مقالات



«لا ملوك فى أمريكا»

22-10-2025 | 00:02
مهدى مصطفى

شر البلية ما يضحك.
ها هو ساحر الثورات الملونة يظهر فى خمسين ولاية أمريكية، عدد الولايات التى تشكل الجمهورية القارة.
ملايين الناس يرفعون شعار «لا ملوك فى أمريكا»، يحملون لافتات تحمل صوراً مرسومة للرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، على هيئة «ملك الكوتشينة»، كأنما التاريخ نفسه يخرج من سجلاته الساخرة.
ساحر الثورات جورج سوروس، يا لها من لعبة قديمة بأقنعة جديدة، آت من ربيع براغ، ومن ربيع أوروبا الشرقية فى التسعينيات، ومن ربيع عربى لم يتوقف نزيفه بعد.
سوروس الذى تخصص فى تفكيك أوروبا الشيوعية والعالم الثالث، لم يكن يتحرك بسحر شخصى، إنما اعتمد على قوة أمريكية عميقة تمتد جذورها إلى الفيلسوف النمساوى - المجرى كارل بوبر، صاحب فكرة «المجتمع المفتوح وأعداؤه» التى تلقاها سوروس حين درس الفلسفة فى كلية لندن للاقتصاد، تحت إشراف بوبر.
ويا للمفارقة، البلد نفسه، بريطانيا، انهارت بنوكها فى التسعينيات بلعبة مالية من سوروس، حين راهن على انهيار الجنيه الإسترلينى عام 1992، وربح فى يوم واحد أكثر من مليار دولار، فأصبح يعرف بلقب «الرجل الذى كسر بنك إنجلترا».
رأيناه نحن هنا فى ميدان التحرير فى قلب القاهرة، ليس بشخصه، لكن بظله الممتد عبر أدبيات جين شارب، المنظر الأمريكى للعصيان المدنى، صاحب كتاب «من الديكتاتورية إلى الديمقراطية»، ورفيقه الفرنسى برنارد هنرى ليفى، الذى ظهر فى أكثر من ميدان عربى بحجة الدفاع عن «الحرية».
رحب بهم باراك أوباما، وهيلارى كلينتون، واصطفت معهم منظمات المجتمع المدنى، حتى وجد المتظاهرون أنفسهم يرفعون لافتات مكتوبة بلغات مختلفة، بعضهم لم يكن يعرف رموزها أو إلى ماذا ترمى.
 «لا ملوك فى أمريكا»
ذكرتنى تلك اللافتة، بما نسب إلى أحد فروع عائلة روتشيلد المالية، حين قال للسلطان العثمانى عبد الحميد الثانى، إن العالم سيأتى يوما لا يبقى فيه ملك يحكم إلا ملك إنجلترا، وأربعة ملوك «الكوتشينة»، وأن الطعام والملبس سيتوحدان فى كل بقاع الأرض، وستلغى الأزياء الوطنية والأطعمة الشعبية التى تمنح لكل بلد نكهته الخاصة، وهو واقع عالمى نعيشه عاما بعد عام.
طباخ السم يتذوق ما صنعت يداه. يقف سوروس الآن ظلا أو شبحا فى الهتافات الأمريكية ضد الرئيس ترامب، فالمتظاهرون يتهمونه بتحويل الجمهورية إلى ملكية، تلك الجمهورية نفسها التى حولت كثيرا من الممالك والسلطنات إلى جمهوريات.
ها هو خطاب «الحكومة العالمية»، يعود فى ثوب جديد، شعاره وحدة السوق والراية والعملة، وكأن العالم يتحرك نحو نسخة موحدة من الفكر والذوق والسياسة، بعد أن كاد ترامب يعزل أمريكا بشعار «أمريكا أولا»، وهو ما لا يروق لجماعة سوروس.
جماعة أوباما - سوروس - ليفى - شارب، وصلت إلى المقر الرئيسى للثورات، تريد أن تبدأ حياة جديدة عبر خلط الأوراق القديمة، لكن خبثاء التاريخ يقولون إن ترامب عبر الخط الأحمر، وإن الرجل القادم إلى البيت الأبيض هو جى .دى .فانس، يزور فلسطين المحتلة للمرة الأولى، ليرى بعينيه الدرس الأول فى المخزن الحقيقى للسياسة العالمية.
ذلك الريفى الأمريكى الذى شارك جنديا فى حرب العراق، وكتب سيرته الذاتية تحت عنوان «هيلبيلى إليجى»، وتزوج من زميلته الهندية، وصعد من عضو فى الكونجرس إلى منصب نائب الرئيس، ويتهيأ لأن يكون الرئيس المقبل، وكان من المفترض أن يرافقه الناشط اليمنى الموالى لترامب تشارلى كيرك قبل اغتياله الغامض فى جامعة يوتا.
زيارة فانس إلى إسرائيل جزء من إعداد كبير، فى الوقت نفسه الذى يستعد فيه ترامب للذهاب إلى المجر، لإنهاء ما يسميه البعض «الملف السلافى»، الروسى والأوكرانى، وهو الملف نفسه المتشابك مع جورج سوروس، الرجل الذى مول حركات المجتمع المدنى فى أوكرانيا وجورجيا وصربيا، ودعم ثورات الميادين ضد النفوذ الروسى منذ مطلع الألفية.
فهل ينجح سوروس هذه المرة فى أمريكا؟ وهل تصبح ثورته الملونة جزءا من عالم جديد، يعاد فيه إنتاج جمهوريات إلكترونية، تتحكم فيها ألوية الذكاء الاصطناعى، وتدار فيها المشاعر كما تدار الأسواق؟
وهل يعاد إثبات القاعدة القديمة أن الضغط على إسرائيل، أو من أجلها، كفيل بتغيير الثوابت واقتلاع الجذور؟
ربما لا نعرف الإجابة بدقة قبل زمن طويل.
غير أن شر البلية ما يضحك.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام