فى ذاكرة الأوطان، هناك أيامٌ من الذهب لا تشيخ، بل تظل تتجددُ مع كلِّ جيلٍ لتُذكِّرهُ بأن عِزّةَ الأوطان لا تُوهب من أحدٍ، بل تُنتزع بالعرق والدماء، وأن النصر لا يُولد من فراغ، بل من إرادةٍ صلبة ووعيٍ حقيقي. ويوم السادس من أكتوبر عام 1973، هو واحدٌ من تلك الأيام التى تختصر رحلة شعبٍ بأكمله، من جرحِ هزيمةٍ غائر إلى فجر انتصار، ومن انكسارٍ مرير إلى عبورٍ مجيد، ذلك الذى غيّر وجه المنطقة وأعاد لمصر هيبتها ومكانتها بين الأمم. لقد كانت نكسة 1967 صدمةً قاسيةً، كسرت التوازن وأدمت الكبرياء، ولكنها فى الوقت نفسه أيقظت فى المصريين روح التحدى والبناء. أعاد الجيش المصرى ترتيب صفوفه، وأُعيدت صياغة العقيدة القتالية من جديد، فانطلقت مرحلة إعداد طويلة فى صمت ووعى وعرق، وفى فترة من أصعب الفترات، وبلا ضجيج وبلا استعراض. ومن بين ركام الهزيمة بدأت ملامح التخطيط تتشكل بخيوطٍ دقيقة، تتقاطع فيها العلوم العسكرية مع الحسابات النفسية، ويقودها إيمانٌ بأن النصر القادم يجب أن يكون بحجم الكرامة التى فُقدت. كان التمويه الإستراتيجى هو البطل الخفى فى مقدمة الحرب، فقد أدركت القيادة المصرية أن المفاجأة هى نصف النصر، وأن خداع العدو لا يقل أهمية عن مواجهته. نفذ الجيش المصرى العديد من المناورات الجوية والبرية غرب القناة، كان يظنها الجانب الإسرائيلى بدايةً لحرب ليستنفر قواته ثم يتوقف كل شيء فاعتادها فى نهاية الأمر، كما أطلق الجيش المصرى إجازات مدروسة للضباط والجنود ليبدو المشهد طبيعياً، بل وسمح لأعداد كبيرة بأداء العمرة، ليُزيد من انطباع العدو بحالة اللاحرب. وفى ذات الوقت، كانت معدات الجسور تُنقل سراً الى الجبهة ليلاً، وتُدفن الأنابيب التى ستحمل مدافع المياه فى الرمال استعداداً لفتح ثغرات فى خط بارليف. كما أن الرئيس الراحل أنور السادات قد أشرف بنفسه على خطة إعلامية نفسية بارعة، فسمح بنشر مقالات صحفية موجهة تحمل نغمة الإحباط واليأس، وتدَّعى بأن مصر عالقة فى حالة “اللاسلم واللاحرب”، فابتلع الإسرائيليون الطعم وناموا على وهم صنعه لهم المصريون. وفى الثانية ظُهراً من يوم السادس من أكتوبر 1973، وبينما كانت عيون العدو تراقب ماكانوا دوماً يظنونه تدريباً جوياً روتينياً مملاً اعتادوه، انطلقت نحو مائتى طائرة مقاتلة مصرية فى موجاتٍ متتابعة من قواعدها تحلِّق بانتظامٍ مألوف قبل أن تستدير فجأةً لتتجه شرقاً نحو سيناء لتنفذ الضربة الجوية الأولى فى تاريخ العسكرية العربية ضد الإسرائيليين، ولتدمر للعدو مراكز قيادته ومطاراته الميدانية ومنصات الصواريخ وتشل توازنه قبل أن يدرك ما يحدث. كانت الضربة الأولى خاطفةً وموفقةً وموجعةً للعدو إلى حد الإعجاز مما أعاد للمصريين ثقتهم بأنفسهم وبأن النصر بات ممكناً, وبهذه الضربة، قد أعلنت مصر للعالم أن ساعة العبور قد بدأت، وكانت لحظة عودة الكرامة المصرية من جديد. تلى الضربةَ الجوية انطلاقُ موجاتٍ هائلة من قوات الصاعقة، لتعبر قناة السويس فى قوارب مطاطية تحت غطاء مدفعى كثيف، أحال مواقع العدو إلى كُتلٍ من الجمر والنار، فى مشهدٍ خالدٍ يُعانق الخيال. وفى صورةٍ ستظل محفورة فى وجدان كل مصرى وكل عربى حر وكل من آمن بالحق وحرية الأوطان، اندفعت خراطيم المياه المصرية لتفتح ثغراتٍ فى الساتر الترابى والتى تعجز عنها القنابل، لتتحول تلك الرمال الصلبة إلى بواباتٍ للنصر مفتوحة للكبارى العائمة التى أنشأها المهندسون العسكريون لتعبر فوقها وعبر الثغرات المدرعات والمركبات والدبابات المصرية فى لحظةٍ من الثأر واسترداد الكرامة خلدها التاريخ العسكرى. إن المقاتل المصرى فى حرب أكتوبر لم يكن مجرد حامل لسلاحه بقدر ما كان حاملاً لذاكرة أمة وشرف أجيال، وكانت عيونه تبرق بإيمانه أنه لا يدافع عن أرضٍ سُلبت وحسب بقدر ما كان يزودُ عن هويةِ وطن. كانت قوة الروح تفوق كل سلاح، وكان الانضباط العسكرى الذى صُقل خلال سنوات الإعداد هو سر المعجزة التى حولت المستحيل الى ممكن، والممكن إلى نصرٍ أذهل العالم. لقد تحولت حربُ السادس من أكتوبر بكل معاييرها من إعدادٍ وسرية وحنكة وتنفيذ وروحٍ قتالية استثنائية إلى معيارٍ”Benchmark تُقاس به الجيوش وكفاءتها وخططها فى المعاهد العسكرية شرقاً وغرباً، حيث تُدرَّس هذه الحرب باعتبارها نموذجاً متكاملاً فى التخطيط والتمويه، وفى المزج بين الذكاء العسكرى والتفوق النفسي. لم يتوقف أثر حرب أكتوبر عند حدودها الميدانية، بل امتدت سياسياً لتكون هى المفتاح إلى سلامٍ مبنى على القوة والكرامة، وليس من الضعف أو الإذعان، حيث ولدت اتفاقية كامب ديڤيد للسلام من رحم هذه الحرب، التى ظلت ذكراها أيضاً ضمانة لاستمرارية السلام أمام جموح بعض القوى اليمينية المتطرفة فى الداخل الإسرائيلى، لتُذكِّرهم دائماً بمغبة الجموح والتعدى على حقوق المصريين، وإذا أضفنا الى هذا حقيقة تضاعُف قوة الجيش المصرى عشرات المرات منذ حرب أكتوبر، فإننا أمام ضمانة قوية للسلام فى المنطقة بأسرها. اليوم وبعد مرور اثنين وخمسين عاماً على هذه الحرب، يبقى السادس من أكتوبر شاهداً لا يشيخ على عبقرية الإنسان المصرى وصلابته - جندياً وضابطاً وقائداً ومواطناً- الذى جعل من هذه الحرب درعاً نفسية، وردعاً إستراتيجية فى آنٍ واحد، ورسالةً قوية لا تُخطئها إسرائيل ولا العالم كله بأن الجيش المصرى اليوم هو أقوى وأحدث وأعمقَ تجربةً مما كان عليه بالأمس، وأن من عبر القناة ذات يومٍ لا يمكن أن ينهزم أبداً. إن السادس من أكتوبر ليس مجرد ذكرى عسكرية، بل كان لحظةَ وعيٍ وولادةَ أمل جديد لأمة قررت أن تُعيد تعريف المستحيل، إنه اليوم الذى أثبت فيه المصريون أن الإيمان أقوى من الحديد، وأن العزيمة الصادقة تصنع المعجزات. وسيظل هذا اليوم العظيم معياراً خالداً للعسكرية والحروب، ودليلاً على أن الإيمان بالحق، حين يصاحبه العلم والتخطيط والإرادة، قادرٌ على أن يغير وجه التاريخ إلى الأبد. رحم الله شهداء الوطن ..