مقالات



مصر تجدد زمانها

29-10-2025 | 00:54
مهدى مصطفى

الأول من نوفمبر عام 2025، تشرق شمس العالم من هضبة الأهرامات، من أم الدنيا، من المتحف المصرى الكبير، يبدو المشهد كأنه انبعاث جديد من قلب التاريخ، عودة الذاكرة إلى الجسد، إعلان بأن مصر لا تزال قادرة على صناعة الجمال والمعرفة فى زمن ينهار فيه المعنى.
يقف العالم مذهولا أمام عظمة الحجر حين يستعيد الروح، وأمام أمة تعرف كيف تحول التراث إلى مستقبل حي، يربط الماضى بالحاضر فى لحظة واحدة.
طالما قفز المصريون خارج دائرة اللهب، استجابوا للتحدي، واجهوا العصور بما فيها من غزو وجفاف وفوضى، لم يتوقفوا عن التدبير ولا عن الحيلة، روضوا النهر، حرروا الأرض، استولدوا الحياة من الطمى والموت.
فى كل حقبة من اضطراب الزمان تجمعوا فى كتلة صلبة، أقاموا توازنهم الداخلى حين انهار العالم من حولهم، كأنهم يحملون فى جيناتهم سر النجاة القديمة، سر بقاء أول حضارة عرفها الإنسان، حضارة تتنفس من ضميرها، وتعيش على حكمة تراكمت عبر آلاف السنين.
منذ الهكسوس الذين أرهقوا البلاد بالحديد والنار، صبر المصريون طويلًا حتى طردوهم، خرجوا إلى الحرب بدافع البقاء، فالبقاء فى الوعى المصرى عبادة، والكرامة قدر، والنظام حياة. وحين انتصروا أعادوا تأسيس الدولة على الفكرة ذاتها التى لم تفارقهم يوما: لا خلاص إلا بالنظام، ولا بقاء إلا بالعدل والجهد والتدبير.
جاءت جيوش الفرس مع قمبيز ودارا، فقاتل المصريون، واحتملوا، وواجهوا الغزاة بالصلابة الصامتة التى تميزهم، كأن كل ذرة من رمالهم تعرف أنها شاهدة على امتحان متكرر، امتحان لا ينتهى.
تتغير الوجوه والرايات، وتبقى مصر كما هي، مركز الدائرة وقلب التاريخ، حين ينهار الشرق أو يجن الغرب، تظل على ثباتها الغامض، لا تسقط كما تسقط الأمم، تميل قليلًا لتعود أكثر توازنا، تعرف كيف تمتص الصدمة، وكيف تعيد صياغة نفسها فى صمت، كل حضارة تمر على أرضها تذوب فيها ثم تفقد لونها، لأن مصر لا تلبس هوية أحد، بل تمنح هوية لمن يمر بها.
فى العصور التى تبدو مظلمة تشتعل مصر من داخلها، تشعل النور فى الحجارة والنيل والتراب، تبتكر أشكالا جديدة للحياة حين تغيب كل حياة، هى الأمة التى علمت العالم معنى البقاء بالتنظيم، وامتلاك القوة، استلهام الحكمة، ومجابهة الغزو، وإتقان  الحرفة، وكراهية السيف المعادى.
من هنا ولدت الدولة المركزية الأولى، والنقش الأول، والضمير الأول الذى ميز بين العدل والظلم، وبين الخير والفوضى.
حين غزاها الإغريق ثم الرومان لم تفقد نفسها، صهرت الغازى فى طينها، علمته لغتها وفنها، وأدخلته فى منظومة أوسع من سلطانه.
جاءت المسيحية فاحتضنتها بروحها، ثم جاء الإسلام فوجد فيها أرضا تعرف معنى العدل والوحدة، فانبثقت من جديد أمة تجمع بين الروح والعقل، بين الطين والسماء، بين الفعل والحلم.
هكذا ظل وادى النيل يختبر نفسه فى مواجهة الزمان، لا يمل من التجربة ولا من الدرس، حتى صار البقاء نفسه فلسفة حياة، وعبقرية مصر ليست معجزة غامضة، إنما خلاصة تجربة متراكمة فى مواجهة العدم، قدرة على تحويل الانكسار إلى درس، والهزيمة إلى نصر، والكارثة إلى ترتيب جديد للحياة.
تلك العبقرية التى تستلهم النظام، وتكسر الفوضى، وترى النجاة فى الصبر، والمعنى فى العمل، هى الروح التى جعلت النيل شاهدا على أن كل من يمر فوق أرضها يتحول فى النهاية إلى جزء من طميها، وجزء من ذاكرتها التى لا تشيخ.
واليوم، حين تتعب الدنيا وتبهت خرائطها، تظل مصر تتنفس من تاريخها، وتستدعى قواها الخفية لتعيد ترتيب المدى، كأنها تحاور الزمن وتروضه كما روضت النهر قديما، لا تترك نفسها لليأس، ولا تترك العالم لجنونه، لأنها تعرف أن بقاءها ضرورة الوجود نفسه، فمن دونها يضيع الشرق، ومن دونها يفقد التاريخ ميزانه.
تلك هى عبقرية مصر، عبقرية البقاء والتجدد، عبقرية الأمة التى تعلمت من الموت كيف تحيا، ومن الطمى كيف تصنع الخلود.
 

جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام