رئيس مجلس الإدارة:
د.محمد فايز فرحات
رئيس التحرير:
جمال الكشكي
الخميس 13 نوفمبر 2025
نحن والعالم
حياة الناس
سوق ومال
فنون وفضائيات
مقالات
ثقافة
فجر الضمير
المزيد
وجوه عبر الزمن
رياضة
الملفات
أرشيف المجلة
أول الأسبوع
منوعات
Business Leaders
دائرة الحوار
نحن والعالم
«الهوس بمصر» تاريخ من الانبهار والخيال.. ماضى مصر مستقبل العالم
30-10-2025
|
16:56
مصطفى عبادة
فى أواخر القرن الثامن عشر ازداد الاهتمام الأوروبى بالثقافة الفرعونية بفضل سمعتها كمصدر للحكمة الباطنية
تجلّى الهوس بالحضارة المصرية فى تبنى الأشكال المعمارية المصرية فى المنازل الريفية والحدائق العامة فى أوروبا
الدافع الفلسفى لمعرفة المزيد عن مصر القديمة أكثر وضوحا فى فرنسا الثورية
سلسلة مجوهرات كارتييه مستوحاة من كنوز توت عنخ آمون
كان سحر مصر القديمة سلاحا قويا لمواجهة النفوذ الغربى فى القرنين العشرين والحادى والعشرين
فى جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية بنيت مبان وحدائق الحيوان على الطراز «الفرعونى الجديد»
مهما كان السبب فقد اقتنع العديد من الأوروبيين بأن البقايا المادية لمصر القديمة لا بد أنها تحمل أسرارًا تنتظر الكشف عنها
بدأ علماء المصريات الأمريكيون فى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر بالتوافد على مصر بهدف تزويد المتاحف الأمريكية بالآثار المصرية القديمة
حكمت ملكات مثل حتشبسوت ونفرتيتى وكليوباترا فما الذى وفر للنساء هذا النوع من الوصول إلى أعلى منصب سياسى؟
إنه ليس يوما للتاريخ، إنه يوم للجمال والتفرد والخلود، يوم للأجيال القادمة بامتداد المعمورة، وليس ذلك تزيدا على أحد، أو منَا على البشرية، أو حتى مجرد شيفونية، يلجأ البعض للتفاخر، لأنه بالفعل يوم للمستقبل، فماضى مصر هو مستقبل العالم، فحين كانت المرأة – مثلا – تستعبد فى حضارات أخرى، كانت فى مصر ملكة، وقد شهدت مصر وحدها فى العصور القديمة ست ملكات، حكمن وأضأن حين كان العالم ظلاما فكريا واجتماعيا، وهذا هو ما شهد به الآخرون، بل لعلنا نحن أصحاب الشأن آخر من يكلم عنه، ربما لأننا نعيش بين التاريخ، ومعه وفوقه، آمنين مطمئنين نعرف أن كل ما يطمح إليه غيرنا حققناه، وكل صراع يخوضونه لإثبات الذات جربناه وانتصرنا فيه، ببساطة وحكمة، نمضى وقد تركنا محاولة حل اللغز وفهمه، محاولة الحل والفهم، ونعرف أن التاريخ هناك يسخر وينتظر، ونظرة واحدة على ما يحاوله الآخرون، ستغرقنا فى بحر لا أول له ولا آخر، فقد مارست مصر سحرًا فريدًا منذ العصور القديمة، اعتبرها الإغريق والرومان حضارة أقدم بكثير، بدت آثارها وكتاباتها محيرة وساحرة فى آن واحد، بدت الثقافة المصرية وكأنها نشأت مكتملة، وتاريخها الممتد ألقى بظلاله الطويلة على القرون اللاحقة، ولا يزال محسوسًا حتى اليوم.
( 1 )
هذه الحياة الآخرة لمصر القديمة هى موضوع كتاب رونالد هـ. فريتز "هوس مصر" واسع النطاق. وهو أول المحاولات التى نقف أمامها فى محاولة الآخرين فهم مصر والهوس بها، حيث يرى "فريتز" أن الانبهار الحديث بالفراعنة، بدأ يتبلور منذ عصر النهضة فصاعدًا، مدفوعًا بالروعة، ورواج الفنون الزخرفية والعمارة الأثرية ذات الطابع "الشرقي" المميز، وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، أصبح الهوس بالآثار المصرية فرعًا من فروع الاستشراق.
يقدم فريتز تفسيرًا أوسع للموضوع، بالعودة إلى المؤرخ اليونانى هيرودوت، ثم إلى سيسيل ب. ديميل وتوت عنخ آمون، الذى تُزيّن نسخة من قناعه الجنائزى الذهبى غلاف الكتاب، يقول "فريتز": إنه قبل فك رموز الهيروغليفية على يد شامبليون وغيره من اللغويين فى عشرينيات القرن التاسع عشر، كانت حقيقة مصر القديمة بمثابة كتاب مغلق حرفيًا.
ويُذكرنا المؤلف بأن ما أثار إعجاب الفنانين اللاحقين وجمهورهم، لم يكن ما اعتبره علماء المصريات مهمًا، فهوس المصريات، الذى كان فى معظمه مُغذّيًا لذاته، غالبًا ما كان منفصلًا عن مصادره الأصلية، ويرى العلماء أن سيل الروايات والأفلام عن المومياوات ولعناتها، يرتبط بالذنب الغربى تجاه الإمبريالية، أكثر منه بالظواهر الخارقة للطبيعة، حتى القطع الأثرية التى استُخرجت من مقبرة توت عنخ آمون وسط ضجة إعلامية كبيرة بدءًا من عام ١٩٢٢، لم تُضف الكثير إلى معرفتنا بمصر القديمة، على الرغم من أنها كانت مسئولة عن أول معرض متنقل ضخم فى عالم المتاحف، والذى جال الغرب من عام ١٩٧٢ إلى عام ١٩٨١، يحتوى لكتاب أيضا على فصول شيقة عن الرحالة فى القرن التاسع عشر، عندما نزل الجميع، من غوستاف فلوبير إلى يوليسيس إس. غرانت، على نهر النيل،
والأهم من ذلك، أن ما ينقصه هنا، هو الإحساس بالغموض والجاذبية اللذين أديا إلى تصميم مقهى بيرانيزى المصرى، أو التجريد الهندسى لنصب بولى التذكارى الذى يُكرم نيوتن، أو ديكورات المسرح المهيبة، التى صممها كارل فريدريش شينكل لأوبرا "الناى السحري" لموتسارت، ومع ذلك، وبرغم أن معايير أكثر صرامة كانت ستُضفى على القضية طابعًا أكثر جاذبية، فإن كتاب "الهوس بالمصريات" يُوثق شغفًا راسخًا بموضوعه، استنادًا، كما يشير المؤلف، إلى "كونه مألوفًا ومريحًا وغريبًا بشكل مثير للاهتمام".
ينضم كتاب رونالد فريتز إلى سلسلة منشورات مُخصصة لسحر مصر القديمة، والتى تندرج تحت المصطلح الواسع "الهوس بالمصريات، يتميز الكتاب بحجمه الكبير ونطاقه الواسع، من الواضح أن المؤلف أكثر انسجامًا مع النصوص، ومن هنا يأتى تركيزه على المصادر الأدبية، بدلًا من التركيز على الثقافة البصرية والمادية الغنية (بنفس القدر) لهوس المصريات، وهو محور معظم الأعمال التى تتناول هذا الموضوع.
يتألف الكتاب من ١٢ فصلاً موزعة على جزأين. الجزء الأول بعنوان "هوس مصر عبر العصور"، ويتألف من ثمانية فصول مرتبة ترتيبًا زمنيًا. يبدأ بفصل عن "مصر الحقيقية"، يغطى الجوانب الأساسية - الجغرافيا والبيئة - يليه لمحة موجزة عن التاريخ المصرى، أما الفصل الثانى، بعنوان "هوس مصر القديمة: العبرانيون والفراعنة والأوبئة"، فيتناول الروايات العبرية عن مصر القديمة، بدءًا من أقدم إشارة توراتية فى سفر التكوين، ووصولًا إلى أعمال يوسيفوس.
الهوس المصرى الكلاسيكى - الهوس اليونانى والرومانى - ربما أقدم هوس مصرى "حقيقي"، هو موضوع الفصل الثالث، يحتوى على نظرة عامة أساسية على اللقاءات التاريخية بين اليونانيين والرومان ومصر، ويتبع مناقشة روايات المؤرخين والرحالة والكتاب اليونانيين والرومان (من هوميروس إلى هيرودوت وديودورس وسترابو إلى أميانوس مارسيلينوس، على سبيل المثال لا الحصر) قسم موجز عن مصر فى الأساطير اليونانية، لا يتم التعامل مع الهوس الرومانى بالمصريات بشكل منفصل، ويركز على الأوصاف النصية للآثار (التى غالبًا ما كانت مناطق جذب سياحى) وعلى تفسيراتها الخاطئة، بدلاً من الآثار نفسها، لا يتم النظر على الإطلاق فى الأشياء المصرية العديدة والمبتكرة، فى كثير من الأحيان والأشياء شبه المصرية، يتضمن الفصل الرابع، "الهوس المصرى فى العصور الوسطى: من القديس أوغسطين إلى عصر النهضة" ثلاثة أقسام رئيسية. "الإسلام والهوس المصرى" - المعنى بالتأويلات الخاطئة للعرب المسلمين، الذين زاروا مصر أو استقروا فيها - يعتمد إلى حد كبير على كتابات العلماء والرحالة والمؤرخين والجغرافيين المسلمين فى العصور الوسطى، ومن الأمثلة على ذلك نقاش بين 22 عالمًا حول ما إذا كانت الأهرامات قد بُنيت قبل الطوفان العظيم أم بعده؟ كما لخصه أبو جعفر الإدريسى (1173-1251) فى دراسة استقصائية، وبطبيعة الحال، استمر الانشغال بمصر كمكان لجوء للعائلة المقدسة أيضًا، ويتعلق الجزء الثالث بالتأثير الثقافى للفلسفة الهرمسية وبالتقاليد المحيطة بهرمس تريسميجيستوس، الذى تم تحديده لعدة قرون مع تحوت المصرى، إله الحكمة والمعرفة.
يتناول الفصل الخامس هوس المصريات من عصر النهضة إلى عصر التنوير. ويستمر الهوس بالتقليد التأويلى والاهتمام به، وكذلك الانشغال بالهيروغليفية وسوء فهمها، يبدأ الفصل السادس بحملة نابليون على مصر، وهو الحدث الذى أصبح حجر الأساس والسبب الرئيسى لظهور هوس المصريات الحديث، والذى تجسد فى عمليات جمع ونهب واسعة النطاق، هنا، تُناقش مسيرة جيوفانى باتيستا بيلزونى، وبرناردينو درويتى، وهنرى سولت، أما هوس المصريات فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فهو موضوع الفصل السابع، هنا نواجه الانبهار بغموض حفظ الجثث وهوس المومياوات، بما فى ذلك حفلات فك التغليف الشهيرة، لا شك أن هذه الاهتمامات مرتبطة بصعود السياحة الأوروبية والأمريكية، ويستند جزء كبير من السرد إلى روايات مسافرين مشهورين، مثل جوستاف فلوبير، وجون لويد ستيفنز، وهارييت مارتينو، وهيرمان ميلفيل، وإلبرت إيلى فارمان، الذى رافق الرئيس السابق يوليسيس جرانت، فى جولته على نهر النيل.
يتناول الفصل الثامن تداعيات اكتشاف هوارد كارتر لمقبرة توت عنخ آمون عام ١٩٢٢، وهو اكتشافٌ أشعل ما يُطلق عليه المؤلف "هوس توت عنخ آمون" وهوسٌ جماعيٌّ بالآثار المصرية، ومن نتائجه نشوءُ تقليدٍ مُتطوّرٍ لـ"لعنة المومياء" الخيالية والمُأثورة، مثّل "هوس توت عنخ آمون"، موجةً جديدةً وأكثرَ اتساعًا من هوس توت عنخ آمون بالآثار المصرية، طالت الموسيقى والعمارة والتصميم الداخلى والأزياء.
( 2 )
بلغ الذوق الرومانى فى اقتناء القطع المصرية، والمستوحاة من الحضارة المصرية ذروته فى عهد هادريان، الذى كانت رحلته عبر النيل عام 130 ميلاديًا إحدى أهم محطات حياته، زُيّنت حدائق فيلته فى تيفولى بمنحوتات فرعونية، ووُضع زوج من أسود الجرانيت، صُنع فى عهد أحد آخر الحكام المصريين الأصليين، فى البانثيون.
خلال عصر النهضة الأوروبية، لعبت الآثار المصرية والمصرية المنتشرة فى أنحاء المدينة الخالدة دورًا محوريًا فى إحياء الاهتمام العلمى بالحضارة الفرعونية، وفى وقت لاحق، خلال عصر التنوير، تمكن المسافرون فى الجولات الكبرى من تجربة شيء من إثارة مصر القديمة بشكل غير مباشر، دون مغادرة الأراضى الأوروبية الآمنة نسبيًا.
فى أواخر القرن الثامن عشر، ازداد الاهتمام الأوروبى بالثقافة الفرعونية، بفضل سمعتها كمصدر للحكمة الباطنى، تبنّت الماسونية بوعى الأيقونات المصرية (قارن، على سبيل المثال، صورة الهرم على ورقة الدولار الأمريكي)، بينما تزخر أوبرا موزارت "زيدة" و"الناى السحري" بالرمزية الفرعونية، كما تجلّى الهوس بالحضارة المصرية فى تبنى الأشكال المعمارية المصرية فى المنازل الريفية والحدائق. فإلى جانب جمالها الأخّاذ، دلت هذه الأشكال على أن صاحبها مفكر حرّ ومنفتح على الأفكار الجديدة والجذرية.
كان هذا الدافع الفلسفى لمعرفة المزيد عن مصر القديمة، أكثر وضوحًا فى فرنسا الثورية، التى اتخذ قادتها من روما القديمة نموذجًا، فى مذكراته بتاريخ 13 فبراير 1798، شرح وزير الخارجية الفرنسى تاليران تفكير حكومته، مؤكدًا أن "مصر كانت ولاية تابعة للجمهورية الرومانية؛ ويجب أن تصبح ولاية تابعة للجمهورية الفرنسية"، وهكذا مهدت الجغرافيا السياسية الطريق لأول حملة حديثة إلى مصر، بقيادة نابليون بونابرت عام 1798، كان هدفاها العسكرى والعلمى، بالإضافة إلى هدف سياسى رئيسي: المطالبة بالحضارة الفرعونية من أجل مجد فرنسا الأعظم.
كان الجنود الفرنسيون تحت قيادة نابليون، هم من اكتشفوا حجر رشيد عام 1799؛ وأخذت الحجر لبريطانيا عام 1801 عقب هزيمة نابليون فى معركة النيل، وقد شق الحجر، الذى يحمل نقشًا بثلاثة خطوط ولغتين، طريقه إلى المتحف البريطانى، حيث لعب دورًا رئيسيًا فى فك رموز الهيروغليفية، كانت المغامرة النابليونية كارثة عسكرية للفرنسيين، ولكنها كانت انتصارًا علميًا، لم يؤكد النشر السخى لنتائج الحملة الاستكشافية الهيمنة الثقافية الفرنسية فحسب، بل أشعل أيضًا موجة جديدة من الهوس بالآثار المصرية فى جميع أنحاء أوروبا، تبنى الذوق الرفيع بحماسة الزخارف المصرية، مع تماثيل أبو الهول الحجرية التى أقيمت على ضفاف نهر السين، والشخصيات الفرعونية المذهبة التى تزين أثاث نابليون على الطراز الإمبراطورى، وبالمثل، تم اعتماد التركيبات والتجهيزات المصرية للخيال الشرقى للأمير ريجنت، جناح برايتون.
فى الساحة السياسية أيضًا، سعت القوى الأوروبية العظمى، إلى تأكيد ادعاءاتها بالتفوق من خلال جمع مجموعات من الآثار المصرية، فى عام ١٨١٨، اقتنى المتحف البريطانى تمثالًا نصفيًا ضخمًا لرمسيس الثانى، أُطلق عليه اسم "ممنون الشاب"، ألهمت رحلته إلى لندن الشاعر شيلى لكتابة سونيتته "أوزيماندياس"، ولم يتأخر عنه متحف اللوفر، ففى عام ١٨٢١، اقتنى متحف اللوفر برج دندرة، وحظى بإشادة شعبية واسعة.
برغم أن الهوس بالحضارة المصرية القديمة قد خمد فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، فإنه لم يختف تمامًا، فقد استمرت آثار وادى النيل فى الانتقال إلى المدن الغربية، لا سيما "كليوباترا" إلى لندن ونيويورك، إلا أن هذه الآثار كانت فى معظمها تعبيرًا عن مكانة النخبة أو ادعاءاتها، أما ما دفع الثقافة المصرية القديمة إلى الخيال الشعبى بقوة، فكان اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون فى نوفمبر 1922.
كان اكتشاف مقبرة ملكية سليمة من العصر الذهبى للفراعنة، كافيًا لإثارة خيال العامة، بالإضافة إلى القصص التى نقلتها الصحافة، لإضفاء نكهة مميزة على تغطيتها (لا سيما قصة "لعنة الفراعنة")، كما مثّل هذا الاكتشاف دفعة قوية لصناعة السينما الناشئة، إذ رسّخ دور المومياء كشخصية رئيسية فى أفلام الرعب المبكرة.
استجابت البضائع والتذكارات المصرية، من جميع الأنواع التى يمكن تصورها للذوق العام وغذّته، كانت هناك قبعات توت عنخ آمون، وملابس مصرية، وأوانى بسكويت، وصور فوتوغرافية، ونسخ طبق الأصل من أشياء من المقبرة، من الأزياء الراقية - سلسلة من مجوهرات كارتييه مستوحاة من كنوز الفرعون - إلى الثقافة الشعبية - رقصة توت عنخ آمون الراغتايم - كانت مصر القديمة نكهة اليوم. حذت العمارة حذوها، وطوال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى، فى جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية، بُنيت مبانٍ تتراوح من دور السينما والحمامات العامة، إلى المصانع وحدائق الحيوان على الطراز "الفرعونى الجديد".
كان لمقبرة توت عنخ آمون تأثير عميق بنفس القدر على المصريين أنفسهم، بعد ثمانية أشهر فقط من إعلان استقلالهم، قدم الاكتشاف دليلاً على مجدهم الماضى وإلهامًا لمستقبل مشرق، اندفع الاهتمام بالماضى الفرعونى فجأة إلى التيار الرئيسى للفكر الثقافى والسياسى المصرى، تم إدخال تدريس التاريخ الفرعونى فى المدارس الحكومية، وتم تقديم برامج لتدريب علماء المصريات المصريين، وتم إضفاء الطابع المصرى بشكل مطرد على مصلحة الآثار والمتاحف - التى كانت لفترة طويلة معاقل للتأثير الغربي.
وهكذا، كان سحر مصر القديمة سلاحًا قويًا لمواجهة النفوذ الغربى فى القرنين العشرين والحادى والعشرين، كما كان سلاحًا لتعزيزه فى القرن التاسع عشر. وما زال الهوس بالآثار المصرية حيًا ومزدهرًا، تغذيه سلسلة من المعارض السياحية الضخمة لكنوز توت عنخ آمون.
( 3 )
عالم تحت الرمال.. حكايات من العصر الذهبى لعلم المصريات، وفيه يقدم المؤلف البريطانى توبى ويلكينسون، معرضًا لأوائل علماء المصريات، إذ لطالما كانت المواقع والآثار الباقية من مصر القديمة مصدرًا لسحر زوار مصر الأوروبيين وغيرهم، فهى أكثر إثارة للإعجاب من بقايا معظم الثقافات الأخرى، التى ازدهرت فى الشرق الأوسط أو حول البحر الأبيض المتوسط - فكر فى أهرامات الجيزة - ويبدو أنها تشغل مساحة مثيرة للاهتمام قريبة منا وبعيدة للغاية.
أحيانًا تظهر شخصيات من مصر القديمة من الضباب المحيط بها بتركيز حاد بشكل ملحوظ، ويبدو أن الصور الباقية لشخصيات مثل الفراعنة إخناتون وتوت عنخ آمون، تهرب من الأسلوب السائد فى الفن المصرى القديم، وكانت الحاكمة البطلمية كليوباترا شخصية مشهورة آسرة للكثيرين حتى فى العصور القديمة.
ومهما كان السبب، فقد اقتنع العديد من الأوروبيين، بأن البقايا المادية لمصر القديمة لا بد أنها تحمل أسرارًا تنتظر الكشف عنها، وربما تكون الصعوبات المادية وغيرها من الصعوبات المتعلقة باستخراجها جزءًا من جاذبيتها، كما يوضح الكاتب البريطانى توبى ويلكينسون، فى كتابه الجديد "عالم تحت الرمال: العصر الذهبى لعلم المصريات"، فبينما كان هناك دائمًا اهتمام قوى بين الأوروبيين بمصر القديمة، إلا أنه لم تصبح زيارة البلد الحديث اقتراحًا قابلاً للتطبيق، إلا منذ العقود الأولى من القرن التاسع عشر فصاعدًا.
اجتذب غموض مصر القديمة فى البداية عددًا ضئيلًا، ثم طوفانًا، من الزوار الأوروبيين إلى مصر، بعضهم يسعى وراء أحلام كشف الأسرار القديمة، وبعضهم الآخر انجذب إلى الثروات التى يمكن جنيها من اكتشاف الآثار وبيعها، وبعضهم ببساطة تخلى عن المهن التى لم تنطلق أو توقفت فى مكان آخر.
وكما يكشف ويلكنسون، كان النمط السائد، هو أن العديد من المغامرين الأوروبيين الذين توافدوا على مصر فى العقود الأولى من القرن التاسع عشر انسحبوا تدريجيًا من مصر، ليحل محلهم آخرون ذوو دوافع أكثر احترامًا، استُبدل الهواة بالمحترفين، وترسّخ علم المصريات كمجال دراسى تدريجيًا، أرست الاكتشافات المتتالية فى هذا المجال، والدراسة الدقيقة فى الوطن، معالم التاريخ المصرى القديم، بدءًا بالتسلسل الزمنى، ثم برسم صورة أكثر ثراءً للسياسة والمجتمع.
بحلول العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، ومع وضع الخطوط العريضة للتاريخ المصرى القديم جنبًا إلى جنب، مع الإجراءات الأثرية المناسبة فى الميدان، لم يتبق سوى مساحة ضئيلة للمغامرين الذين ازدهروا فى الفترة السابقة من الاستكشاف البطولى، عندما بدا أن كل عام يجلب بعض الاكتشافات الجديدة وحتى العديد من أكبر المعالم الأثرية، لا تزال قائمة دون مساس تحت الرمال، ومع ذلك، لا يزال هناك العديد من الحكايات التى يمكن سردها عن هؤلاء المغامرين الأوائل، وحتى المتخصصين فى أواخر القرن التاسع عشر، يمكن أن يكون لديهم جانب خاطئ.
