مقالات



الشخص الذى يحلق أكثر مما ينبغى

15-10-2025 | 01:04
مهدى مصطفى

وضعت حرب نتنياهو وليو شتراوس أوزارها مؤقتا، وانطفأت نيرانها على سطح الرماد، لكن جمرها يظل يتوهج فى الأعماق.
سقطت رهانات اللعبة كلها، ولم يبق سوى وهم يتصدع، يطوف فى رأس رجل ملتبس بالأساطير، يظن أن الخرافة يمكن أن تصنع دولة، وأن القوة وحدها كفيلة بترميم الأسطورة.
حاول الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أن يطمئن «المسألة اليهودية» فى خطابه أمام أعضاء الكنيست، لكن نشوة الشارع الإسرائيلى بعودة أسراه، ورقص الجنود المغادرين ساحة الحرب، كشفت أن الخداع انتهى، وأن الحقيقة خرجت من تحت الركام.
صمد الفلسطينيون فوق أراضيهم بكلفة إبادة كاملة، وسقطت الأقنعة عن وجوه ارتجفت، وأخرى انحازت إلى الجلاد باسم الضحية، لتتحول إلى بندقية مأجورة فى يد الاحتلال.
حلق بنيامين نتنياهو عاليا، كما لو أنه يستدعى ظل أبيه بنزيون نتنياهو، أحد دعاة الصهيونية التصحيحية التى أسسها زئيف جابوتنسكى، حاملا معه أشباح الفيلسوف الألمانى ليو شتراوس الذى بشر بفكرة «سلام القوة» و«الجدران الحديدية» لحماية المجتمع من أعدائه المفترضين.
وفى وقت فراغهم، فردوا خريطة العالم أمامهم، وتطلعوا إلى غرب آسيا العربية، منبت الديانات الإبراهيمية، فرأوها التربة الأم لخيالهم التوراتى الأعظم، ومسرح المعركة الأخيرة التى لا تنتهى.
ولهذا انتبه الإعلامى الأمريكى اليمينى تاكر كارلسون، والناشط الترامبى تشارلى كيرك (ما سمياه فى أكثر من بث تلفزيونى بـ «مخلب القط الإسرائيلى فى الداخل الأمريكى»، قبل أن يقتل كيرك لاحقا فى حادث ما زالت دوافعه غامضة.
فى علوه، تحدث نتنياهو أربع مرات أمام الكونجرس الأمريكي، متجاوزا ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا  الشهير الذى كان يحلم بإمبراطورية بريطانية تمتد من بحيرات أوغندا إلى المتوسط، تحظى بالشمس والماء والتاريخ.
رفع نتنياهو صوته داعيا إلى تحالف كونى ضد «الإرهاب»، مزاوجا بين لغة الحلفاء ولغة أعدائهم القدامى، فى مفارقة جعلت الغرب يصفق له من فرط الجهل أو التعامى.
استطاع أن يحشد أوروبا بخبرتها الاستعمارية القديمة، وأمريكا بقوتها العسكرية العظمى، لشن حرب على غزة، تلك التى فشل فى دخولها الإسكندر الأكبر، ونابليون بونابرت، وكل من أرادها تسقط فى البحر، كما كان يحلم إسحاق رابين الذى قال: «أحلم بأن أنام وأصحو فأجد غزة وقد سقطت فى البحر المتوسط».
الحروب لا تغيب عن ذاكرة العرب، فإسرائيل اجتاحت بيروت عامى 1978 و1982، واعتدت على المفاعلين النوويين فى العراق 1981 وسوريا 2007، وأسهمت فى تغذية الحرب العراقية الإيرانية 1980 - 1988، وغزو الكويت 1990، وعاصفة الصحراء 1991، وغزو العراق 2003، وأفغانستان بعد أحداث 2001 الغامضة، ومنذ أكتوبر 2023 دفعت المنطقة إلى استنزاف كامل، لتتحول “حرب الخرافة” إلى قدر أمريكى طويل.
وحين انفجر ما سمى بـ”الربيع العربي”، كانت الفوضى قد أنجزت آخر فصولها، واستخدمت التنظيمات ذات الخيوط المتشابكة بالمصالح الإسرائيلية لتدمير أوطانها من الداخل.
فى تلك اللحظة، طار نتنياهو أكثر مما ينبغى، أعلن عن “إسرائيل الكبرى”، إسرائيل التى لا تقود الشرق الأوسط فحسب، بل العالم كله، وحين صعد إلى منبر الأمم المتحدة، وجد نفسه يخطب فى قاعة شبه فارغة، بينما كانت الشوارع خلف القاعة التى يخطب فيها تضج بالهتاف ضده، كأن العالم يستعيد عقدة الاضطهاد القديمة، لكن هذه المرة ضد مشروعه ذى الظلال الخرافية.
وجاء خطاب دونالد ترامب فى الكنيست أشبه بعرض من ألعاب الخفة السياسية، وعدهم بالأمان، وذكرهم بأنه كسر المشروع النووى الإيرانى، وأمدهم بالسلاح والذخيرة والمعلومات، ونصرهم فى كل الجبهات، كأنه يقول لهم: انتهت اللعبة.
وفى شرم الشيخ، درة تاج سيناء وقدس أقداس مصر، كما وصفها جمال حمدان، حاول أن يعيد رسم الخريطة بغطاء «الاتفاقيات الإبراهيمية»، ليجعل من إسرائيل جزءا عضويا من المنطقة، ناسيا أن ألمانيا المقهورة فى فرساى بعد الحرب العظمى الأولى، هى نفسها التى أشعلت الحرب العظمى التالية.
الشخص الذى حلق أكثر مما ينبغى اكتشف أن جناحيه من ورق، سقط المشروع كله من عليائه، لأن العالم أدرك أن الحرب لا يمكن أن تستمر بفعل الأسطورة، وأن الشعوب لا تزرع فى أرض غيرها، وأن ما بين البحر والنهر وطن اسمه «فلسطين».
أما مصر، فقد اجتازت كل الاختبارات القاسية، وكتبت رسالة معكوسة إلى ليو شتراوس، وكل تلاميذه غير البررة.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام