مقالات



القاهرة.. الموقف والدور فى حرب غزة ومستقبل فلسطين

16-10-2025 | 22:02
نبيل عمرو

وزير الإعلام الفلسطينى السابق
منذ استيلاء حركة حماس على السلطة فى غزة، إثر الانشقاق العسكرى الذى قامت به فى يونيو 2007، نهض أمام مصر تحد جدى لامس حدود أمنها القومى، ذلك أن ما فعلته حماس لم يكن مجرد عمل داخلى قام به فريق فلسطينى ضد فريق آخر، بل كان انقلابا على مشروع سياسى إقليمى دولى، شارك العالم كله فى إنتاجه، وأساسه إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضى التى احتلت فى العام 67، ومعالجة المكونات الأساسية للقضية الفلسطينية، وعنوانها قضايا الوضع الدائم والنزاع العربى - الإسرائيلى.
 
كان سبق انسلاخ حماس، انقلاب قام به الثنائى أرئيل شارون وبنيامين نتنياهو، ووضع غزة وحكم حماس فيها تحت حصار خانق، كما وضع الضفة الغربية وإدارة السلطة تحت احتلال عسكري استيطاني جديد، وكأن الأوضاع فى الضفة وغزة، عادت إلى ما كانت عليه قبل مشروع السلام، بل تدهورت إلى ما هو أسوأ، لتشهد المنطقة حربا فلسطينية - إسرائيلية كانت الأشد ضراوة من كل الحروب التى سبقت.
 
غزة فوق الحصار الخانق الذى فُرض عليها تعرضت لعدة حروبٍ مدمرة، أمّا الضفة التى التزمت السلطة فيها بتنسيق أمنى مع إسرائيل فقد احتُلّت من جديد، وتحولت السلطة فيها من مشروع دولة إلى مشروعٍ أمنى صرف، تحدد إسرائيل أسقفه بما لا يُفضى إلى دولة.
 
بعد استيلاء حماس على السلطة فى غزة، نشأ وضعٌ لا تستطيع مصر تجاهله أو التراخى فى معالجته، وعملت على اتجاهين.. الأول مساعدة الفلسطينيين على استعادة وحدتهم، والثانى فك الحصار عن غزة واستخدام نفوذها لدى إسرائيل بوقف الحملات العسكرية المتواترة عليها.
فى واحدة منها اقتحم ما يربو على سبعمائة ألف غزّى، السياج الفاصل بين غزة ومصر، ولو لم تعد مصر هؤلاء جميعاً، ولم تسمح ببقاء ولو فرد واحد منهم على أرضها، لولدت فى مصر مخيمات جديدة، بينما هى تعمل بكل طاقاتها وعلاقاتها على قيام دولة فلسطينية على الأرض الفلسطينية.
 
فى تلك الحقبة التى سبقت حرب السابع من أكتوبر 2023، لم تكن مصر وسيطا فنيا بين حماس وإسرائيل، بل كانت طرفا فاعلا فى تطويق التصعيد العسكرى، الذى كان يصل فى معظم الحالات إلى توغل القوات الإسرائيلية فى قلب غزة، ناهيك عن الخسائر الفادحة فى الأرواح، والتدمير الواسع للبيوت والممتلكات.
كانت مصر تعالج هذه التطورات الخطرة من منطلق مسئولياتها تجاه أشقائها الفلسطينيين، وكذلك من خلال ما تراه من تهديد جديّ لأمنها القومى، الذى ليس غزة وحدها بل فلسطين كلها أحد مجالاته الحيوية والإستراتيجية.
 
لو سمّينا ما كانت تؤديه مصر، قبل حرب السابع من أكتوبر على أنه وساطة، فقد كانت تؤدى الدور وحدها، وكانت  الوساطة وسيلة تأثيرٍ فاعلة منعت من تطور الحملات العسكرية إلى حربٍ أوسع، أمّا ما كان مهما بل واستثنائى فى حالة إسرائيل غزة، فكانت بدايته بالعملية العسكرية التى قامت بها حماس، وتوغلت بها داخل مستوطنات الغلاف، تلك العملية هزّت أساسات الدولة العبرية، وأفقدت ثقة الجمهور الإسرائيلى بقدرات المؤسسة العسكرية والأمنية، وذلك لفداحة الخسائر البشرية التى وقعت فى ساعاتٍ معدودات، ولكثرة عدد الأسرى الذين تم اقتيادهم إلى غزة واحتجازهم فى أنفاقها.
 
التقط بنيامين نتنياهو، الذى كانت رئاسته للحكومة فى حالة احتضار يفضى إلى موتٍ حتمي، وذلك بفعل انقلابه على مؤسسة القضاء.. التقط الفرصة للعودة إلى الحياة والعمل من جديد، ليكون قائد حرب وصفت بالمصيرية أو الوجودية، ولتصطف إسرائيل كلها وراء قيادته، وحتى الإدارة الأمريكية التى قاطعته وفرضت حظرا عليه منعه من دخول البيت الأبيض، جاءت كلها إليه من رئيس الدولة بايدن إلى آخر مسئول فى منظومة الإدارة الأمريكية.
 
ولدت جراء هذا التطور، وساطة جديدة لوقف الحرب، تكونت من الولايات المتحدة ومصر وقطر، لم تكن وساطة تقليدية، بل كانت تشكيلاً ثلاثياً يؤدى مهمة بالغة التعقيد، فأمريكا لم تكن مالكة القدرة على لجم الاندفاعة الإسرائيلية، التى تطوّرت بالاجتياح البرى الواسع، وبرغم الممانعة الأمريكية له، وكان أوضح تصريح بذلك ما قاله وزير الدفاع الأمريكى أوستين، من أن إسرائيل قد تكسب تكتيكيا ولكنها ستخسر إستراتيجيا.
 
مصر حيال هذا التطور، وحيال التعقيدات الناجمة عن التباسات، وعجز إدارة بايدن فى الضغط الفاعل والحاسم على إسرائيل، وجدت نفسها أمام شبكة معقدة تشكلت من قوى عديدة، أوصلت حرب غزة إلى حافة حرب إقليمية تمتد من رفح إلى باب المندب، وإن لم تدخل إيران إلى المشهد الحربى مباشرة، فقد عملت إسرائيل على إدخالها ونجحت فى ذلك.
كانت إدارة بايدن تحتضر، ولا أمل لها فى كسب الانتخابات الرئاسية التى تأخرت السيدة كامالا هاريس كثيرا فى دخولها، لتفتح الأبواب واسعةً وسهلة لقدوم مظفر للرئيس ترمب إلى سدة البيت الأبيض.
 
كانت الأشهر الأولى من ولايته الثانية مختلفة كليا عن وعود حملته، فامتلأ البيت الأبيض بالمساعدين ذوى الميول المبالغ فيها فى الولاء لإسرائيل، وهذا كان بمثابة أقوى تشجيعٍ لنتنياهو كى يستمر فى الحرب، ويعمل كل ما باستطاعته لتدمير أية وساطة تهدف إلى وقفها.
 
كانت إدارة ترمب تغذى متطلبات حرب نتنياهو، التى لم تعد أمنيةً ولا مصيرية، بل حاجةً ضرورية لبقائه فى السلطة ولاحتمال التجديد لولايةٍ سابعة.
تعقّدت الأمور كثيراً أمام الوسطاء، ودورهم فى وقف الحرب، ورسم خطوط الأيام التالية عليها، بما فى ذلك حكم وإدارة غزة، وإعادة إعمارها، غير أن الدأب على مواصلة الدور ودقة التنسيق مع الأطراف الإقليمية والدولية، أثمر أخيراً لقاء البيت الأبيض، الذى تمخض عن مبادرة ترمب، وأنتج إنجاز المرحلة الأولى منها بنجاح، ما يُفترض أن يمهّد الطريق لنجاحٍ مماثلٍ بشأن المراحل التالية، وها هى مصر تستضيف العالم كله ليس للاحتفال بما حدث، بل لرسم خطوطٍ مستقبلية لما ينبغى أن يحدث.
 
مصر التى نتفق على أنها لم تكن وسيطاً محايداً فى الحرب، أنجزت مهام إستراتيجيةً كبرى أنقذت القضية الفلسطينية من التبدد والتصفية، وأول وأهم ما أُنجز، وقف مشروع التهجير من غزة إلى سيناء أو إلى أى مكانٍ آخر، وهذا هو الهدف الإسرائيلى المعلن للحرب على غزة، وفى مرحلةٍ ما كانت إدارة ترمب متفهمةً بل ومتبنيةً له، كما أن مصر ستكون المركز العملى للجهد الإقليمى والدولي، الذى سيبذل فى اليوم التالي، على صعيد حكم وإدارة غزة، ومشروع إعادة الإعمار، الذى أعدّت له خططاً يصعب تجاهلها من قبل أى طرف، وما هو أكثر أهمية من ذلك كله، أن مصر نجحت فى ربط اليوم التالى على توقف الحرب، بحتمية فتح مسار سياسى لحل القضية الفلسطينية من جذورها، وهذا ما سيكون أهم تحد قادم لمصر ولأشقائها العرب جميعا، وفى مقدمتهم المملكة العربية السعودية وتركيا، وجميع الدول التى اعترفت بالدولة الفلسطينية، والتى بمجموعها تشكل أكثر من تسعة أعشار دول العالم، ومصر ومن معها فى هذا الاتجاه جديرة بالنجاح.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام