانت حواراتنا الممتدة، فى هذه المرحلة، تسهم فى أن يتعرف كل منا إلى الآخر أكثر فأكثر، وأن تنمو بيننا علاقة أخذت مع الوقت فى التعمق، حتى غدت شراكة فكرية وإنسانية راسخة.

المشهد الثالث: رحلة الكتب من الأسواق والمكتبات حتى مكتب القذافى
بعد شهور من التواصل المكثف، باغتنى السفير جمعة الفزانى بطلب بدا غريبًا فى ظاهره، لكنه حمل الكثير من العمق فى جوهره. 
قال لى بابتسامة ودودة: «أود أن تتفرغ يومى الجمعة والسبت، فلدينا مهمة متعددة الأبعاد». 
وحين استفسرت عن طبيعة المهمة، وجدتنى أمام رحلة من النوع الذى يلامس الروح والفكر معًا.
كنا نقضى نهار الجمعة فى جولة مطوّلة بين أسواق الكتب القديمة، نبدأ من سور الأزبكية الذى انتقل إلى العتبة، ونغوص بين رفوفه وأكوامه بحثًا عن كنوز نادرة، كتب اندثرت من المكتبات الحديثة، لكنها لا تزال تحمل قيمة فكرية وسياسية وأدبية لا تقدر بثمن.
 بعد أسابيع قليلة، اصطحبنى إلى سوق أخرى تحت كوبرى أبو الريش فى السيدة زينب، حيث كانت الكتب تفترش الأرض قبل أن تتحول لاحقًا إلى أكشاك ثابتة. 
فى تلك الجولات، كان الفزانى يبدو كطفل يكتشف عالمًا سحريًا، تلمع عيناه بالبهجة كلما عثر على كتاب نادر. 
أذكر أنه وجد ذات مرة نسخة من كتاب يتضمن برنامج حزب الإصلاح الوطنى الذى أسسه عبدالله عزام فى ليبيا، وأخذ يحدثنى طويلًا عن ذلك الحزب الذى لم يدم كثيرًا، بعد أن اضطر مؤسسه لمغادرة ليبيا والانضمام إلى السنوسى والملك إدريس فى المنفى بمصر. 
ورغم قصر عمره، ترك الحزب بصمته فى التاريخ الوطنى الليبى وفى مسيرة مقاومة الاحتلال الإيطالي.
ولم تكن هذه الجولات مجرد بحث عن الكتب، بل كانت أيضًا فضاءات للنقاش العميق. كان الفزانى أول من نبهنى إلى المفكر جمال حمدان، فوقفنا طويلًا أمام موسوعته المهمة شخصية مصر بأجزائها الأربعة، نحلل ونفكك ونقارن.
أما يوم السبت، فكان مخصصًا لزيارة المكتبات الحديثة بحثًا عن أحدث الإصدارات فى الفكر والتاريخ والفلسفة. وكان الفزانى يشترى نسخة من كل كتاب جديد، لنتقاسمها فيما بيننا: أقرأ بعضها وأعدّ ملخصًا مركزًا لمحتواها، بينما يتولى هو إرسال هذه الملخصات والكتب إلى “مكتب القائد”، أى إلى معمر القذافى نفسه. ولم يكن الأمر بروتوكولًا عابرًا، بل تقليد ثابت يحرص عليه القذافى، إذ كان الرد يصل سريعًا بطلب إرسال نسخ إضافية من الكتب التى تثير اهتمامه.
هنا، بدأت أرى بعينيّ حقيقة لم تُكشف من قبل: القذافى قارئ نهم، يتابع الجديد من القاهرة بدقة، ويحوّل مكتب الفزانى إلى جسر يعبر عليه الكتاب من أسواق القاهرة ومكتباتها إلى عقل طرابلس. فى تلك اللحظة تساءلت بينى وبين نفسي: هل كانت كتب القاهرة هى السرّ الأعمق فى علاقة القذافى بجمعة الفزاني؟
لقد أدركت آنذاك أن ما جمع بين القذافى والفزانى لم يكن مجرد منصب دبلوماسى أو تكليف رسمى، بل رابط فكرى وثقافى عززته رحلة الكتب. كانت القراءة بالنسبة للقذافى أداة لفهم العالم، وبالنسبة للفزانى رسالة يؤديها بإخلاص، وبالنسبة لى تجربة تكشف أن الكلمة – فى صورتها المطبوعة – قد تكون أقوى من كل ما عداه من أدوات السياسة.
خاتمة الجزء الثانى.. وما زال للحديث بقية
بين أروقة السفارة وموائد الحوار، وبين أسواق الكتب القديمة ومكتبات الإصدارات الحديثة، بدا جمعة الفزانى دبلوماسيًا مثقفًا يجمع بين السياسة والكلمة، ويرى فى الفكر سلاحًا لا يقل شأنًا عن الدبلوماسية.

لقد كان هذا الجزء رحلة مزدوجة فى عوالم الإعلام والمعرفة، حيث الحوار فعل مقاومة والقراءة فعل تنوير. تجارب لم تكن عابرة، بل دروس ممتدة فى الجمع بين الدبلوماسية والإنسانية.
الخاتمة إذا كان الجزء الثانى قد كشف هذه الملامح، فإن الجزء الثالث سيأخذنا إلى قلب الملفات السياسية الأكثر تعقيدًا، حيث تُختبر المواقف وتتكشف المعادن. هناك سنواصل الرحلة مع الفزانى لنقرأ فصولًا أعمق وأغنى.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام