ثقافة



نظمت الهيئة الوطنية للإعلام حفل توقيع له.. «إسلام بلا أحزاب» رؤية مستنيرة لرجاء النقاش

6-10-2025 | 20:22
⢴ عزمى عبد الوهاب

انتشرت أفكار مظلمة بيننا باسم الإسلام وأصبحت ستارا للنصب والعنف ولا مكان لها فى الإسلام الحقيقى

الرأى الثقافى العام فى مصر كان يرى أن العلاج الصحيح لأى خطأ فكرى هو الرد عليه بالفكر وحده وليس بأى إجراء قضائى

هذا الدين أقوى من أن يؤثر عليه أو يعصف به ناقد له أو باحث يأخذ بظواهر الأمور ويتعجل فى إصدار الأحكام

أحمد بهجت يكتب مقالا تحريضيا ضد رواية «مسافة فى عقل رجل» فتقضى المحكمة على المؤلف بالسجن 8 سنوات

أمرت الدولة بإيقاف قرار المصادرة وبقيت مؤلفات الدكتور محمد سعيد العشماوى حرة طليقة بين الناس دون قيود

فى الذكرى الحادية والتسعين، لميلاد الناقد الراحل رجاء النقاش (3 سبتمبر 1934)، تصدر الهيئة الوطنية للإعلام برئاسة الكاتب الصحفى أحمد المسلمانى، باكورة إصدارات سلسلة «كتاب ماسبيرو» والكتاب بعنوان «إسلام بلا أحزاب»، ويضم مقالات تم نشرها فى صحف ومجلات فى تسعينيات القرن الماضى، ولم تنشر من قبل فى كتاب، وكلها يركز على الفهم الصحيح للإسلام فى صراع الغرب معه، وعلاقته بحرية الرأى والتعبير، من خلال معارك خاضها كبار كتابنا ومفكرينا منذ عام 1926 الذى استهل بمعركة الشعر الجاهلى.
من المفارقات التى التقطها الكاتب أحمد المسلمانى فى تقديمه للكتاب، الذى تزامن إصداره مع تنظيم حفل توقيع له، الأسبوع الماضى، فى حضور أسرة النقاش، أن مجلة الإذاعة والتليفزيون – التى يترأس تحريرها الزميل خالد حنفى – تحتفل هذا العام بعيدها التسعين، ويحتل كتاب رجاء النقاش رقم 90 فى سلسلة الكتب، التى توالى صدورها عبر عقود.

فى هذا الكتاب – كما يقول المسلمانى – يرى رجاء النقاش أن الحوار هو الحل، وأن الإسلام تهدده جبهتان خطيرتان: واحدة متطرفة ترفع رايته، لكن تلحق به وبالأمة الإسلامية أشد الأضرار، وثانية معادية تكيد للإسلام وتتآمر عليه ولا تريد حاضرا ولا مستقبلا لهذا الدين، لذلك يمنحنا «النقاش» مجالا لقراءة أسماء مثل الإمام محمد عبده وعبد العزيز جاويش وغيرهما للرد على فتاوى التيارات المتشددة، التى تضيق على الناس حياتهم، وتضعهم فى حالة استنفار دائم، فى غير محله.
يقدم «النقاش» قراءة فى كتاب الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون وعنوانه «الفرصة السانحة» وصدر عام 1992 مصحوبا باستعراض محطات رئيسية فى الفكر الإسلامى فى النصف الأول  من القرن العشرين، ففى هذا الكتاب يؤكد نيكسون أن الغرب قد انتهى من معركته ضد الشيوعية، وأن القرن الحادى والعشرين هو «قرن المواجهة بين الغرب والإسلام».
هذا المعنى جاء بوضوح فى كتاب نيكسون، وعبر عنه تعبيرا مباشرا لا خفاء فيه، فالذين يرسمون السياسات الغربية، ويخططون لها من أمثال نيكسون لا يعرفون الالتواء ولا التعابير الإنشائية، لكن «النقاش» يتساءل عن معنى الإسلام الذى يستعد الغرب لمواجهته فى القرن الحادى والعشرين، والأهم من ذلك ما معنى الإسلام، الذى نحمله فى عقولنا نحن، لنواجه به التحديات الصعبة فى المستقبل؟
المعنى السائد للإسلام هو معنى يسيطر عليه الجمود العقلي، والإفراط الشديد فى التوقف عند المسائل الثانوية والفروع، التى لا تتصل بجوهر الدين، وهذا الموقف وحده – كما يرى النقاش – يكفى لهزيمتنا فى معركة الحياة، حتى ولو لم يفكر الغرب فى أن يواجهنا ويتحدانا، ويدخل معنا معركة حاسمة.
كان الإمام محمد عبده يمتلك جرأة نادرة، إذ قال: «إن بإمكاننا أن نعرف كثيرا من شئون الإسلام وتاريخه من الكتب الإفرنجية، فإن فيها ما لا نجده فى كتبنا، إن العالم المسلم لا يمكنه أن يخدم الإسلام من كل وجه يقضيه حال هذا العصر، إلا إذا كان متقنا للغة من اللغات الأوروبية، تمكنه من الاطلاع على ما كتب أهلها فى الإسلام، من مدح وذم، وغير ذلك من العلوم».
يستعرض «النقاش» ثمار ما زرع الإمام، فتلاميذه كانوا يتحدثون عن الإسلام بلغة قوية وفهم صحيح، وهكذا كان المسلمون يفكرون فى النصف الأول من القرن العشرين، وما فعل النقاش سوى تقديم نماذج مضيئة من أفكارهم الواعية الجريئة، ولعل فى ذلك ما يجعلنا نخجل كثيرا من بعض الأفكار، التى انتشرت بيننا باسم الإسلام، وأصبحت ستارا للنصب والعنف، وترديد أفكار مظلمة لا مكان لها فى الإسلام الحقيقي.
لم يبتعد «النقاش» كثيرا عما طرحه فى الفصل الأول من أفكار حول صحيح الدين، ففى الفصل الثانى يتساءل: لماذا نصادر ولا نحاور؟ وبالطبع لا بد أن يتوقف أمام قضية طه حسين والشعر الجاهلي، فطه حسين لم يتعرض لتحقيق النيابة فقط، بل تعرض للنقد العلمى الواسع من كبار الباحثين والكتاب فى ذلك العصر.
ظهرت سبعة كتب فى الرد عليه، وهذه الكتب – كما يوضح النقاش – هى التى حسمت المعركة، ولم تحسمها أبدا إجراءات النيابة أو الدعوة إلى مصادرة الكتاب، ذلك أن الرأى الثقافى العام فى مصر فى ذلك الحين، كان يرى أن العلاج الصحيح لأى خطأ فكري، هو الرد عليه بالفكر وحده، وليس بأى إجراء قضائى أو بوليسى من أى نوع.
هذه هى الطريقة التى واجهت بها حياتنا الثقافية منذ عشرات السنين، وعندما نراجع قضية الشعر الجاهلى، نجد هناك ملاحظات جديرة بأن نتذكرها الآن، من هذه الملاحظات أن السلطة التنفيذية ممثلة فى وزير المعارف، الذى كان مسئولا عن الجامعة، التى كان طه حسين أستاذا فيها، لم يقبل أبدا أن يتخذ قرارا بفصله من عمله، أو حتى وقفه مؤقتا عن العمل، وألقى بيانا قال فيه: «إننا نطمع أن تكون الجامعة معهدا طلقا للبحث العلمى الصحيح».
برغم أن سعد زغلول فى ذلك الحين اعترض على الكتاب، وكان أكبر كاتب وفدى فى ذلك الوقت هو العقاد، وكان طه حسين على خصومة كبيرة مع الوفد، فإن العقاد، وكان عضوا فى مجلس النواب، وقف بجانب طه حسين، ودافع بدوره عن حرية البحث العلمي، ووقف ضد الحملة التى طالبت بفصل طه حسين من الجامعة، ومعاقبته على آرائه الفكرية، التى أثارت الغضب والاعتراض.
كان المناخ الفكرى الحر هو وحده، الذى يعالج جميع القضايا المشابهة وقد توالت هذه القضايا والأزمات، وكان الحل المثالى والصحيح – كما يقر النقاش – هو الحوار وليس المصادرة أو العقوبة القضائية، ثم يعود ويتناول بالشرح والتفسير عددا من الكتب، التى أثارت جدلا وتفاعلا فى حينها.
من هذه الكتب «المرأة فى الإسلام» وكان رسالة علمية نال بها منصور فهمى شهادة الدكتوراه من باريس سنة 1913، وامتلأت الرسالة بالطعن فى الشريعة الإسلامية، ويورد النقاش بعض الردود على تلك الرسالة، أحد هؤلاء المفكر محمد لطفى جمعة، وكان رده ردا علميا دقيقا شاملا، لم يستطع منصور معه مواصلة الحوار، فلجأ إلى الصمت، وانسحب من الحياة العامة فترة من الوقت، ثم عاد بعد ذلك ليكتب ويقوم بالتدريس فى الجامعة، ويصبح مديرا لدار الكتب، ويتولى مناصب أخرى، وقد تغير فكريا، وأدرك حقيقة ما وقع فيه من أخطاء فى رسالته العلمية، وأصبح فى كتاباته الجديدة من أكثر دعاة الإسلام غيرة.
كل ذلك حدث دون أن يتعرض منصور فهمى للمحاكمة، كانت الوسيلة الحاسمة فى مواجهة هذا الفكر هى الحوار والرد العلمى المدروس، ولم تكن هناك حاجة إلى المصادرة أو المحاكمة، لأن هذا الدين أقوى من أن يؤثر عليه أو يعصف به ناقد له، أو باحث يأخذ بظواهر الأمور ويتعجل فى إصدار الأحكام.
نصل بعد ذلك إلى حالات أكثر وضوحا، ففى الثلاثينيات من القرن العشرين أصدر إسماعيل أدهم كتابه «لماذا أنا ملحد؟» ووجد هذا الكتاب من يطبعه ويوزعه، دون أن يهتز المجتمع المصري، ولم تصدر الدولة قرارا بمحاكمة المؤلف، لكن كاتبا إسلاميا هو، محمد فريد وجدى، أصدر كتابا يرد فيه على  إسماعيل أدهم بعنوان «لماذا أنا مؤمن؟»، وكان أدهم شخصية غامضة، امتلك جرأة أن يعلن إلحاده، ووجد من يتصدى له بالفكر والمحاورة.
يستعرض النقاش أيضا كتابات شبلى شميل، وكان مؤمنا بنظرية التطور، كذلك كتاب الفن القصصى فى القرآن لمحمد أحمد خلف الله، وكيف رد عليه الشيخ محمود شلتوت (شيخ الأزهر فيما بعد) والخلاصة، أن ما يقدمه رجاء النقاش يمثل «رحلة تصور مدى الحرية الفكرية، التى كنا نتمتع بها فى مراحل مختلفة من تاريخنا المعاصر، ولم تكن هذه الحرية مجرد متعة لنا أو زينة يتزين بها مجتمعنا، بل كانت هذه الحرية حلا حقيقيا لأى تجاوز فكري، حتى لو كان هذا التجاوز يمس الدين».
ما يدعو للدهشة بعد ذلك وبعد تلك الرحلة الواعية، أن طالب البعض بمصادرة كتب المستشار محمد سعيد العشماوى، وهى «الإسلام السياسى» و«الخلافة الإسلامية» و«أصول الشريعة» وقد تم التحفظ على هذه الكتب وغيرها، رغم أن التجارب السابقة أثبتت أن الحوار لا المصادرة هو الحل، وأنه لا علاج للفكر إلا بالفكر، وأن عقائد الناس ليست أفكارا هشة وقابلة للكسر بسهولة، فالمصادرة سلاح العاجز، ولا جدوى منه.
يستشهد الكاتب بمقولات من، رسول حمزاتوف، فى كتابه «داغستان بلدي» التى يرددها المثقفون، ومع ذلك بعضهم يلعب دورا كبيرا فى المصادرة، لنتأمل أولا عبارات حمزاتوف: «لقد خسرنا الكثير من المعارك بسبب السيف، لكننا لم نخسر معركة واحدة بسبب الكتاب» ويقول  على لسان بطل العمل الذى طلب منه أن يلقى بكتب أعدائه فى النهر: «إن هذه الكتب لم تطلق النار علينا، ولم تحرق قرانا، ولم تقتل شعبنا، من يفضح الكتاب يفضحه».
لماذا نصادر ولا نحاور؟ هذا هو السؤال الذى يوجهه رجاء النقاش للجميع، قد تندهش أن بين من يطالبون بالمصادرة أهل الرأى الحر فى هذه البلاد، ويضرب مثلا بكتاب «مسافة فى عقل رجل» لعلاء حامد، الصادر عام 1988، وهو الكتاب الذى أثارت مصادرته ومحاكمة مؤلفه ضجة محلية وعالمية، هذا الكتاب صدر وبقى فى الأسواق شهورا، حتى قام الكاتب أحمد بهجت بكتابة مقال عام 1990، كان عنوانه «بلاغ إلى النائب العام» هاجم فيه الكتاب وطالب النيابة بالتدخل، وتدخلت النيابة بالفعل وصادرت الكتاب وقدمت المؤلف للمحاكمة، وحكم عليه القضاء بالسجن لمدة ثمانى سنوات.
جاءت المبادرة فى الدعوة إلى المصادرة والمحاكمة من كاتب معرف ومسئول، واستجابت الدولة لندائه أو بلاغه، وانتهى الأمر بمصادرة الكتاب، والحكم على المؤلف بالسجن، وكان المفروض أن يتم تنفيذ الحكم بعد التصديق عليه، لكن الدولة آثرت ألا تصدق على الحكم، وبذلك أصبح غير قابل للنفاذ.
يوضح النقاش أن هذا نموذج للمصادرة، كان موقف الدولة فيه أفضل بكثير من موقف الكاتب، وهناك نموذج آخر يتصل بما حدث لمؤلفات الدكتور سعيد العشماوي، فقد قامت لجنة غير مختصة من الأزهر بمصادرة هذه الكتب، وهذه اللجنة تابعة للأزهر، والأزهر جهة علمية مهمتها البحث والتفكير والحوار، هنا خرجت لجنة الأزهر عن وظيفتها الأصلية والوحيدة، فماذا فعلت الدولة؟ لقد أمرت بإيقاف قرار المصادرة فتوقف القرار، وبقيت مؤلفات الدكتور العشماوى حرة طليقة، تسعى بين الناس دون قيود.
عندما أصدر خالد محمد خالد كتابه الأول الشهير «من هنا نبدأ» عام 1950، ثارت ضجة كبيرة حوله، وقام الشيخ الغزالى بالرد بكتاب آخر «من هنا نعلم» وأصبح العقل العربى حرا يدرس ويفكر باستقلال، ثم يختار ما هو أقوى فى حجته، وانتهى الأمر، وهدأت الضجة.
هناك وقائع أخرى شهيرة لم يأت على ذكرها الراحل رجاء النقاش، وهى وقائع كان المحرض عليها كتَّابا، فرواية نجيب محفوظ «أولاد حارتنا، كانت «تيلة التفجير» فى يد كاتب بجريدة الجمهورية، ثم تدخل الأزهر على الخط، الذى انتهى بمحاولة اغتيال بائسة للكاتب الكبير، أمام بيته على كورنيش النيل.
بعد عقود من كتابة «أولاد حارتنا» التى صودرت بالطبع، وبات الكلام عنها محرما لسنوات طوال، هناك واقعة خاصة برواية «وليمة لأعشاب البحر» للروائى السورى حيدر حيدر، فقد بدأت الطلقة الأولى فى مقال نشر بجريدة أسبوعية، وتلقف كرة النار أستاذ بجامعة الأزهر، شحن الطلاب، ثم كانت قنابل الدخان، تلون سماء الجامعة آنذاك.
برغم هذا قد يقول قائل: إن المساجلات الفكرية والأدبية كانت نتيجة المناخ الحر، الذي  كان يتمتع به المصريون تحت حكم الاحتلال والعهد الملكي، وهى المقولة المغلوطة التى يفندها النقاش، ففى هذا العصر نفى محمد عبده، وعبد الله النديم أغلقت مجلاته وصودرت كتبه، ومات غريبا فى تركيا.
 وتعرض الزعيم الوطنى محمد فريد للنفى سنة 1910، بسبب مقدمة كتبها لديوان «وطنيتي» للشاعر على الغاياتى، ونفى الملك فؤاد الشاعر بيرم التونسي، وسحب منه الجنسية المصرية، وفى سنة 1930، دخل الكاتب  الكبير عباس محمود العقاد السجن لمدة تسعة شهور، بسبب جملة قالها فى البرلمان، الذى كان عضوا فيه، وفى مرحلة مختلفة من حياته صودر كتاب طه حسين «المعذبون فى الأرض».
فى سنة 1930، طرد طه حسين من عمله عميدا لكلية الآداب، بسبب معارضته لحكومة إسماعيل صدقى التى ألغت دستور 1923، وحكم البلاد بالحديد والنار، وفى حكومته الثانية سنة 1946، قام باعتقال العشرات من المفكرين والأدباء والصحفيين، تحت ستار مكافحة الشيوعية، ولم يسلم من يده كاتب معتدل مثل محمد زكى عبد القادر، وكتب سلامة موسى فى ثلاثينيات القرن العشرين يقول: «لقد تم إغلاق ثلاث جرائد مصرية، هذه الجرائد هى «البلاغ» و»الكوكب» و»المصري».
يتناول النقاش قضايا مختلفة حول الإسلام، ودائما ما يجعلك تتذكر جملة فى أحد مقالاته: «إن ما تفعلونه يا سادة ليس من الإسلام فى شيء» وضمن ما يقول: «بدأنا نرى عبثا متصلا فى حياتنا، يواجهنا كل يوم، عندما نرى سيدة من أهلنا، ترفض مصافحة أقرب الناس إليها، إذا كان رجلا قائلة: أنا أسلم ولا أصافح.
 
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام