إذا كان جمعة الفزانى قد ظهر لنا فى الجزأين السابقين قارئًا نَهِمًا، يتنقّل بين أسواق الكتب ومجالس الفكر كرحّالةٍ فى فضاءات المعرفة، فإننا فى هذا الجزء نراه فى صورة أخرى لا تقل بهاءً ولا عمقًا، صورة الدبلوماسى المبدع، الذى رفض أن تبقى الكلمة حبيسة الأوراق، أو أن يظل الحلم معلقًا فى فضاء الشعارات. عنده تتحول الكلمة إلى فعل، والفكرة إلى جسد، والحلم إلى مؤسسة تنبض بالحياة، تتجاوز حدود الجغرافيا لتجمع القلوب والعقول.
لقد أدرك الفزانى أن الثقافة بلا سياسة تفقد نصف قوتها، وأن الدبلوماسية بلا فكرٍ حيّ تفقد نصف روحها، فجمع بين الاثنين فى معادلة فريدة: أن يكون اللقاء إبداعًا، وأن يكون الحلم ذاكرةً حيّة، تتجدد مع كل جيل. ومن هنا، بدا طبيعيًا أن يمدّ بصره إلى التاريخ، ليستدعى منه لحظة مفصلية كـ ميثاق طرابلس 1969، لا كذكرى عابرة، بل كعهد حى يسعى لإحيائه من جديد فى قلب القاهرة. المشهد الرابع: الميثاق الحى… من طرابلس إلى الأهرام فى أمسية قاهرية تتداخل فيها أصداء الحاضر مع صدى التاريخ، التفت إليّ السفير جمعة الفزانى فجأة، وسؤاله يخرج من أعماق ذاكرة العرب: ـ هل تذكر ميثاق طرابلس الذى وقّعه الزعيم جمال عبد الناصر والعقيد معمر القذافى، والرئيس جعفر النميرى فى أواخر عام 1969؟ كان سؤاله كمن يزيح غبار الزمن عن لحظة كبرى. أجبت بالإيجاب، واستدعيت مشهد الجماهير الليبية التى خرجت بالملايين، حتى وصف عبد الناصر الاستقبال قائلًا: «لقد كان من أعظم اللقاءات التى رأيتها فى حياتى». ابتسم الفزانى وقال: لقد كانت ثورتنا الفتية قد صفّت القواعد الأجنبية، فجاء اللقاء الثلاثى ليشدّ أزر الجبهة المعادية للإمبريالية، والعدو الصهيونى الذى كان يحتل أرضًا عربية فى مصر وسوريا والأردن وفلسطين. قلت متنهّدًا: لكن الميثاق صار من الماضى، فقد خطف الموت عبد الناصر بعد أقل من عام على توقيعه. اعتدل الفزانى فى جلسته وقال بثقة: الموت غيّب الرجل، لكن الميثاق لم يمت. وما دام لم يُلغَ، فهو حى وسارٍ، إن العهود لا تُدفن بموت أصحابها، بل تظل نداءً للأمة. فلنُحيِ هذا الميثاق بالفعل الشعبى والفكري، ولنجعل منه جسرًا إلى المستقبل. ومنذ تلك اللحظة، بدأت لقاءاتنا تتكثف، وشرعنا فى التحضير لندوة كبرى تُعيد الميثاق إلى الواجهة، وفى قاعة إبراهيم نافع بمبنى الأهرام، احتشدت نخبة من القادة والمفكرين: من السودان حضر الصادق المهدى، ومن مصر جاء الدكتور مصطفى الفقى، ومن ليبيا شارك الدكتور على فهمى خشيم، والدكتور أحمد إبراهيم الفقيه، وإلى جوارهم رجال أعمال وإعلاميون، تولّى الأستاذ أسامة سرايا، رئيس تحرير الأهرام العربى، إدارة الأمسية، فكان التنظيم محكمًا والنجاح باهرًا. خرجنا من تلك الليلة التاريخية بشعور عميق: أن الميثاق لم يمت، وأن استدعاءه اليوم يفتح الباب لمبادرات جديدة، تُعيد للفكرة بريقها وللأمة ذاكرتها، لا كذكرى عابرة، بل كإرث حيّ يتجدد كلما وجد من يحمله. المشهد الخامس: من الندوة إلى المنتدى… مأسسة الحلم لم يكن النجاح الباهر للندوة مجرّد حدث عابر، بل كان بمثابة شرارة أشعلت الرغبة فى تحويل اللحظة إلى مؤسسة. ومن هنا بادر جمعة الفزاني، بعين الدبلوماسى ورؤية المثقف، إلى طرح فكرة تأسيس منتدى المثلث الذهبي، ليكون بيتًا جامعًا للمفكرين والسياسيين والصحفيين من مصر وليبيا والسودان. لم يكتفِ بإطلاق الفكرة، بل انغمس فى تفاصيلها كمن يبنى بيتًا بيديه. حوّل أعلى كراج السفارة إلى مقر أنيق للمنتدى؛ سقف جديد، صالة رحبة، غرف متكاملة، مطبخ وحمام. حتى الطرائف لم تغب: فقد اعترضت الإعلامية اللامعة نجوى إبراهيم على أن البناء الجديد يحجب نافذتها، فكان رد الفزانى بروح الدبلوماسية حلًا وسطًا يرضى الجميع، ويبقى على حلمه حيًّا. وما هى إلا أسابيع حتى بات المقر جاهزًا، يستقبل رواده وأفكاره. وفى الاجتماع التأسيسى، التأمت نخبة من القامات: الزعيم السودانى الصادق المهدى، الدكتور مصطفى الفقى، السفير أحمد قذاف الدم، ومعهم أعلام الفكر والثقافة من البلدان الثلاثة. اختيرت لجنة تيسيرية تمثل مصر وليبيا والسودان، وكأن المنتدى ولد على صورة المثلث ذاته، متوازن الأضلاع، متين الجذور. ومنذ ذلك اليوم، تحوّل المنتدى إلى واحةٍ نابضة: ندوات سياسية وفكرية وثقافية، أمسيات فنية أضاءت لياليه، ولقاءات رمضانية عابقة بالتواشيح والأهازيج، جعلت منه فضاءً يزاوج بين الروح والفكر. أراد الفزانى أن يضفى عليه طابعا رسميا، فاختار أن يستقبل فيه المهنئين بالعيد، ليغدو المنتدى ليس مجرد مبادرة، بل عنوان للعلاقات الثلاثية وروحها المتجددة. على أعتاب الخاتمة وهكذا أسدل الجزء الثالث ستاره، على مشهدٍ مفعم بالحياة، حيث لم يكن جمعة الفزانى مجرد سفيرٍ يؤدى مهام منصبه، بل كان جسرًا حيًّا تعبر فوقه الأحلام بين طرابلس والخرطوم والقاهرة، لتتشكل فى صورة مثلث ذهبى يتوهج فى الذاكرة، من وهج ميثاق طرابلس إلى ولادة المنتدى، خطا بخطواتٍ واثقة، مؤمنًا بأن الفكرة إذا نُسجت بعزمٍ صادق صارت قادرة على شق طريقها وسط العواصف، وأن الحلم إذا احتضنته الإرادة تحوّل إلى مؤسسة نابضة بالمعنى. هنا، عند مفترق السياسة والثقافة، عند التقاء الرسمى بالوجدانى، بدا المنتدى أشبه بميثاقٍ جديد يُكتب على إيقاع التواشيح والأهازيج الرمضانية، وكأن الفزانى أراد أن يعلن أن الأمم لا تُبنى بالقرارات وحدها، بل باللقاء والأنس والذاكرة المشتركة. لكن الرحلة لم تبلغ نهايتها بعد، فما زالت فى جعبة السفير فصول أشد درامية: من تأسيس جمعية رجال الأعمال المصرية – الليبية وما حفّ بها من ملابسات، إلى مواجهة الجسد المنهك حين باغتته الأزمة القلبية فى القاهرة، قبل أن ينتقل برسالته إلى دمشق، ثم يختبره القدر مرة أخرى فى عمان. هناك، بين الحياة والموت، سيُكتب المشهد الأخير لمسيرة رجل جمع بين إرادة الدبلوماسى ورهافة الإنسان. الخاتمة يمهّد الجزء الثالث الطريق للجزء الرابع والأخير، حيث تتجمع الخيوط المتناثرة فى لوحةٍ واحدة، تكتمل بها حكاية جمعة الفزانى: الدبلوماسى الذى جعل من اللقاء إبداعًا، ومن الحلم مؤسسة، ومن العمر القصير ذاكرة طويلة فى وجدان العروبة.