من بين أوائل المغامرين من نوع علماء المصريات كان جيوفانى باتيستا بيلزونى، وهو فى الأصل رجل سيرك إيطالى قوى، انتهى به المطاف فى مصر بالمصادفة عام 1815، وقد تبناه المستكشف السويسرى يوهان لودفيج بوركهارت، الذى عاش فى القاهرة تحت اسم الشيخ إبراهيم بن عبد الله، وحول نفسه فى النهاية إلى رجل أعمال فى مجال علم المصريات، فى عام ١٨٢١، افتتح بلزونى "معرضًا لبعض اكتشافاته، إلى جانب نموذج مصغر لمقبرة سيتى الأول"، التى اكتُشفت على الضفة الغربية لنهر النيل فى الأقصر، "فى محيط القاعة المصرية فى بيكاديللي" بلندن، كما كتب ويلكنسون. "استقطب المعرض ١٩٠٠ زائر فى يومه الأول واستمر لمدة عام".
كما لم يتردد بعض الزوار اللاحقين، ممن اهتموا اهتمامًا أكاديميًا أصيلًا بالآثار المصرية القديمة، فى اتخاذ إجراءات صادمة، على سبيل المثال، يقول ويلكنسون إن الإنجليزى ريتشارد فايس، الذى وصل إلى مصر عام ١٨٣٥ فى مهمة لاستكشاف أهرامات الجيزة، "كان مصممًا على عدم ترك أى حجر دون أن يُقلبه"، وذلك بتفجيرها بالبارود، وعلى الرغم من هذه الأساليب الوحشية، "كان عمل فايس فى الأهرامات، أهم عمل أُنجز فى الجيزة خلال القرن التاسع عشر، وظلّ العمل الناتج عنه عملًا أساسيًا حتى القرن العشرين".
يصف هذا الجزء من كتاب ويلكنسون العديد من الاكتشافات المهمة، بالإضافة إلى أوصاف حزينة غالبًا للأضرار والخسائر الفادحة الناجمة عنه،ا. كانت مصر تُجرد من تراثها القديم حتى أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر، حيث اكتفت حكومة الحاكم المصرى آنذاك محمد على، بالتلاعب بفرد أو دولة فى خضم التنافس العام على الآثار.
يكتب ويلكنسون: "فى ربع القرن الذى أعقب الحملة النابليونية، شُحن التماثيل وتابوت سيتى الأول إلى لندن، ومسلة فيلة إلى كينجستون لاسى (فى إنجلترا)، وبرج دندرة إلى باريس"، "جُمعت كميات كبيرة من القطع الصغيرة بلا رحمة، ثم بيعت بربح طائل، من قِبل القناصل والمغامرين الأوروبيين."
كانت الخطوة المهمة التى يرصدها المؤلف، هى وصول علماء المصريات الألمان فى شكل بعثة ممولة من الحكومة البروسية، بقيادة كارل ريتشارد ليبسيوس فى عام 1842 والتى وصفها ويلكنسون بأنها: "أعظم وأفضل بعثة علمية مُجهزة إلى مصر على الإطلاق"، كانت المنافسة بين فرنسا وبريطانيا على الاكتشافات المصرية، لوضعها فى المتحف البريطانى فى لندن أو متحف اللوفر فى باريس سمة من سمات العقود السابقة، والآن دخلت بروسيا المعركة من أجل بناء مجموعات فى متاحف برلين.
فى هذه الأثناء، أصبحت مصر الحديثة أكثر شهرة، ولا سيما نتيجة لكتاب المستعرب البريطانى إدوارد لين " المصريون المحدثون .. عاداتهم وتقاليدهم"، الذى نُشر فى لندن عام 1836، وأصبحت القاهرة والإسكندرية، وجهتين سياحيتين مزدهرتين، يعلق ويلكنسون قائلاً: "ما كان مجتمعًا صغيرًا نسبيًا [من الأوروبيين المقيمين] يبلغ حوالى 3000 فى عام 1836 قد نما إلى عدد كبير من السكان بلغ 50000 بحلول نهاية أربعينيات القرن التاسع عشر"، "كانت البنية التحتية السياحية فى القاهرة، تخضع لشيء من التحول" لاستيعاب تدفق الزوار، حيث كان فندق أوتيل دورينت، أحد أوائل الفنادق فى سلسلة طويلة من الفنادق التى بلغت ذروتها فى فندق شيبرد الشهير فى ساحة الأوبرا فى وقت لاحق من القرن.
وفى وقت لاحق من القرن، قدّم عالما المصريات البريطانيان فلاندرز بيترى وإرنست بادج مساهمات مماثلة، حيث وضع بيترى تحديدًا معايير التنقيب الحديثة فى هذا المجال.
وعُيّن الفرنسى أوجست مارييت مديرًا لهيئة الآثار، بعد أن قررت حكومة الخديوى سعيد بذل المزيد من الجهود لحماية التراث القديم للبلاد، وبينما قد يتذمر علماء المصريات البريطانيون والألمان من احتكار الفرنسيين لتعيينات علماء الآثار، إلا أنهم استفادوا أيضًا من ترتيبات سمحت للبعثات الأجنبية بالاحتفاظ، بنصف أى اكتشافات وإيداع الباقى فى المتحف المصرى، تحت إشراف مديره الفرنسى جاستون ماسبيرو.
فى صدى للتدخل البروسى فى علم المصريات قبل نصف قرن، بدأ علماء المصريات الأمريكيون فى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر بالتوافد على مصر، أحيانًا بهدف تزويد المتاحف الأمريكية بالآثار المصرية القديمة، بالإضافة إلى المنافسين الجدد، على ما كان آنذاك آخذًا فى الانكماش، جلب الأمريكيون معهم المال أيضًا، كان تمويل الحفريات الأوروبية مشكلة لسنوات، حيث اضطر علماء المصريات البريطانيون تحديدًا إلى الاعتماد على أموال خاصة شحيحة.
سمح تمويل روكفلر للفرق الأمريكية ببدء التنقيب فى مصر، على سبيل المثال تحت رعاية معهد شيكاغو الشرقى وبيت شيكاغو التابع له فى الأقصر، الذى لا يزال قائمًا حتى اليوم، ولكن لا يزال من الممكن منح الأفراد حقوق التنقيب، إذا كانوا على استعداد لتغطية التكاليف بأنفسهم. وهكذا حصل الأرستقراطى البريطانى اللورد كارنارفون، أحد آخر الممولين الخاصين الكبار، على حق التنقيب فى وادى الملوك فى بحثه عن مقبرة الفرعون الشاب توت عنخ آمون.
رابط دائم
اضف تعليقك
الاسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
الاكثر قراءة
بعد خطاب زوجته للرئيس ترامب.. هل يصبح «مروان البرغوثى» رئيسًا لفلسطين؟
حضور دولى غير مسبوق فى افتتاح المتحف المصرى الكبير.. العالم يعزف لحنا واحدا
استثمارات وعائدات مالية وفرص عمل.. تحويل التراث الحضارى إلى مورد اقتصادى
اعلى
< li>
نحن والعالم
< li>
حياة الناس
< li>
سوق ومال
< li>
فنون وفضائيات
< li>
مقالات
< li>
ثقافة
< li>
فجر الضمير
< li>
وجوه عبر الزمن
< li>
رياضة
< li>
الملفات
< li>
أرشيف المجلة
< li>
أول الأسبوع
< li>
منوعات
< li>
Business Leaders
< li>
دائرة الحوار
جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام، ويحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام